يذكر المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد، رحمه الله، في كتابه التحليلي والنقدي المثير «منهجية القرآن المعرفية، أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية»، أن قانون الاستحواذ العضوي الحضاري الذي يمارسه الغرب اليوم جعل المنطق التراثي الماضوي غير قادر على المحافظة على أمة القرآن إلا من خلال الكشف عن عالمية القرآن ومنهجيته المعرفية، فقانون الاستحواذ العضوي الحضاري يستهدف الدين الإسلامي والقرآن الكريم بحكم التغاير بين العرب وأوربا، مما يستلزم الدفاع عن أطروحة (الإيمان) كمقولة فلسفية ووجودية، ليس من خلال برهانية العقل الفطري وبيانيته، وليس من خلال مقولاته الانتقائية، ولا من خلال مفاهيمه التجزيئية، باسترجاع حجج الكلاميين، وإنما من خلال الوعي بالطور الثالث الذي دخله العقل البشري.. طور المنهجية المعرفية بأفق عالمي، والقطع مع العقليتين الإحيائية والثنائية المتقابلة؛ فالوعي الإيماني، اليوم، يأخذ دلالته المعرفية والمنهجية من خلال تحديد العلاقة بالغيب كبعد مؤثر في الوجود وحركته. ويحصل الوعي المنهجي المعرفي بالبعد الغيبي بمعزل عن أخلاقيات العلاقة اللاهوتية مع الله والتي تشوهت في التراث الفكري الديني البشري، فالتصورات اللاهوتية التقليدية تستلب الإنسان والطبيعة وتماثل العبودية لله بالعبودية البشرية، من غير تمييز بين علاقة الله بالإنسان وموروث آلهة الألمب. إن الفكر الديني اليوم، بمضمون منهجي ومعرفي، يواجه معركة عالمية ضارية وزاحفة لا نستوعب منها إلا أشكالها الأولية؛ فالمناهج المعرفية المعاصرة المتولدة من العلوم الإنسانية، ومن علم الاجتماع على الخصوص، تنتقد التراث البشري بحدة وقسوة وتمزج بين مطلق الوحي القرآني وتاريخانية الفكر البشري الوضعي. ولا يمكن ضبط هذه الدراسات المعرفية، القاسية والمزودة بأحدث العتاد التحليلي وأكثره فعالية، إلا من خلال منهجية القرآن ومعرفيته المتعالية تاريخيا وعبر امتداد الزمان ومتغيرات المكان في كل الحقب، أي من خلال عالمية القرآن ومعرفيته المنهجية البديلة. إن الخطاب الإلهي في بدايته، من آدم إلى محمد، (عليهما السلام)، كان خطابا حصريا يقوم على الاصطفاء ويخاطب دوائر بشرية معينة، أي أن كل الرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم قبل محمد (ص)، وكذلك كل الرسالات، إنما توجهوا بخطاب إلهي حصري اصطفائي. وقد أوضح القرآن الكريم التسلسل الاصطفائي للدين في سورة البقرة. كما يتجه الخطاب الإلهي بعدها إلى الأمة الوسط، وهي المنطلقة، في نظر حاج حمد، من مكة التي يسميها «الأرض المحرمة»، حيث قبلة البشرية، والتي نسخت قبلة الأقصى، والتي يسميها «الأرض المقدسة». إن بعثة محمد (ص) هي علامة على ختم الخطاب الإلهي الحصري وبداية الخطاب العالمي للبشرية، فختم النبوة ليس توقيتا زمنيا وحسب، بل هو تقدير إلهي موضوعي. ويمتد الخطاب العالمي للقرآن الكريم امتدادا أفقيا يبدأ بالتخصيص العربي كنهاية للاصطفاء، وافتتاح للعالمية في الوقت نفسه، ويمتد إلى الأميين (وهم غير الكتابيين) وغير الأميين (تشمل الفترة الأمية استيعاب الكتابيين من النصارى واليهود). وبعد التدرج في الخطاب الإلهي العالمي يتجلى الخطاب العالمي بآيات الظهور الكلي للدين الإسلامي على الدين كله في سورة التوبة والفتح والصف. وارتبط هذا الظهور الكلي بالرفض المطلق للشرك، وبالمحاورة مع اليهود والنصارى. لقد انطلق الخطاب الإلهي العالمي في القرآن الكريم بشكل متدرج، إذ يشمل في البداية الأمة العربية وتحملها المسؤولية، «وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون»، ثم يشمل الشعوب غير الكتابية، ثم ينتهي بالظهور الكلي للدين على الدين كله في العالم. وإذا كانت النبوات السابقة قد ارتبطت بالأرض المقدسة، فإن ختم النبوة ارتبط بالأرض الحرام؛ أي أن الأرض المحرمة جمعت ختم النبوة وختم الكتب والخطاب العالمي، كما شهدت نهاية الاصطفاء الرأسي وبداية الاتساع الأفقي للبشرية كافة. وقد بذل أبو القاسم حاج حمد مجهودا تحليليا مضنيا لرصد خصائص الخطاب القرآني العالمي، متجاوزا عجز آليات القياس والاستدلال والاستقراء والرأي والاستصحاب والتحسين والمصالح وغيرها من الآليات التقليدية، باحثا عن المنهج المؤطر لهذا الخطاب؛ هذا المنهج هو (الهدى ودين الحق) الذي يعتبر مادة لمحاورة العالم، ف(الهدى ودين الحق) هو المنهجية المعرفية القرآنية المقابلة لتطور العقل البشري في مرحلة الظهور العالمي للدين. لقد استرجعَ القرآن الكريم، بمنهجيته المعرفية وبكونه مصدقا لكل الكتب وكل الرسل، خصائص النبوات السابقة ومفاهيمها، وردَّها إلى أصولها التوحيدية، بعدما تعرضت للتحريف في الأصول والعقائد وقصص الأنبياء وموضوعات الخلق والتكوين؛ فتصديق القرآن الكريم للكتب والنبوات السابقة ليس تصديقا عفويا بقدرما هو استرجاع توحيدي يضبط المفاهيم والمقولات ويقطع مع أشكال النقل العفوي للموروثات التوراتية التي تنتشر في تراثنا الديني إلى اليوم، فالقرآن الكريم كتاب كوني معادل للوجود وحركته ومهيمن على العلم، وليس كتابا في الأهلة ومراحل تكوين الجنين في رحم أمه. ويصطدم هذا التصور المنهجي والمعرفي للقرآن الكريم بعقليتين متناقضتين في الظاهر لكنهما متماثلتان في النهايات، أي في إغلاق إمكانية الامتداد في الزمن والمكان عبر حقول معرفية متعددة ومتنوعة على القرآن الكريم: العقلية الأولى هي (العقلية الوضعية) التي ترى تصورها متناقضا مع التصور الديني، بل يقوم تصورها هذا على إحداث (قطيعة علمية) مع موروثات الفكر البشري بما فيه القرآن، وبحثُ القرآن عندها لا يخرج عن سياق التطور التاريخي البشري لإنتاج الأفكار مقيدة بعصر التنزيل والتدوين؛ ويلتحم هذا التصور بالعقلية الثانية وهي (العقلية السلفية) المفتقرة إلى الضابط المنهي الناظم للأفكار. ويعني الضابطُ المنهجي القانونَ الفلسفي أو المبادئ الفلسفية الناظمة بتحديد واضح للأفكار، إذ المنهجية تقنين للفكر حتى لا يتحول إلى تأملات وخطرات انتقائية، لا تكون منهجية مهما كانت مهمة وعبقرية، فمنهجية الأفكار تعني تقنينها بالمنهج بشكل يماثل حالة توليد القوانين من الطبيعة. والمنهجية ترفض منطق التوفيق والتوسط، فهي قانون محدد لإنتاج الأفكار وليست نمطا للراحة العقلية يأخذ من الأمور أوسطها ويوفق بين المتعارضات بانتقائية كما نسمع باستمرار في أطروحة (الوسطية)، فالفكر الذي تتعدد مقولاته وتتضارب هو فكر غير منهجي ولو التزم في إنتاجه الذهني بإطار منهجي أعلى منه؛ لذلك افتقرت (العقلية السلفية) المنهجية بما هي خروج العقل من حالة التوليد الذاتي للمفاهيم إلى اكتشاف النسق المرجعي الذي يحاكم هذه المفاهيم نفسها ويؤطر إنتاجها، بحيث يحكم التطبيقات في مختلف الحقول الأخرى. إن المنهج هو خلاصة قوانين تحولت إلى نظريات تحولت بدورها إلى إطار مرجعي وليس مجرد صياغة موضوعية للتفكير. وإذا كانت المنهجية هي ناظمة المفاهيم والنظريات ومكيفة القوانين ومتدخلة حتى في صياغة الفرضيات، فإن (المعرفية) تعبر عن التطور في حقل ومضمون النشاط الذهني، وتستهدف الأخذ بالآفاق الواسعة لقدرات الثقافة العلمية المعاصرة وتوظيفها في إعادة اكتشاف وتحليل إشكاليات المجتمع والثقافة الإنسانية؛ ف(المعرفية) بميلها النقدي والعلمي تخاصم الإيديولوجيا، أو الفكر التاريخي الساكن، كما تخاصم الشمولية الماركسية؛ فهي تفكيك للنظم والمفاهيم ودلالات اللغة ووسائط الاتصال بين الذهن والعالم؛ إنها ترتبط دوما ببناء مشروع حضاري في إطار ثقافي عالمي معاصر من دون نزعة إيديولوجية. والعقل الإسلامي اليوم مطالب بالوعي بأزمة المأزق الحضاري العالمي ليكون قادرا على إعادة الصياغة الفلسفية للحضارة العالمية الجديدة، والمساهمة في تأسيس المجتمع الإنساني المتراحم.