ما حصل في معركة صفين، حسب تحليل المفكر الجزائري مالك بن نبي، أنها لم تكن معركة عرضية بل كارثة تاريخية عارمة وفالق في جسم الحضارة الإسلامية قادت إلى توقف المد الروحي في دفقة الحضارة. ينقل عن مؤرخ آخر مخطط الحضارة في ثلاث نقاط: وثبة الروح وسواء العقل وانحطاط الغريزة. عند نقطة صفين، يعتبر مالك بن نبي أن وثبة الروح توقفت. ما يحدث في سوريا تفتت وانهيار أخلاقي وبزوغ لعالم الغرائز من لدن الغوريلات وقرود البابون بالعض والهرس والذبح والخطف والاغتصاب.. كل غرائز الغابة البدائية اليوم موسمها الرائع الرائج. رأينا بعض الآثار من تعميق الشرخ السني الشيعي في مؤتمر دول عدم الانحياز بالكذب الإيراني بنخسة ونسخة سورية، حين بدلت كلمة الرئيس المصري مرسي كلمة سوريا فوضعت البحرين. حقيقة، يراجع الإنسان هذه المعضلة الأخلاقية عند قومٍ عمائمُهم أكبر من جبل فوجي وأئمتهم لا يزلُّون ولا يخطئون ثم هم يمارسون الكذب بطريقة وقحة وبدائية، وطفولية حتى. في القرآن عرض مستفيض لأمراض أهل الكتاب، منها مرضان خطيران بخلط الحق بالباطل أو النوع الآخر: فهم الحقيقة ثم تحريفها عن سابق عمد وتخطيط. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون. هذا ما يفعله ملالي إيران. ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (هنا الجناية ثلاثية: استيعاب الحقيقة وتحريفها بذكاء مع معرفة أنهم يفعلون ذلك تماما، فليس ثمة خطأ واجتهاد بل تصميم على التزوير). هكذا خرجت النسخة الإيرانية المزورة للحقيقة من ملالي، مظهرهم أنهم أئمة الله على الأرض فلا يكذبون. إنها السياسة الكذابة المنافقة، أليس كذلك؟ هناك أمر خطير آخر من التجليات السلبية للثورة السورية من الندبات والجروح الاجتماعية، فلن تبقى العلاقة قط بين السني والشيعي والسني والعلوي كما كانت من قبل بل ستبقى مثقلة بذاكرة تاريخية مؤلمة من القتل والسلب والاغتصاب والكراهية المتبادلة. ليس فقط مع العلويين بل مع شرائح كثيرة من المجتمع السني والفقهاء الفقعاء (تذكر البوطي والحسون وأضرابهم). أنا شخصيا، في عائلتي بدأت الشروخ، وهو نموذج لكثير من شرائح المجتمع السوري في هذا التحول الذي ربما لم تشهده سوريا منذ ألف عام (ضربة الميلينيوم). إنها شروخ وندبات مريعة لن يشفى منها الشعب السوري بسهولة ويسر. هناك أمر خطير آخر من هذا المخاض العسير أن بقية الشعوب العربية تكتشف بمرارة أن ثورة تونس كانت نزهة، وأن ثورة مصر كانت رحلة فسيخ موسمية (عادة المصريين لأكل السمك الفسيخ في الربيع ربما من أيام الفراعنة)، وأن تظاهرات اليمن لم تكلف عشر معشار الثورة السورية، أما في ليبيا فقد أراح الناتو الليبيين من المخاض السوري جزئيا. ولكن المجنون الليبي ونيرون السوري أوحيا إلى الشعوب العربية بأن باب الثورات دموي جدا جدا ومكلف جدا جدا وآثارها مؤلمة محطمة مدمرة، ولذا فهو درس لأي شعب عربي آخر، بل أي شعب في البسيطة، أن حذاري من الثورة فتصيبك النار السورية التي لن تبقي لك ثيابا وجلدا! وكفى بهذا من أثر مدمر. كذلك ستكون الآثار في أعظم بشاعة لها إذا تمت تسوية الثورة في الكواليس الخفية بين القيصر الروسي والرئيس الأمريكي، فيضحوا بالأسد المجنون مثل كبش أملح في يوم العيد؛ فيقتله من حوله بسكين الشبيحة وربما معه عائلته؛ فتفرح الجماهير بأنها حققت نصرها، وفي الحقيقة يبقى الجهاز الأمني الأخطبوطي كما هو. دعنا نأمل ألا تحدث هذه الكارثة فتضيع دماء الشهداء بأبخس الأثمان. إنه أمر قد يحدث وقد حدث في التاريخ. تأمل موت مليون جزائري لينتهوا بحكم الجنرالات القبيح. تذكروا موت ثمانين ألفا في إيران ليلتهم ملالي قم الثورة مثل أفعى الأناكوندا قردا غافلا، ثم لتكون ثورة الخميني مصيبة على رؤوس السوريين تدشن بأقبح الكذب في أعظم نادٍ عالمي. إن الجو النفسي حاليا في سوريا أقرب إلى الجنون، كراهيات فظيعة، تطرف لا يعرف الاعتدال أو السماع للآخر، عداوات متبادلة، بيوت مهدمة، بنات مغتصبات بحمل غير شرعي، أغنياء حرب من الشبيحة، جو من عدم الثقة، أصابع أجنبية كثيرة، دجالون من نوع عمران يتنبأ بحضور سريع للمهدي الدجال وهو الدجال. إنها أجواء خبيثة لا تنذر بالخير. في هذا الجو الجهنمي، تنمو طفيليات من أغنياء الحرب بنهب الجار الذي حسده فترة طويلة لجمال بيته وحسن مقتنياته من متاع وأثاث. إنها فرصة الآن لتدمير محتويات المنزل، بل وحرقها ونهب ما ثقل وزنه ورخص ثمنه، عكس قوانين الحرامية في بلاد العالم أجمعين. انفجار أقبح ما في النفس من غرائز الغابة، البدائية مناظرها، الذبح والسلخ بالسكاكين وفلق رؤوس الأطفال بالسواطير والبلطات. مع هذا، فالحرب -كما يقول هرقليطس- تحرك المياه، تنقل طبقات إلى القمة وتنزل بأخرى إلى مهاوي العبودية؛ فهل سوريا في طريقها كما سلك بنو إسرائيل الطريق مع موسى فعبر البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم أم إنها ستهلك كما هلك الألمان حين مشوا خلف هتلر وهم يهتفون هايل هايل هتلر!! فمنهم شقي وسعيد.. دعنا نتفاءل بالأفضل ونستعد للأسوأ. ينقل عن فيلسوف القوة نيتشه قوله إن التشاؤم علامة انحطاط والتفاؤل سطحية وسذاجة. التصرف الصحيح ولادة الأمة من رحم المعاناة. وهو هذا الذي يحدث حاليا. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.