ما يحدث حاليا في سوريا ثورة مسلحة وغير مسلحة، بجناحين من مظاهرات وقتال شوارع. الجو النفسي جدير بالتحليل لأثره المدمر أو الباني في المستقبل. هناك العديد من التجليات النفسية، سلبية وخطيرة. نجح الأسد الابن، حاليا، في جر الثورة من منطلقاتها الثلاثة إلى عكسها وضدها تماما. كانت الثورة تقول ثلاثا: لا للعنف والتسلح، فتسلحت وأصبحت لها أنياب وأظافر ومخالب. كانت الثورة تقول لا للطائفية، وحاليا المعركة نصفها طائفي، والعلويون لم ينفضوا أيديهم بعد من عائلة الأسد وهو موقف سيدفعون ثمنه في المستقبل. ليس كل الثوار متسامحين وعقلانيين. ليسة غريبة، إذن، تصريحات بني صهيون عن احتمال نزوح علوي إلى أراضيهم، أو قول الطفيلي، مؤسس حركة حزب الله، باحتمال تحالف صهيوني مع حزب الله بعد تدفق المقاتلين المتشددين من السنة. هناك العديد من الشرفاء والشريفات من العلويين والعلويات (سمر يزبك نموذجا)، ولكن الكتلة الضاربة من العلويين مازالت في صف النظام، إيجابا بالقتال في صفوفه أو سلبا بالصمت مع غالبية الصامتين وهم ليسوا علويين بالضرورة. كانت الثورة تقول إنها ضد التدخل الأجنبي، وهي حاليا تطالب بإلحاح بالتدخل الأجنبي بعد أن قفز الأسد الابن إلى مستوى القسوة المفرطة بدك المدن بالمدافع والطائرات. ما يجري حاليا في سوريا هو حرب أهلية بامتياز. والحرب تختصر بثلاث كلمات: جنون وإفلاس أخلاقي وجريمة. في الحياة العادية، إذا خدش جار سيارة جاره، اعتذر وتقدم بالتعويض. في الحرب، يقتل الإنسان أخاه الإنسان فلا يحاسب بل يكافأ ويعتبر بطلا قوميا. أكثر المجانين من جنرالات الحروب وضعت على صدورهم النياشين. في سوريا اعتُبر شفيق فياض، مثلا، بطلا لأنه ساهم في دعم نظام الأسد الأب في حلب في ثمانينيات القرن العشرين بإذلال الناس وإهانتهم وسلب أموالهم وكرامتهم وتمشيط كل مدينة حلب، بيتا بيتا، بما يعجز عنه أبالسة الجحيم. من أبرز المظاهر السلبية في الثورة السورية الحالية تجليات الكراهية؛ إذا تكلم لافروف أو المعلم أو الأسد الابن أو الزعبي أو خصومهم من رجالات المعارضة، لاذقاني غليون سيدا صبرا لبواني، فالحديث هنا يدور حول الحواف الحدية والكراهيات المتبادلة. نحن نعيش حاليا في وسط مشبع بالكراهية والأحقاد المتبادلة وتحييد العقل وروح السلام والتسامح والحلول الوسطية.. إننا نعيس وسطا غير صحي البتة. الحديث الآن للبارود والقوة والنار والعضلات وخناجر الشبيحة حتى يأذن الله بانقلاب الدورة على صورة ما. هناك الكلفة الباهظة للثورة السورية. إنها تذكرني بالجرّاح الذي يدخل في عملية جراحية بسيطة، فيحسب حسابه على أنها ستنتهي في نصف ساعة فتطول خمس ساعات مع نزف شديد ودماء غزيرة وأخذ المريض إلى العناية الفائقة المركزة (ICU). نحن هنا في سوريا، ليس ثمة مكان اسمه عناية فائقة، والمشافي الميدانية تقصف والأطباء يُقتلون والجرحى في المشافي العامة يُذبحون. إنه التجلي الأعظم للحقد المتبادل. يجب أن نعترف للأسد الأب وحاليا الابن بأنه فجر نوازع الشر وأخرج من بطون الناس أقذر ما فيها وفتح صندوق باندورا ففاحت الشرور، واعتمد الحل الأمني فلم ينجح بل قاد خصمه إلى نفس المنزلق.. إلى نفس العين الحمئة القذرة من القتل المتبادل. ماذا تتوقع من أناس تهبط بيوتهم فوق رؤوسهم وينكبون بقتل أحبابهم تحت قصف الطائرات. إنها مظاهر لا يرويها الأجداد عن حملة غورور الفرنسية ولا مذابح بني صهيون. سوريا تعيش كل يوم في مذبحة: درعا الصنمين الحولة القبير داريا، وعشرات عشرات المذابح. فقط تتحرك في الذاكرة مذابح المغول من العصور الوسطى في الوقت الذي نعيش فيه القرن الواحد والعشرين. الزمن لا يهم المهم العقلية.. هناك الكثير من البشر يعيشون الزمن، ولكن بعقلية متوقفة في مربع الزمن. لنتذكر الصرب ومذابحهم في البلقان.. إنهم يحيون ذكرى معركة أمسل فيلد تلك التي وقعت عام 1389م بين ملكهم لازار والملك العثماني مراد الرابع. وكلا الملكين قتلا في المعركة، فما أبأسها من ذكرى! كلفة الحرب في سوريا حاليا مخيفة. كثير من المحللين يرى أن هناك أيادي خفية من أطراف خفية حريصة على إطالة أمد الحرب وتفتيت سوريا، إن لم يكن جغرافيا بالتشتت ودول خرافية قزمة صغيرة للعلويين وأخرى للدروز وثالثة للأكراد ورابعة لا أدري لمن! المهم أن سوريا تخرج من هذه الحرب وهي نموذج المريض المصاب بالأنيميا، فهو يجرّ أقدامه جرا ويحتاج إلى فترة طويلة من أجل التعافي، وهي فترة يستريح فيها بنو صهيون أو هكذا يتخيلون بعد أن أعطاهم الأسد الأب استراحة أربعة عقود، فلماذا لا تسحب مع الابن أربعة أخرى ولو على أنقاض سوريا مزبلة ومقبرة ومهدمة. المهم بقاء عائلة السنوريات في سدة الحكم كما، قال البدوي قديما: يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة. الأسد أو نحرق البلد!! يبدو أن نجم دولة المخابرات الأسدية العلوية من بقايا دول الحشاشين والقرامطة ماض في الأفول، ولكن لن يبقى حجر على حجر. من أخطر ما يترتب عن الثورة السورية الحالية هو تعميق الشرخ السني الشيعي ولا نعرف إلى أي عمق في الفالق يصل. الفوالق الجغرافية يمكن أن تكون بنماذج ثقافية خطيرة. من هذه النماذج من الفوالق الأرضية هناك صراع البوسنة، حيث بدأ التصدع من عام 389 م حين تم اقتسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية بين أونوريوس وأركاديوس. وعند هذا الصدع التاريخي، نشأت العقائد من أرثوذوكس وكاثوليك. وحين دخل الأتراك البلقان مل فريق من الصرب هذا الصراع، فاعتنق الإسلام ودفع ثمن هذا الخطأ التاريخي دماء لا تنتهي حتى اليوم.