الأكيد أن جماعة العدل والإحسان، لم تخرج إلى حدود اليوم، من عباءة الشيخ الذي توفي في شهر دجنبر من السنة الماضية، ليس لأن مريدي الجماعة لا يزالون يؤمنون ببركة عبد السلام ياسين، بل لأن»المنهاج» الذي رسمه ياسين أول مرة لا يزال ساري المفعول في القلوب كما في العقول. بيد أن استمرار فكر الشيخ في التغلغل داخل مفاصل الجماعة المتمنعة على السلطة لا يوازيه نفس الانسجام بين ابنته نادية ياسين وقياداتها السياسية ومجلس إرشادها وخاصة مع ناطقها الرسمي فتح الله أرسلان. لقد بدا التباعد وسوء الفهم الكبير بين نادية ياسين والجماعة، منذ رحيل عبد السلام ياسين، الذي كان يشكل سندا قويا لها رغم كل الخلافات القوية التي كانت قائمة بينها وبين أعضاء من داخل مجلس الإرشاد، إذ لم يكن بمقدور أحد أن يتجرأ على انتقاد ابنة «الزعيم الروحي». ولئن كانت قيادات من جماعة العدل والإحسان نفت غير مرة الأخبار التي ترشح من مصادر مختلفة حول وجود صراع متعدد الجبهات بينها وبين نادية ياسين، فإن الناجز هو أن الأخيرة بعثت رسائل واضحة ولا تحتمل أكثر من تأويل عندما اختارت أن تتوارى عن الأضواء في كل المحطات المفصلية التي عرفتها الجماعة بعد موت والدها مباشرة. الصراعات التي كانت مشتعلة بين نادية وقياديين في العدل والإحسان وصل مداها لما أبعد محمد البشيري من الجماعة، وهو الذي كان واحدا من رموزها. لقد فهم، وقتئذ أن الانتقادات الحادة التي وجهها البشيري إلى نادية ياسين بشأن خرجاتها الإعلامية غير المحسوبة، هي التي كانت وراء إبعاده من تسيير دواليب الجماعة ثم إن قياديين آخرين من غير البشيري عبروا غير ما مرة عن استيائهم من الخرجات الإعلامية المتكررة لابنة الشيخ عبد السلام ياسين، لاسيما تلك المتعلقة بانتقادها لحزب العدالة والتنمية. من الواضح أن سبب كل الخلاف الذي انتصب بين نادية ياسين من جهة وبين قيادات من داخل الجماعة من جهة أخرى سببه الأساس هو المواقف التي عبرت عنها ياسين في مختلف القضايا، حيث إن التوجه العام لدى الجماعة يقوم على تقوية مؤسسة»الناطق الرسمي»، الذي يعتبر في أدبياتها، لسان حالها والمعبر عن مواقفها السياسية والدعوية، بمعنى ليس من المسموح بتاتا أن تنفلت آراء تتناقض مع التوجه العام للجماعة، لاسيما من قيادييها البارزين. حسب بعض المتتبعين، فإن نادية ياسين خرقت هذه القاعدة، وأصبحت في وقت من الأوقات بمثابة الناطق الإعلامي الوحيد باسم الجماعة، بالرغم من أنها كانت تصرح في كل خرجاتها الإعلامية أن المواقف التي تعبر عنها تلزمها شخصيا ولا علاقة لها بالخط السياسي الذي ارتضته الجماعة لنفسها. مع ذلك، نما الصراع، بشكل خفي، وبدأت لعبة المواقع تتضح معالمها بين نادية من جهة وبين قياديين آخرين من جهة أخرى. اتقد الصراع الخفي بين الطرفين وسرعان ما خرج إلى الوجود خاصة بعد رحيل عبد السلام ياسين. في البدء سارت الأمور بشكل عادي، حتى لاحظ الجميع غياب ابنة المرشد، التي كانت إلى وقت قريب، إحدى أقوى القيادات. صحيح أن جماعة العدل والإحسان نفت وجود أي خلاف مهما تكن طبيعته لكن غياب نادية ياسين ومعها زوجها عبد الله الشيباني، عضو الدائرة السياسية للجماعة، عن الندوة الصحافية التي نظمتها الجماعة طرح أكثر من علامة استفهام حول الخلافات الطافية على السطح. لم يجد وقتها الشيباني، الذي شرع في «لعبة» بعث الرسائل إلى أكثر من جهة، غير التذرع بأنه كان منشغلا بتلقي التعازي في وفاة الشيخ. من جهة أخرى، يقول بعض المتتبعين إن القيادة الجديدة للجماعة، حاولت بشتى السبل أن «تقضم» بعضا من قوة نادية ياسين، وفي هذا السياق بالذات أتت خطوة إلحاق فرع»الأخوات الزائرات»، الذي كان قد اقترحه الشيخ عبد السلام ياسين، وتولت مهامه كريمته باستقلالية مالية وتنظيمية. ربما يمكن أن نفهم، على نحو ما، لم اختفت نادية ياسين عن الأجهزة التنظيمية طوال المدة التي تلت رحيل والدها. أنى تكن التحليلات، فإن عبد السلام ياسين، كان يشكل ضابط إيقاع الجماعة ومحافظا على وحدتها، باعتباره، قبل كل شيء أبا روحيا لها ومنظرا دعويا وسياسيا، وزعيما التف حوله الجميع رغم اختلافهم الشديد مع ابنته نادية ياسين، مما يؤكد أن رحيله اتخذ صبغة المنعطف الحاسم في تاريخ الجماعة وفتح فصولا كانت مستترة من الصراع بين نادية ياسين وتيارها وبين قيادات في الحزب كانت، حسب المتتبعين، تخشى من أن يكبر نفوذها وسط الجماعة. من هذا المنطلق، يمكن القول إن الصراع الدائر منذ رحيل عبد السلام ياسين في السنة الماضية، يمكن أن يتخذ أبعادا أخرى أكثر قوة وشراسة لربح لعبة المواقع في أقوى جماعة بالمغرب، مع العلم أنه ليس ثمة تخوفات في الأفق من حدوث انشقاق في صفوفها، لشيء بسيط جدا، وهو أن الدعوي يغلب على السياسي، وفوق ذلك، لا يمكن أن تهدي الجماعة للدولة فرصة مثل هذه للتسرب إلى جماعة ظلت متمنعة لعقود. في كل الجماعات الإسلامية، كان هناك دائما صراع زعامات، حدث ذلك في مصر وفي باكستان وفي الأردن، لكن كان في الغالب يدار في الكواليس، وبطريقة ناعمة، وفي حالة العدل والإحسان، التي ما تزال تعاني من الحظر، فإن الأمر سيبقى حبيس الدوائر الصغيرة سيرا على «المنهاج النبوي» الذي أسسه ياسين نفسه.