كنا في الرابعة إعدادي، وكان الأربعاء أسوأ أيام الأسبوع، لأنه يبدأ بساعتيْ «فيزياء» تليهما ساعتان من «العلوم الطبيعية»، ما يجعلنا نقضي النهار في حجرة تفوح منها رائحة الكلور والكحول وأزرق البروموتيمول... كأننا في المستشفى. مستشفى الأمراض العقلية، لأن أنابيب الاختبار معطوبة والعتاد مهترئ و»التجارب» فاشلة، وعليك أن تمضي عطلة نهاية الأسبوع تفتش عن الحشرات أو تصطاد الضفادع بتكليف من الأستاذ... قمة الجنون! أقسام الفيزياء والعلوم الطبيعية كانت معزولة عن بقية الفصول، والحصص تشبه جلسات تعذيب في معتقل سري. وعندما يأتي رمضان تتضاعف المأساة: أربع ساعات في «المعتقل» دون أكل أو شرب! كنا نحلم بأن ننام الثلاثاء ونكتشف أننا أفقنا الخميس، كي لا نقضي أربع ساعات في المختبر السخيف، لكن زمن المعجزات ولى إلى الأبد، وعلينا أن نواجه الواقع بعيدا عن الأحلام والخوارق. كنا أربعة أصدقاء لا نفترق، مشاغبين محترفين. في اليوم الأول من رمضان، عقدنا اجتماعا طارئا بنقطة واحدة على جدول الأعمال: كيف نتخلص من صباح الأربعاء؟ اقترح كريم أن نتغيب بشكل جماعي. تحمسنا للفكرة في البداية، قبل أن نكتشف أن الإدارة ستبلغ آباءنا ونضيف إلى معاناتنا في الإعدادية محنة أخرى في البيت. قال حسن، دون أن نعرف إن كان جادا أو مازحا: «ما رأيكم لو اغتلنا أستاذ الفيزياء؟»، الفكرة مغرية بصراحة لكننا لا نملك ما يكفي من شجاعة لإدخالها حيز التنفيذ. فجأة، رفع رشيد سبابته وهو يصرخ: «وجدتها، وجدتها»... اقتنعنا في النهاية بأن نأتي ليلة الثلاثاء ونحطم أقفال الأبواب المؤدية إلى أقسام العلوم، بشكل يجعل المفتاح لا يدور فيها صباح الأربعاء. الفكرة جهنمية! اتفقنا على التسلل إلى الإعدادية تحت جنح الظلام كي ننفذ الخطة. بعد أن ملأنا بطوننا ب»الحريرة» و»الشباكية»، التقينا في المسجد كأي «مجاهدين واعدين»، صلينا التراويح وطلبنا من الله أن يساعدنا. كانت الإعدادية تقع خارج المدينة، بمنطقة غارقة في الظلام، لذلك حملنا معنا بطاريات يدوية ومطرقة و»كمشة» مسامير. تسلقنا الجدار وتوجهنا بحذر إلى فصل العلوم، مثل لصوص. حسن تطوع لإتلاف الأقفال. كان طرق المسامير يحدث دويا هائلا بسبب فراغ المكان، كلما سمعنا طرقة التفتنا حوالينا كي نتأكد من أن الحارس لم ينتبه للصوت. فجأة، صرخ رشيد: «حبس بلاّتي، بلاّتي»... كان يشير إلى مصباح يضيئنا بشكل فاضح، «لو خرج الحارس سيتعرف علينا بسهولة»، ردد بغضب قبل أن ينقض على حجر ويهم بكسر المصباح، غير أننا منعناه بحزم، بنْيتُه الضئيلة لم تسمح له بأن يقاوم طويلا بعد أن طوقناه نحن الثلاثة وجردناه من الحجر. طلب منا كريم أن ننتظر، ثم خلع «الجاكيت» وتسلق الحائط وغطى بها المصباح، قبل أن ينزل مزهوا بإنجازه الذي جعلنا غير مرئيين. وبينما كان حسن يهم باستئناف الطرق على ضوء بطارية يدوية، شممنا رائحة غريبة: من يشوي الذرة في هذه الساعة المتأخرة؟ رفعنا أعيننا نفتش عن مصدر الرائحة، ورأينا دخانا ينبعث من «جاكيت» كريم: لقد شبت النيران في «النيلون». سحبنا «الجاكيت» بسرعة ورميناها أرضا، ثم شرعنا نضربها بأقدامنا كي يتوقف الدخان. كادت دموع كريم تنزل من شدة التأثر، بينما رشيد يغالب قهقهاته الشامتة. واسيْتُ كريم في مصابه الجلل، واستأنف حسن دق المسامير، تحت نور المصباح الذي التهم «الجاكيت»، محاولا أن تكون الدقات خفيفة ما أمكن. فجأة، اشتعل نور بيت الحارس ورأينا الباب يفتح، أطلقنا سيقاننا للريح. لاحقنا العساس وهو يصرخ بكلمات لم أتبين منها إلا: «اولاد لحرام»... صعدنا الحائط هاربين، وركضنا في الظلام ونحن نلعن من فكر في بناء الإعدادية بهذا المكان المهجور. سمعنا كلابا تنبح، صوتها كان قريبا ومرعبا إلى درجة حولتنا إلى عدائين أولمبيين، وفيما نحن نجري في اتجاه الضوء، شاهدنا غبارا يتصاعد دون أن نعرف السبب. بعد أن أصبحنا في أمان، بعيدا عن الحارس والكلاب، توقفنا كي نلتقط أنفاسنا، فتشنا عن كريم ولم نجده. حين رأينا شبحا يجرجر خطواته في اتجاهنا وهو يمسح ثيابه، فهمنا أن الغبار المتصاعد كان بسبب سقوطه في حفرة! تعالت قهقهاتنا على كريم، الذي لم يفارقه النحس طوال السهرة، حتى عندما ذهبنا كي نلعب «الرامي» خسر كل الجولات وتبلل سرواله بعد أن سقطت عليه صينية الشاي! أكلنا حلويات رمضانية في بيت حسن، وانصرفنا إلى بيوتنا في ساعة متأخرة. في الصباح، حين وصلنا إلى الإعدادية وجدناها في حالة طوارئ. بعض الزملاء لم يستطيعوا إخفاء فرحتهم وهم يزفون لنا استحالة الدخول إلى أقسام «العلوم الطبيعية» و»الفيزياء»، لأن أقفالها تعرضت للإتلاف بشكل متعمد. نجحت الخطة وأعفينا من الدراسة، ووجهت أصابع الاتهام إلى تلاميذ «الداخلية» المساكين.