الحلقات التي ننشرها أسفله يكتبها الصادق العثماني، مدير الشؤون الإسلامية باتحاد المؤسسات الإسلامية بالبرازيل، حول تاريخ وبدايات الإسلام في أمريكا اللاتينية، وهي تنقلنا إلى الجذور الأولى للإسلام في بلدان القارة الأمريكية، وبدايات هجرة المسلمين إليها، والتعدد الثقافي والديني بها. وقد وقع الاختيار على هذه الحلقات، نظرا لقلة ما يعرفه القراء عن الإسلام في أمريكا اللاتينية، لذلك فهي رحلة في الماضي والحاضر من خلال عدسة ملاحظ معايش. تقع جمهورية ترينيداد وتوباكو في أقصى جنوب سلسلة جزر البحر الكاريبي على بعد 11 كيلومترا من ساحل أمريكاالجنوبية؛ تحدها من الشرق مياه المحيط الأطلنتي، ومن الغرب جمهورية فنزويلا، ومن الجنوب غويانا وسورينام.. وهي على شكل جزيرتين أصبحتا في 1887م كيانا واحدا، مساحته 5128 كيلومترا مربعا، سكان الجمهورية أغلبهم من أصول إفريقية وهندية؛ استقلت الجزيرتان عن بريطانيا في 1962م وكونتا جمهورية، ولا تزال حكومتها على نفس النمط الإنجليزي. وقد دخل الإسلام إلى «ترينيداد توباكو» وجزر البحر الكاريبي بعامة عن طريق الأفارقة الذين جلبهم المستعمر كعبيد للعمل في المستعمرات الإسبانية والإنجليزية والفرنسية.. وهناك بعض الباحثين والدارسين يؤكدون بأن دخول الإسلام إلى «ترينيداد توباكو» سبق اكتشافها عام 1533م؛ حيث قام مسلمون من غرب القارة الإفريقية برحلات مبكرة عبر بحر الظلمات-المحيط الأطلنتي- لاكتشاف العالم الجديد..وقد عثر الإسبان هناك على العديد من الآثار الإسلامية المتمثلة في المساجد التي عثر بداخلها على مكتبات تضم المصاحف القرآنية الشريفة وبعض كتب الفقه الإسلامي على المذهب المالكي المنتشر في شمال القارة الإفريقية وغربها ..إلا أن الوجود الإسلامي الفعلي كان مع بداية استجلاب العبيد الإفارقة، فقد كانوا يباعون في المزاد العلني في دول أمريكا اللاتينية من أجل استخدامهم في مزارع السكر، وقد كان محرم عليهم ممارسة شعائرهم الدينية؛ سوى الشعائر المسيحية، وبمرور الزمن أزيل الإسلام تماما من حياتهم اليومية، وغرس فيهم وفي ذريتهم وفي الأجيال التي أتت من بعدهم مبادئ الدين المسيحي، وعندما ألغت الإمبراطورية البريطانية نظام الرق «العبيد» في سنة 1838م أحجم الأفارقة عن العمل في مزارع السكر، فجاءت موجة عمالة من الهند بداية من سنة 1844حتى سنة1912، تعاقدوا معهم للعمل في الزراعة والفلاحة، وخصوصا في مزارع قصب السكر؛ كان أغلب هؤلاء العمال هندوس ومسلمين ..لكن للأسف نجح الكنديون في إرسال بعثات تبشيرية لترينيداد بغية تنصير المسلمين والهندوس، ونجحوا في مهماتهم، ويمثل المسلمون اليوم نسبة 30% من السكان، والوضع السياسي مستقر كنظام ديمقراطي جمهوري، ولكل مواطن مسلم أو غير مسلم الحق في العمل السياسي وممارسة عقيدته الدينية سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية، وبهذه الحرية الدينية التي يكفلها دستور البلد، وبمرور السنوات استطاع المسلمون تقلد مواقع هامة في مؤسسات الدولة؛ فمنهم من تولى حقيبة وزارية، ومنهم من وصل إلى البرلمان، ومنهم من تقلد مهمة ناطق رسمي باسم الجمعية التشريعية (المجلس الاستشاري)، ولا عجب في هذا إذا علمنا أن منصب رئيس جمهورية ترينيداد وتوباكو كان قد تقلده مسلم سنة 1990م؛ حسب ما جاء في تقرير عن المسلمين في ترينيداد للأستاذ «منتازعلي» مندوب الجمعية الإسلامية في ترينيداد بتاريخ 1992م. وفي الحقيقة إن المسلمين في ترينيداد وتوباكو يعتبرون نموذجا ناجحا في جميع الميادين مقارنة بغيرهم في دول أمريكا اللاتينية، ويشكلون قوة اقتصادية لا يستهان بها في عالم المال والأعمال، كما يعملون في مجالات عديدة ومتنوعة كالطب والقانون والتدريس والخدمة المدنية.. وعلى المستوى الاجتماعي والتعايش الإنساني يعيش السكان في وئام برغم اختلاف أديانهم وأعراقهم وجنسياتهم، وألوانهم، وهناك حرية عبادة تامة ويكفلها القانون بنص قانون الدستور؛ ولهذا يوجد لدى المسلمين في ترينيداد أكثر من 150 مسجدا ومصلى، ورغم أنهم بدؤوا متأخرين في العمل الدعوي والتعليمي والتربوي إلا أنهم لحقوا بباقي طبقات المجتمع في جميع مجالات التعليم، علما بأن التعليم في البلاد إلزامي حتى المرحلة المتوسطة قبل الثانوي، ولهذا يوجد أبناء المسلمين في كافة مرافق التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، وينتشر أغلب المسلمين في جزيرة ترينيداد في المدن الرئيسية ك: «بورت أوف سبين» العاصمة و«سان فرناندو» و«سان جوان» و»سان جوزيف» و«سانت كلاين» «وكانوبيا».. وأغلبهم يقطنون في جنوب ترينيداد، وقد ظهرت أول جمعية إسلامية معترف بها من قبل السلطات الرسمية في جزيرة ترينيداد وتوباكو سنة 1923م وهي جمعية كانت تسمى ب»جمعية تقوية الإسلام «، لكن تسلل إليها بعض الأفراد من المنظمات القديانية فأفسدوها وزرعوا وسط أعضائها بذور الخلاف، مما أدى بها إلى الجمود والشلل، وقام بعض المسلمين بعد فشل هذا المولود الجديد بتأسيس جمعية أخرى سموها « جمعية أهل السنة والجماعة» سنة 1935م وانضم إليها أعظم المسلمين بترينيداد؛ لكن عداء الحركة القديانية للمسلمين في هذه البلاد جعلها تقوم بتأسيس منظمة مستقلة لهم سموها «رابطة المسلمين» وهدفها الأساسي هو زرع بذور الخلاف وسط المسلمين وتشويه صورة الإسلام في هذه الجمهورية. واستمرت مسيرة العمل الدعوي والإسلامي بمجهودات فردية لبعض المسلمين الهنود والأفارقة، حتى قام بزيارة إلى ترينيداد وتوباكو العالم الباكستاني الدكتور»فضل الرحمن الأنصار» رئيس الاتحاد العالمي للتبشير الإسلامي في باكستان سنة 1960م؛ حيث قام بنشاطات دعوية مهمة في أغلب المدن، من إلقاء محاضرات وندوات ولقاءات ودروس ومواعظ، وسط التجمعات الإسلامية، فشحن همم المسلمين وحثهم على تنظيم أنفسهم، ونشر الإسلام في هذه البلاد وفي كافة جزر البحر الكاريبي عامة، فاستجاب لدعوته الكثير من رجال المال والأعمال فقاموا بتأسيس جمعية «التبشير الإسلامي» وهكذا كان الانطلاق في نشر نور الإسلام في هذه الجزر ودول البحر الكاريبي. ومن أنشط الهيئات الإسلامية في ترينيداد «هيئة جماعة السنة» وتتبع لها عدة مدارس وإعداديات وثانويات ومساجد.. ولقد أفلح العالم الهندي المرحوم «مولانا ناظر أحمد»، الذي هاجر إلى هذه البلاد في إنشاء «هيئة التكافل الإسلامية» وهي الأولى في ترينيداد، وقد قام بإنشاء أول مدرسة إسلامية، ثم مدارس أخرى من بعد ذلك، ولقد أسهم في إبراز تلاميذ وطلبة أصبحوا فيما بعد قيادات إسلامية، إلا أن جهود الجمعية الدعوي الآن خمد وفتر..! وهناك «هيئة جماعة المسلمين» هذه الجماعة حركية وفاعلة جدا بقيادة الإمام «يس أبو بكر»وهو من أصل إفريقي، لهم بعض المدارس والمساجد وإسهام كبير في العمل الاجتماعي والإنساني، فمعدل نشاط هؤلاء يساوي أكثر مما تقوم به الهيئات الأخرى مجتمعة، وذلك لجديتهم ومواساتهم للفقراء والمساكين واليتامى والمحرومين في طول البلاد وعرضها؛ لكن حتى لا ننسى فهناك جمعية الدعاة المسلمين، وجمعية الوقف الإسلامي لدفن موتى المسلمين، فهما تقومان بمجهود لا بأس به في نشر الدعوة وكسب الأنصار من الملل الأخرى. وجدير بالذكر أن المسلمين في ترينيداد في طريقهم إلى إقامة جمهورية إسلامية، بحيث يعلن يوميا من أتباع الديانات الأخرى اعتناقهم الإسلام، وقد أعلنت في السنوات الماضية «ماديل دافيد» وزيرة الشؤون الاجتماعية والمحليات في ترينيداد اعتناقها الإسلام، وأطلقت على نفسها اسم «فاطمة الزهراء داود» وانضمت إلى صفوف الداعيات المسلمات لتوعية المرأة المسلمة بأحكام دينها الإسلامي، وقد زارت هذه الوزيرة الأزهر الشريف بالجمهورية المصرية. الصادق العثماني