أسامة الزكاري ازداد -مجددا- النقاش استعارا حول قضايا الذاكرة المشتركة لمغاربة الزمن الراهن، ليطفو على السطح مخلفا الكثير من الارتدادات ومن الدوائر اللامتناهية للتأويل وللقراءة وللتأمل. وقد ارتبطت هذه العودة بصدور الجزء الأول من مذكرات السيد المحجوبي أحرضان عند مطلع السنة الجارية (2014)، في محاولة للتوثيق لمجمل التقلبات الحياتية التي طبعت مسار هذه الشخصية، سواء داخل الإدارة الفرنسية خلال عهد الاستعمار أو تحت الظلال الوارفة لمؤسسة المخزن بعد حصول البلاد على استقلالها السياسي. وبما أن الأمر قد حمل الكثير من عناصر التدافع المواقفي، ومن مقومات الاستغلال الوظيفي للسياقات وللوقائع، ومن نزوعات فاقعة نحو تطويع حقل الكتابة التاريخية للاستجابة لنهم الذات الباحثة عن الشرعيات المفتقدة وعن البطولات الوهمية، فقد أضحى لزاما التوقف لتوضيح جملة من المنطلقات النظرية والتطبيقية في "درس التاريخ" المرتبطة بحدود التقاطع أو التباعد بين عطاء الذاكرة الجماعية من جهة أولى، وبين صرامة استثمار مخزون الذاكرة التاريخية من جهة ثانية. لا يتعلق الأمر بأي نزوع نحو تقييم مضامين مذكرات المحجوبي أحرضان، ولا بأي توجه نحو استثمار أحكامها مع / أو ضد هذا الموقف أو ذاك، أو في إطار الصراع ضد هذا الطرف أو ذاك، بقدرما هو محاولة للعودة التأملية الهادئة قصد تنظيم شروط الاشتغال على خصوبة الذاكرة المشتركة لمغاربة عقود القرنين ال20 وال21. ويبدو أن "درس التاريخ"، بما راكمه من تحولات هائلة ومن طفرات هائلة في مناهجه وفي رؤاه، قد أضحى قادرا على التأصيل لشروط التعاطي الواعي والرصين مع "سيل المذكرات" التي أضحت تحفل بها الساحة الوطنية راهنا، وذلك في إطار رؤى تركيبية تتجاوز إكراهات المرحلة ونزوعاتها التمويهية ومتعددة الأغراض والمرامي، الظاهرة منها والباطنة. إنها رؤية من الداخل تسائل رصيد المنجز في مجال السير - الذاتية الخطية للأفراد وللجماعات، بالتحرر من كل السلط ومن كل الالتباسات الظرفية والنزوعات الذاتية، وفق منطلقات لا ولاء لها إلا لحقائق البحث العلمي ولأدواته الإجرائية المعروفة في البحث وفي التنقيب وفي التوثيق وفي التحليل وفي الاستخلاص. تتوزع أهم هذه الملاحظات -في نظرنا المتواضع- على الشكل التالي: أولا، لا شك أن الرواية الشفوية والمذكرات الاسترجاعية تظل من بين العناصر الأساسية في الدراسة التاريخية التخصصية، بالنظر إلى ما توفره من إمكانات هائلة للتوثيق للكثير من جزئيات الواقع المادي والرمزي، والتي تنفلت من بين مضامين المتون الكلاسيكية المدونة. ولقد دأب المؤرخون -دائما- على استثمار عطاء هذا المصدر الهام في الكتابة، من زاوية تشخيص قراءة السارد للأحداث من موقعه كفاعل مباشر فيها؛ بمعنى أن الرواية الشفوية تظل رواية "منفردة" من بين روايات متعددة حول قضايا محددة في زمانها وفي مكانها. لذلك، فإن تشريحها وتحليلها وإبراز تناقضاتها أو عناصر قوتها تشكل مفاتيح لا غنى للمؤرخ عنها، شرط إخضاع المادة للتحليل المقارن الصارم وللنقد التاريخي التفكيكي الذي لا يتمايل مع الأهواء ولا يتفاعل مع المواقف ولا ينزاح نحو الاصطفافات المواقفية والسلوكية. وعلى أساس هذا التصور، أضحت الكثير من المذكرات الشخصية تكتسي قيمة كبرى في توفير شروط الاستئناس في قراءة المصادر والوثائق المادية الدفينة، إلى جانب قيمتها الأكيدة في التوثيق للتراث الرمزي المشترك الذي ينتجه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية طويلة المدى؛ ثانيا، لا شك أن حصيلة المنجز الوطني في مجال مذكرات الزمن الراهن تظل من التنوع ومن الثراء بحيث تسمح بإجراء التقييمات الضرورية والتصنيفات المناسبة. في هذا الإطار، أمكن التمييز بين نوعين من الشهادات، أولاهما كتبها فاعلون في المجال السياسي وفي ساحة النضال الوطني، تأطيرا وقيادة وتنظيما وتنظيرا، مثلما هو الحال مع كتابات محمد بن الحسن الوزاني وأحمد معنينو وأبي بكر القادري وعبد الهادي بوطالب ومحمد بنسعيد أيت إيدر ومحمد الفقيه البصري...، وثانيتهما عبارة عن كتابات تمتح مادتها من هامش المسؤولية النضالية أو الحزبية أو المدنية، وهي -في الكثير من الحالات- عبارة عن استقراءات لواقع لم تساهم هذه النخب في الفعل فيه ولا في التأثير في مساراته، بل وربما كان لها دور سلبي بمعاكسة تيار المشاريع الوطنية التحررية لعقود القرن ال20، والأمثلة على ذلك كثيرة ودالة. وسواء بالنسبة إلى النوع الأول أو بالنسبة إلى النوع الثاني من هذه المذكرات، تبرز الذات كمحور للفعل وللمبادرة، بتبخيس أداء "الآخر الوطني" بأساليب شتى ولأهداف فاقعة؛ ثالثا، على أساس ذلك، تبدو هذه الروايات كاستيهامات لواقع افتراضي، يلجأ له أصحابه لإخفاء انتكاساتهم، أو لتبرير فشلهم، أو للتغطية على تآمرهم على سجل النضال الوطني التحرري. والمثير في الأمر أن أصحاب هذا النوع من المذكرات لا يجدون حرجا في اختلاق الأحداث وفي توزيع الاتهامات بالجملة ضد الفاعلين الرئيسيين، ولسان حالهم يقول: "كلنا في الخيانة سواء.. وكلنا في الجبن والخسة إخوة". ولن يعدم الباحث المتخصص إيجاد نماذج من هذه الكتابات التي أضحت تطغى -بضجيجها المفتعل- على ساحة تلقي المعرفة بتاريخ النضال الوطني التحرري. والمثير في الأمر أن الكثير من أصحاب هذه المذكرات يتجرأ على تجاوز مستوى كتابة "تاريخه" الشخصي إلى كتابة التاريخ الوطني العام، إذ لا يجد حرجا في تزكية هذا وفي تخوين ذاك، كما لا يجد أي عائق أمام إطلاق الأحكام "الكبرى" استنادا إلى روايات ضعيفة، غالبا ما يتحول أصحابها إلى محدثي حلقات الشعبوية النرجسية والمتمركزة حول يقينياتها وحول فتوحاتها الدونكشوتية. ولعل هذا ما جعل مؤرخي المغرب المعاصر يُعرضون -في الغالب الأعم- عن استثمار هذه المذكرات وعن الأخذ بها، جاعلين إياها خلف أظهرهم بعد أن تبينت لهم سقطاتها اللامتناهية ونزوعاتها الوظيفية الفاقعة. وبدون أن أحدد أسماء لبعض النماذج من هذه الكتابات، أكتفي بالتأكيد على أن للأمر استثناءاته، عكستها أعمال رجال الوطنية الصادقة، ممن ظلوا يصرون على أن ما يكتبونه إنما هو -في نهاية المطاف- خلاصة قراءة شخصية لوقائع معينة، تسندها وثائق مادية وقرائن ثابتة. أقول هذا الكلام وأنا أتحاشى ذكر الأسماء حتى لا أتهم بمحاباة هذا أو ذاك؛ وفي المقابل، أستحضر هذه النماذج وأنا أفكر في مذكرات عالمية كان لها صيتها الواسع لدى مؤرخي الأمس واليوم، مثلما هو الحال -على سبيل المثال لا الحصر- مع مذكرات الجنرال شارل ديغول أو مع مذكرات الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران... رابعا، إذا كان الطابع النزوعي والتآمري لمذكرات المحجوبي أحرضان يطفح من بين السطور، فالمؤكد -ومن زاوية التأويل العلمي التاريخي- أن للأمر قيمته غير المتنازع حولها، من خلال الأسئلة التي تثيرها القراءة التشريحية للمتن. تتمثل القيمة الحقيقية لمثل هذه المذكرات في تلك البياضات التي سكت عنها صاحب المذكرات، والتي تخفي وراءها ما تخفيه. لذلك، فإن القراءة الفاحصة لا تهتم بأساليب الإثارة المرتبطة بالتهجم على الأحياء والأموات، وباختلاق البطولات، وبافتعال المواقف، بقدر ما تطرح الأسئلة المغيبة حول أسباب هذه الانحرافات، وحول أسباب سكوت صاحب المذكرات عن مقاربة قضايا محورية في تاريخ المغرب المعاصر، وكان شاهدا عليها، أو لنقل متفرجا على تمظهراتها. لذلك، فالبحث التاريخي أصبح ينحو أكثر فأكثر نحو استنطاق المسكوت عنه من بياضات المتن، مما لا تكون لأصحاب المذكرات الشجاعة الكافية للخوض في غمار التوثيق لتفاصيله، لأسباب متعددة تتداخل فيها منطلقات الخنوع مع مهاوي الإفلاس في تجربة يراد لها أن تكتب وفق قوالب مطلوبة لتبرير انزياحات الزمن الراهن. وقبل ذلك، فالموقف الموضوعي يقتضي الانتقال من القراءة التي تشكك في النوايا وفي مضامين السرد وفي الانحرافات الطارئة وفي الاتهامات المسترسلة، إلى طرح الأسئلة التشريحية حول الهدف من وراء هذا السيل من التزييف والافتراء؛ فمقاربة هذا الموضوع، ستكشف -لا محالة- ثوابت النوايا التآمرية أو التبخيسية في مثل هذا النوع من الكتابات الهادفة إلى إخفاء أوجه التقصير الذاتي في الأداء وفي الموقف. وقد اشتغلت الكثير من الكتابات التاريخية العلمية على مثل هذا النوع من الانزياحات في أعمال تحليلية، ساهمت في إعادة تقييم رصيد الرواية الشفوية وطرق توظيفها في الكتابة التاريخية المتخصصة، من ابن خلدون إلى عبد العزيز الفشتالي، ومن الناصري إلى ابن زيدان، ثم -أساسا- من عبد الكريم الخطيب إلى المحجوبي أحرضان... وبعد، فلا شك أن استحضار هذه الأبعاد في القراءة التاريخية العلمية المفترضة لمذكرات الزمن الراهن، سيعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي. ولا شك أن "درس التاريخ" سيبقى سيفا مسلطا على كل النزوعات الوظيفية التي تستهين بالمقومات العلمية للذاكرة التاريخية للمرحلة، باعتبارها استثمارا أصيلا لعطاء الذاكرة الجماعية لمغاربة النضال التحرري، ثم النضال من أجل ترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة والمساواة والكرامة خلال العقود المديدة لزماننا الراهن.