على خلاف ما سبق أن رصدناه في جريدة «السعادة» من مواقف داعمة للموقف الرسمي حول قضية اعتقال ومحاكمة شيخ الطريقة الدرقاوية الشريف أحمد بن الصديق الغماري، اتجهت الصحافة الوطنية إلى تبني مواقف رافضة ومشككة في التهم المنسوبة للشيخ الدرقاوي، إذ خصصت جريدة «الرأي العام» مقالات انصبت في مجملها على ذيول الحدث وتصدت بالتحليل والنقد لملابساته وتداعياته، ووصفت محاكمة الشيخ الدرقاوي بالمحاكمة التاريخية. وفي هذا الصدد، نشرت «الرأي العام» خبر رفع «السلطة الاسبانية إلى المندوبية الشريفة وإلى مجلس المراقبة الدولية بطنجة مذكرة احتجاج تتضمن طلب الحكومة الاسبانية تسليم الشيخ ابن الصديق الدرقاوي لها وذلك بصفته، في نظرها، مسؤولا عن هذه القلاقل والاضطرابات في بعض الأماكن، ومما استندت عليه الحكومة في تبرير طلبها الاعترافات التي أخذتها من أصحاب ابن الصديق الذين ألقي عليهم القبض داخل المنطقة، والذين شاركوا في حركة السلاح والهجوم الناتج عنها، ولكن الإدارة بطنجة امتنعت عن تسليم ابن الصديق للسلطة الإسبانية، ثم أذاعت بلاغا تعلن فيه فتحها لبحث وتحقيق في القضية، وفعلا توجه كوميسار البوليس البلجيكي ولفيف من أعوانه إلى تطوان وتولوا هناك القيام بالبحث والاستنطاق، وعند رجوعهم ألقي القبض على السيد أحمد بوصوف، صهر الشيخ ابن الصديق وسبعة من أصحابه، ثم جعل البوليس الدولي شبه حراسة على باب الزاوية الدرقاوية ومنزل الشيخ ابن الصديق»، وأضافت لسان حزب الشورى الاستقلال أن عملية التفتيش طالت الزاوية الصديقية، ودار الشيخ ابن الصديق، فحفرت أماكن ورد ذكرها في استنطاق تطوان، ولكنهم لم يعثروا على شيء»، وفندت إشاعات إقدام الشرطة الدولية على اعتقال الشيخ الدرقاوي، وأكدت على أن هذا الأخير «لما كثرت حوادث الاعتقالات بطنجة، ذهب الشيخ بنفسه إلى إدارة البوليس، وصرح بأنه يتحمل وحده كل المسؤوليات التي من أجلها ألقي القبض على أولئك الأشخاص»، وأشادت الصحيفة نفسها بمواقف وشجاعة الشيخ أثناء استنطاقه، حيث كان صريحا إلى أبعد حدود الصراحة في اعترافاته وأنه جرى على لسانه ذكر شخصيات إسبانية مسؤولة». وأحاطت «الرأي العام» إحاطة شاملة بأطوار المحاكمة التي وصفتها ب»المحاكمة التاريخية لشيخ الطريقة الصديقية وعدد من أتباعه بتهمة إحراز السلاح والتآمر على نظام المنطقة الخليفية «، وأوردت تفاصيل أخرى لم تنشرها صحف أخرى، همت بالخصوص مرافعات محاميي الشريف الدرقاوي التي حاكما فيها النظام السائد بالمنطقة الإسبانية على أساس أنه نظام «يضغط على الأبرياء، ويدفعهم للبحث عن ملجأ يفرون إليه، وإن هذا النظام لا يكتفي بعقاب الأحياء، بل يتابع الأموات أيضا بصفة لا تمت للروح الإنسانية بسبب، فيحرم على الجثة الهامدة أن تقبر في مسقط رأسها». هذا النظام لمن شأنه أن يثير ويحرض ومن الممكن أن يزكي موقف الشريف، وليس من حق القضاء حماية هذا النظام، بل الواجب أن يضع مسؤولية الاختلال به على المتكبر المتعجرف الذي أسسه. وانفردت الرأي العام بتفاصيل دقيقة عن تصريحات الشيخ الدرقاوي أثناء جلسات الاستنطاق، إذ اعترف بالتهم المنسوبة إليه، وبرأ ساحة أتباعه المتهمين في قضية تهريب الأسلحة، واعترف كذلك بأن الأسلحة التي كانت بحوزته، وإن الغاية من توزيعها على أتباعه «لا للقيام بثورة في المنطقة الخليفية»، ولكن ليشعر «العالم بأنه لا توجد في الدنيا مستعمرة منكودة الحظ منكوبة مثل تلك المنطقة. خصوصا منذ وصول الجنرال فاريلا إليها»، وأضاف الشريف أحمد الصديق الدرقاوي في معرض اعترافاته على النحو الذي نشرته الرأي العام: «أن الجنرال فاريلا كان يخترع الآحاييل لتعذيب المغاربة، فمنذ سنتين، دفع لابن عمي أسلحة وبث في طريقة البوليس فقبضوا عليه مع ستين شخصا، مات منهم اثنان تحت السياط وهما : الخمسي وابن المهدي أما الباقون فقد قضوا من ستة شهور إلى سبعة في المستشفى يعالجون من أثر التعذيب ولا يزالون حتى الآن في السجون… ولما قمت ضد الجنرال فاريلا بواسطة المناشير والدعاية أرسل إلي هذا الأسباني [كارلوس مارتين] الذي جاءني بصفته جمهوريا، ليقدم إلينا مساعدته على تحرير أنفسنا من الإسبان». ولم تحد جريدة «العلم» عن المنحى نفسه والمقصد ذاته الذي تعاملت به جريدة الرأي العام مع حدث اعتقال الشيخ أحمد بن الصديق الدرقاوي ومحاكمته، فنشرت عبر أعمدتها مجموعة من التقارير والتغطيات الصحفية ذكرت من خلالها بالإشاعات التي روجها الإسبان بدعوى نقل الأسلحة وإثارة الفتن في المنطقة الخليفية»، وإلقاء القبض على إثر ذلك على الشريف ابن الصديق الدرقاوي ومعه عدة من أتباعه، من بينهم إسباني يدعى «كارلوس مارتان». وتناولت بالوصف المسهب والعرض المفصل وقائع محاكمة الشريف الدرقاوي، «بكونه جهز أشخاصا بقصد إحداث قلاقل واضطرابات في منطقة النفوذ الإسباني .. وإدخال وحمل أسلحة حربية في طنجة ثم القيام بدعايات وإحداث اضطرابات ضد النظام القائم بإحدى منطقتي المغرب المجاورتين»، ونشرت الجريدة مقتطفات من تصريحات الشريف الدرقاوي التي اعترف فيها بمسؤوليته عن توزيع الأسلحة على أتباعه بعد أن تسلمها من المندوب السامي الجنرال «فاريلا» لا بهدف القيام بالثورة على النظام، «بل لكي يعلم العالم أنه لا توجد مستعمرة مضطهدة مثل الحماية الإسبانية ولا سيما بعد أن عين الجنرال «فاريلا» مقيما عاما بها». وواصل الشريف سرد اعترافاته قائلا : «إن الجنرال «فاريلا «قد قام بأدوار شيطانية كثيرة فهو أولا سلم الأسلحة لابن عمي في تطوان ثم دبر الأمور كي يلقي عليه القبض، وفعلا فقد قبض عليه هو وستين من أصحابه. ولقد مات منهم اثنان تحت السياط، ثم ادعى «فاريلا» إبان زواج سمو الخليفة أن أشخاصا يريدون قتل الخليفة، وهكذا أمر بإلقاء القبض على كثير من الناس وبتعذيبهم، ولما قمت بالتشنيع عليه وخطبت ضده ونشرت المناشير أرسل إلي «كارلوس مارتين» هذا الذي جاءني في ثوب إسباني جمهوري معادي للنظام القائم اليوم في إسبانيا وفي منطقة نفوذها بالمغرب، وقال إنه يريد أن يعمل معي لإنقاذ درقاوة». وتوقفت العلم عند مرافعة محامي الشريف الدرقاوي الذي اعتبر موكله «شيخ طريقة صوفية مشهورة وإن الصوفيين لا هم لهم في الدنيا وزخارفها وإن الشيخ إنما قصد خيرا ولقد اعترف بشجاعة بكل ما عمل قائلا إنما أراد أن يلفت نظر الرأي العام الدولي إلى حالة الظلم الراهنة في المنطقة المجاورة»، ودحض مزاعم «بعض الجهات من كون هذه الحركة كانت ذات صبغة شيوعية إنما هو هراء من القول لأن الشيخ رجل دين يتنافى مع المبادئ الهدامة». يتضح أن الاهتمام الصحفي الواسع الذي حظي به حدث اعتقال شيخ الطريقة الدرقاوية بطنجة ومحاكمته، لم يكن في الواقع إلا دليلا على مدى التجاذب في المواقف الصريحة وردود الأفعال التي أعقبت الحدث، التي لم تكن خاضعة لنسق واحد ورؤية منسجمة في التعامل مع مقاصد الحدث وصفا وتحليلا .