مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    حريق مهول يلتهم سوق المتلاشيات بإنزكان    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    طقس الثلاثاء.. أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    الأمن المغربي والإسباني يفككان خيوط "مافيا الحشيش"    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام        مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين        إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا فقدت النقابات تأثيرها السياسي والاجتماعي
الإضراب العام..
نشر في المساء يوم 28 - 02 - 2016

بالنسبة لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران فإن الإضراب العام ليوم الأربعاء 24 فبراير لم «يكن إعلان حرب وعداوة..وما يكون غير الخير». هذه النبرة التفاؤلية الهادئة التي يتعامل بها رئيس الحكومة ووزراؤه مع الإضراب العام منذ الإعلان عنه وحتى تنفيذه تنبئ بتغير في تمثل وتقبل هذا الحدث الاجتماعي الذي كان في مراحل سابقة من تاريخ المغرب يعتبر هزة قد تهدد الاستقرار والسلم العام. كان يكفي النقابات في تلك المراحل التلويح بخيار الإضراب الوطني العام لترغم الحكومة على الجلوس إلى طاولة الحوار الاجتماعي ومناقشة مطالب الشغيلة والبحث عن حلول ولو ترقيعية لها. هذا الوقع الذي كان يتمتع به الإضراب العام في تلك المرحلة كان مستمدا من المحطات التاريخية التي اختلط فيها النضال الطلابي والعمالي برائحة الدم والقمع والرصاص. في سنوات 1965 و1981 و1990 تحولت الإضرابات المطالبة بالحقوق الأساسية أو التراجع عن الزيادات في الأسعار إلى ساحات قتل وتنكيل أودت بحياة العشرات بل المئات من المناضلين الذين قابلوا تعنت السلطات وإصرارها على تمرير قراراتها بثورات عارمة اجتاحت الشوارع والمدن وسرعان ما دفعت الدولة إلى الرضوخ والتراجع عن قراراتها. هذه الصورة المخيفة والمقلقة التي كان يحملها الإضراب العام بناء على هذه التجارب ظلت متجذرة في مخيلة الرأي العام واستمرت النقابات في استثمارها في مسلسلات المفاوضات إلى أن جاءت حكومة عبد الإله بنكيران التي ماع في عصرها كل شيء. وبينما كان التلويح بورقة الإضراب العام آخر الخيارات التي تلجأ إليها النقابات ولا تنفذها في الغالب، قررت المركزيات النقابية في مدة تقل عن السنة خوض إضرابين عامين في سياق المطالبة ببعض الإصلاحات ولحث الحكومة على التراجع عن قرارها بتنفيذ خطتها الخاصة بصناديق التقاعد. هل يعني ذلك أن كثرة الإضراب العام تقتل الإضراب العام؟ خصوصا أن هذه المركزيات النقابية تستبق مواعيد الإضراب بجو من الخلاف والصراع والصعوبة في تنسيق المواقف وتوحيدها إضافة إلى تحديد سقف نضالها سلفا دون مفاجآت تذكر أو تهديد تفاوضي بإمكانية التصعيد. يبدو المشهد بالنسبة لبعض المراقبين وكأن هناك اتفاقا بين الفرقاء على أن يقوم كل منهم بدوره المنوط به دون أن يعني ذلك حدوث تغيير أو تقديم تنازلات، وكأن الإضراب عاما كان أو جزئيا لم يعد سوى إبراء لذمة النقابات وصكا لنزاهتها ونضاليتها. وإلى جانب هذه الأخطاء الاستراتيجية في تدبير معركة الصراع الاجتماعي مع الحكومة يبدو أن انعدام الخلفية السياسية للصراع بين النقابات والحكومة يلقي بظلاله على المرحلة الراهنة. ففي السابق كانت المطالب الاجتماعية للمضربين والمحتجين مجرد واجهة لصراع سياسي عميق بين الدولة والأحزاب وخصوصا تلك المنتمية إلى صفوف المعارضة والتي كانت تستغل الجناح النقابي من أجل التعبير عن وجودها وتأثيرها المجتمعي في مواجهة استئساد الدولة وتغولها. وكان الإضراب العام بهذا المعنى يتجاوز المطالب الفئوية أو الاحتياجات الأساسية التي تحلم بأسعار زهيدة أو أجور عالية إلى مطالب تتعلق بالممارسة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. لم يكن نضال النقابات حينها نضال ملفات مطلبية بقدر ما كان نضال صراع بين السلطة والسلطة المضادة. هذه الأجواء المفقودة اليوم بسبب الانهيار الذي عرفه رصيد النخب الحزبية والسياسية واندحار مفهوم المعارضة يجعل من الإضرابات العامة مجرد أيام احتجاجية عابرة لا أثر لها سواء في مواقف الحكومة أو في ذهنية الرأي العام.
هكذا تراجع وزن النقابات وحضورها الشعبي
الشعارات الفئوية والبلقنة وتراجع الغطاء السياسي يفرغ الإضراب العام من محتواه
هناك صورة مقلقة ومخيفة تحملها مخيلة المغاربة من أجيال الستينيات إلى الثمانينيات عن الإضرابات العامة التي تدعو إليها النقابات المهنية أو الاتحادات الطلابية. مصدر هذه الصورة هو الأحداث العنيفة التي صاحبت هذه الإضرابات والتدخلات القمعية التي واكبتها من طرف أجهزة الأمن والسلطات العمومية. في 1965، و1981 و1984 و1990 عاش المغاربة جوا أمنيا استثنائيا تميز بسقوط ضحايا من الأبرياء بين قتلى وجرحى وتراكمت في هذه المحطات انتهاكات ومظالم حقوقية، بعضها تمت معالجته في سياق عمل هيئة الإنصاف والمصالحة وبعضها الآخر لا يزال معلقا وينتظر الإجابات الرسمية. لكن هل لا يزال الإضراب العام اليوم مثار القلق والخوف، أم أنه أصبح شأنا نضاليا روتينيا وفقد تأثيره السياسي والاجتماعي السابق؟
الإضراب الفئوي
بغض النظر عن تضارب الأرقام والمعطيات الخاصة بنسب المشاركة في الإضراب العام والتزام القطاعات المهنية بدعوة النقابات الأربع الأكثر تمثيلية، يبدو أن أهم خلاصة يمكن استنتاجها من تجربة الإضرابات في السنوات العشر الأخيرة هو فقدان الإضراب العام لذلك الزخم النضالي والتأثير السياسي والاجتماعي الذي كان يمتلكه سابقا. يبدو أن الدعوة إلى الإضراب العام أو حتى تنفيذه لم تعد قادرة على تحريك القوى المجتمعية وتعبئتها من حول القطاعات المهنية المشاركة. وباستثناء الالتزام بالإضراب عن العمل الذي تقبل عليه جل النقابات الممثلة لقطاعات الشغل المختلفة خرج الإضراب العام من دائرة النضال السياسي الذي يتجاوز المطالب الفئوية إلى رفع شعارات ومطالب وطنية تهم الحريات والحقوق الاجتماعية والسياسية وتعزيز مناخ الديمقراطية. ويبدو أن انغماس النقابات في رفع شعارات فئوية تهم أساسا الحقوق الاجتماعية بعيدا عن المطالب السياسية المرتبطة بالقيم الكونية ومبادئ حقوق الإنسان وتأهيل المناخ الديمقراطي لعب دورا كبيرا في إفراغ محطة الإضراب العام من محتواها وزخمها النضالي الذي كانت تمتلكه في السابق. يكفي أن ننتبه إلى مضامين البلاغ الذي دعت من خلاله النقابات الأكثر تمثيلية إلى الإضراب ليتوضح لنا ذلك، فبالنسبة لهذه النقابات يعتبر يوم الإضراب «يوما يقف فيه الموظف والعامل والمستخدم والحرفي والتاجر وسائق سيارة الأجرة والعامل الفلاحي وأصحاب المهن الحرة جنبا إلى جنب دفاعا عن قدرتهم الشرائية، وعن الحق في الشغل لهم ولأبنائهم والاستقرار في العمل، والخدمات الصحية العمومية المناسبة، والسكن اللائق، وكل الخدمات الاجتماعية التي تضمن للمواطن المغربي حقه في العيش بسلام وأمان». هذه المطالب الاجتماعية المشروعة تضمن للنقابات امتدادات في مختلف الطبقات والأوساط الاجتماعية لكن خلوها من الخطاب السياسي البعيد طبعا عن الاستغلال والتوظيف يجعل من الإضراب العام مجرد حركة نضالية عابرة شبيهة بتلك التي تخوضها مختلف النقابات على طول السنة في قطاعات مهنية متعددة. الوقع الذي للعامل السياسي في محطات الإضراب العام هو الذي سجله التاريخ بحضور الحركة التلاميذية في سنة 1965 وحركة الطلاب الجامعيين في إضراب فاس سنة 1990 والذي تجاوز شعارات المطالب الاجتماعية الضيقة إلى رفع مطالب سياسية اعتبرتها الدولة آنذاك تهديدا لاستقرارها واستمرارها فعالجت الحدث بخيار العنف والقمع.
صورة مهزوزة
هذا التراجع في تأثير الإضراب العام على الواقع السياسي والاجتماعي يعكس في حقيقة الأمر تراجعا للنقابات ولوزنها وحضورها كمؤسسات وساطة بين الدولة والمجتمع. فرغم أن جموع الموظفين والعمال والمهنيين تتجاوب في كثير من المناسبات مع دعوات الإضراب التي تطلقها النقابات الأكثر تمثيلية إلا أن هذا لا يعني حالة الرضا التام من طرف هؤلاء على نقاباتهم قيادات وأجهزة وتوجهات. لا يخفى على أحد من المراقبين للشأن النقابي والاجتماعي الصورة المهزوزة التي أصبحت اليوم لمختلف المنظمات النقابية. هذا التدهور الذي مس صورة النقابات ينعكس على مستوى معدلات الانتماء النقابي في أوساط الشغيلة والمهنيين. إذ لا تتعدى نسبة العمال المنتمين إلى النقابات في المغرب 3 في المائة يرتبطون بمنظمات نقابية تتولى مهمة الدفاع عنْ حقوقهم، بالرُّغم من وجُود أكثر من ثلاثين منظمَة نقابيَّة في المغرب، تنشط في قطاعات مختلفة. ولا شك أن هذا الرقم يبقى متدنيا وضعيفا بالمقارنة مع بعض دول الجوار. ومن أصل 10.7 ملايين مغربي يمارسون مهنة ما، يبقى رقم 3 في المائة هزيلا جدا في الوقت الذِي تصلُ نسبة الانتماء إلى النقابات وسط العمال في تونس إلى 18 في المائة، ويبلغُ المعدل بالسوِيد 67.5 في المائة. هذا العزوف عن الانتماء النقابي ليس سوى جزء من حالة العزوف العام عن النشاط السياسي أو المدني في المغرب، فهو شبيه كذلك بالعزوف الذي تعانيه الأحزاب السياسية أو المناسبات الانتخابية. وهو كذلك جزء من أزمة الثقة التي تشكل الهوة التواصلية الكبيرة بين المجتمع ومؤسساته التمثيلية. فقدان الثقة في الأجهزة النقابية وقياداتها يعتبر تراكما لسنوات طويلة من انعدام الكفاءة والفعالية في مواجهة الحكومة، وغياب استراتيجية نضالية واضحة مستقلة عن الجهات الرسمية وعن الأحزاب السياسية تعطي للنقابات استقلالية ومصداقية كفيلة بأن تجعلها في مقدمة وطليعة النضال الاجتماعي. يكفي أن نشير في هذا السياق إلى الدور الحاسم والمهم الذي لعبته النقابات في تونس إبان ثورة الياسمين عندما شكلت صوتا مجتمعيا متفردا ومستقلا عن باقي التيارات والحركات السياسية والمدنية الأخرى. هذه الصورة المهزوزة كونت لدى كثير من العمال والمهنيين انطباعا أو حكما على العمل النقابي بأنه مجرد انتهازية مادية أو فرصة ريعية تستفيد منها بعض القيادات مقابل تأطير العمال والشغيلة في اتجاهات معينة وترشيد اندفاعاتها وغضبها المحتمل. الإجابة عن سؤال المصداقية قد يعتبر مفتاحا واحدا ووحيدا لحل أزمة العمل النقابي واستعادته لقدراته التأثيرية سياسيا واجتماعيا.
البلقنة النقابية
خلال التحضير للإضراب العام الذي خاضته النقابات يوم الأربعاء الماضي شهدت عملية التنسيق بين النقابات الأكثر تمثيلية حالة من الأخذ والرد والشد والجذب حتى كادت تعصف بمشاركة البعض وتقسم الصف النقابي. ويعكس هذا الأمر معضلة من المعضلات التي يعانيها الجسم النقابي ويجعل من احتمالات تأثيره من خلال الإضرابات العامة أو الدعوة إليها مسألة جد صعبة بالمقارنة مع ما كان عليه الحال سابقا. فالمشهد النقابي اليوم يعاني من ظاهرة البلقنة وكل يوم تولد أطر نقابية جديدة تحمل مطالب وهموما فئوية تزيد من نزيف المصداقية وانفصال الشغيلة وضعف العمل النقابي. بالمقابل يبدو الخصوم أكثر وحدة والتحاما فالحكومة ترفع صوتا وخطابا واحدا، والباطرونا من خلال الاتحاد العام لمقاولات المغرب يجتهدون في توحيد الرؤى والاستراتيجيات ويضعون سقفا محددا لكل مطالبهم ومشاريعهم. هذه الوحدة في صفوف أرباب العمل والفرقة في صفوف النقابات تجعل من العمل النقابي والإضرابات على الخصوص عملا من الأعمال الشاقة. فالتنسيق وتوحيد المواقف والاتفاق على الشعارات والمطالب كلها مراحل تستنزف الحركة النقابية وتضعها باستمرار في موقف المتهم من طرف الشغيلة بكونها عاملا من عوامل عرقلة النضال العمالي بدل أن تكون فاعلا مهيكلا وقيادة واضحة الرؤية والأهداف. وقد تابعنا جميعا كيف أفرزت انتخابات اللجان الثنائية المنظمة في يونيو 2015 خريطة نقابية تمثيلية تضم 5 نقابات وطنية من ضمن عشرات النقابات الوطنية. ورغم أن البعض يرى أن هذه الانتخابات تساعد في حل معضلة البلقنة إلا أن وجود خمس نقابات تمتلك تقريبا حصيصا متقاربا في تمثيلية العمال علما أنها ترفع الشعارات ذاتها ولها ملفات مطلبية تكاد تكون متطابقة يعتبر في حد ذاته عبثا وترفا نقابيا في بلد لا يزال الانتماء فيه إلى النقابة خطرا حقيقيا يتهدد العامل ومستقبله ويعتبر من بين أقل البلدان في العالم إقبالا على الانتماء النقابي. وإذا كانت الكعكة العمالية محدودة وضيقة جدا في ارتباطها بالنقابات فمن المستغرب استمرار هذه الفرقة وتفريخ المزيد من الإطارات والمنظمات النقابية. هل يعني هذا أن النقابات وحدها تتحمل مسؤولية إفراغ المحطات النضالية الكبرى من محتواها؟ قطعا ستكون الإجابة بلا. فكثير من العوائق والمعضلات التي تواجه العمل النقابي ليست سوى نتيجة لتوجهات سياسية ورسمية كان هاجسها الأساسي هو التحكم الأمني في النشاط النقابي باعتباره مصدرا من مصادر التعبئة الاجتماعية وسببا مباشرا من أسباب الانتفاضات والاحتجاجات التي عاشها مغرب الاستعمار والاستقلال. هذه الهواجس كانت عاملا دافعا نحو نهج استراتيجيات أضعفت العمل النقابي وضيقت هوامش حريته وأفقرته وحرمته من الإمكانيات القانونية والبشرية والمادية التي تساهم في تأطيره وتطويره. لا يجب أن ننسى في هذا الإطار أن النشاط النقابي لا يتطور ولا يصبح مؤثرا إلا في إطار اقتصاد صناعي ومهيكل تبرز فيه أطراف الصراع الطبقي في حين أننا لا نزال نعيش في ظل هيمنة الاقتصاد الفلاحي بصورته البدائية المرتبطة بمعدلات التساقطات. وإذا كان القطاع الفلاحي أكثر القطاعات تشغيلا للعمال المغاربة بنسبة تصل إلى 39.4 في المائة، فمن المستغرب استمرار انحسار التأطير النقابي في هذا القطاع الذي يعيش عماله أبشع أشكال الاستغلال. وفي ظل هذا الحصار الذي يواجهه العمل النقابي فإن تمييع بعض المحطات النضالية وعلى رأسها الإضرابات الوطنية العامة ليس سوى مرحلة جديدة من مراحل الركود التي يعيشها الفعل النقابي في المغرب.
حرب براغماتية بين النقابات والحكومة سلاحها نسب المشاركة
إضراب 2016
انتهى إضراب 24 فبراير كما بدأ على وقع حرب أرقام وتصريحات بين الحكومة التي أكدت على لسان ناطقها الرسمي أنه «مر في ظروف عادية وعرف اشتغال المرافق العمومية بطريقة طبيعية»، وبين النقابات التي أعلنت النصر، وأكدت أن الإضراب نجح بنسبة84 في المائة. التصريحات المتباينة والمتناقضة بين الطرفين وأسلوب الخطاب المستعمل يكشف بشكل واضح أن الإضراب العام بالمغرب تغيرت أهدافه، تماما كما تغير تعاطي الدولة والحكومة معه. فالنقابات التي ترددت كثيرا قبل إعلان الإضراب العام، تعاطت مع القرار كمعركة وجود وبقاء تحت شعار» نكون أو لا نكون»، ورفعت سقف المطالب كنوع من الدعاية، رغم علمها أن تاريخ صلاحية الحكومة شارف على الانتهاء، وأن الانتخابات التشريعية على الأبواب، وأن الزمن المتبقي لن يكون كافيا لإبرام أي اتفاق أو التوصل إلى حلول تنطوي على تحملات مالية. أما الحكومة فلم تنظر إلى الإضراب على أنه ورقة حمراء تتضمن رسالة احتجاج شديدة اللهجة، خطوة تصعيدية تترجم سخط الموظفين والعاملين بالقطاع الخاص على قراراتها السابقة واللاحقة، بل تصرفت وكأن الإضراب يستهدف التأثير على شعبيتها على أبواب محطة انتخابية، لذا لم توجه أي دعوة رسمية للمركزيات الأربع من أجل الحوار، وأدارت ظهرها لتداعياته الخطيرة على السلم الاجتماعي في ظل استمرار الأجواء نفسها التي عبدت الطريق لإعلانه، بل لم تجد حرجا في استعمال لغة تحمل الكثير من التحدي بكون الإضراب لم يؤثر على سير الخدمات والمصالح الحيوية وأنه «غير مبرر» في خطاب حزبي أكثر منه حكومي. لعبة الربح والخسارة التي تصرفت بها الحكومة والنقابات مع الإضراب العام تعكس نوعا من القصور السياسي في التعامل مع قرار حساس له انعكاسات كارثية على الجاذبية الاستثمارية للبلد، بحكم أنه يرسم علامات مقلقة حول مستقبل السلم الاجتماعي في ظل تراكم الملفات المطلبية، واتساع رقعة الاحتجاجات والإضرابات القطاعية. فالنقابات رأت في نسبة التجاوب التي كانت كبيرة نسبيا في القطاع العام نصرا وبارقة أمل تنقذها من ورطة علامات الاستفهام الكثيرة التي بدأت تطرح حول فقدانها لدورها في الشارع، وفي تأطير المطالب العمالية والقطاعية مع تصاعد نجم التنسيقيات المستقلة، وبالتالي فإن الأهم والنصر الكبير بالنسبة لها يتمثل في إقناع شريحة مهمة بخوض الإضراب، دون الالتفات إلى ثماره اللاحقة، والتي ليست مدرجة فعليا ضمن الأمد الزمني القصير، فيما راهنت الحكومة على نسبة مشاركة ضعيفة ومتدنية من أجل عكسها كعامل تأييد لسياساتها اللاشعبية التي بدأت تلقى ردود فعل ساخطة حتى من قبل بعض حلفائها كما ورد في التصريحات الأخيرة لصلاح الدين مزوار الأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار. فالحكومة غير مدركة بأن بعض القرارات والإصلاحات التي تسعى لتفعيلها من خلال رفع فزاعة الإفلاس الوشيك أصبح ينظر إليها شعبيا على أنها مد يد في حالة تلبس لجيوب المغاربة، من أجل إنقاذ صناديق ومؤسسات لا يتحملون أي مسؤولية في وضعيتها المالية الكارثية التي جعلتها تعاني من ثقوب وعجز بالملايير دون أن يتم تفعيل المحاسبة في حق المتورطين في هذه الاختلالات، كما حدث بالنسبة للمكتب الوطني للكهرباء والسكك الحديدية قبل أن يحين الدور على صناديق التقاعد، علما أن بعض هذه القرارات تتجاوز المنطق الحزبي أو الحكومي بحكم أنها ترهن مستقبل وحياة المغاربة، وتفرض عليهم تحت يافطة الإصلاح أن يدفعوا الثمن، ويواصلوا العمل بشكل إجباري لسنوات إضافية وهم يجرون وراءهم أمراضهم المزمنة. ويبقى الشيء الأكيد أن طريقة تعاطي المغاربة مع قرار الإضراب العام عكس حالة إحباط فعلي من السياسة والسياسيين بعد أن فشلت النقابات في انتزاع عدد من الحقوق، وتحولت وعود التغيير التي حملت عددا من الأحزاب ذات التوجهات المتباينة للحكم في سياقات مختلفة إلى فقاعة صابون، ورحلة استهلكت الكثير من الوقت والزمن دون أن يلمس المواطن أي تغيير حقيقي يساير الشعارات العريضة التي رفعت. هذا الإحباط الحاصل لدى شريحة مهمة من المغاربة هو ما جعل السلطات تتعامل أيضا مع يوم الإضراب العام بنوع من الارتياح النسبي الذي عكسه عدم معاينة أي إنزال أمني تخوفا من حدوث انفلات، أو أعمال شغب، قد تعود بالمغرب لسنوات الإضرابات العامة الدامية، وكأن السلطة كانت تملك بشكل مسبق جهاز «ترمومتر» لقياس نبض الشارع.
لجنة تقصي الحقائق البرلمانية تخفي حقيقة ما حدث في إضراب فاس ونواحيها
على الرغم من أن السلطات المغربية اعترفت بالأسباب الجوهرية لإضراب يناير من سنة 1984 حيث سيعلن الحسن الثاني عن قرار عدم الزيادة في أسعار المواد الأساسية وهو يلقي خطابه الشهير، إلا أن الاحتقان كان لا يزال مشتعلا مع حكومات وصفت بالفاسدة أفرزتها انتخابات مشكوك في نزاهتها، ومع معارضة شرسة وقتها. المعارضة التي كان يقودها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مسنودا بمركزيته النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، التي كانت قد صنعت ملحمة العشرين من يونيو من سنة 1981. في سنة 1989، ستنجح الإدارة مرة أخرى في نسف عدد من المعارك النقابية القطاعية، لذلك لوحت الكونفدرالية مرة أخرى باللجوء إلى الإضراب العام دفاعا عن ملفها المطلبي. غير أن رسالة الأموي لم تصل كما أرادتها الشغيلة المغربية إلى من يعنيهم الأمر. وفي فبراير من سنة 1990، عقدت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل اجتماعا لهيئتها التقريرية لوحت بعده بإضراب عام. لكنها تركت توقيته معلقا، في محاولة منها لجر الحكومة إلى جلسة للحوار. بعد أن وعدت ببعض الإضرابات القطاعية أو اللجوء إلى إضراب عام في مدينة الدار البيضاء فقط، باعتبارها أهم مركز صناعي وسكاني. شهران بعد ذلك، ستعلن كونفدرالية الأموي عن تاريخ الإضراب العام والذي حددته في 19 أبريل.لكن بعد أسبوع من تحديد الموعد، سيتقرر إلغاء هذه المحطة بعد أن وعدت الحكومة بالحوار. ليتجدد الموعد بعد ذلك في 14 من دجنبر من سنة 1990. كان لا بد لهذه المحطة أن تعرف مشاركة لنقابة الاتحاد العام للشغالين، الذي لبى نداء ال «ك د ش». بل إن المعركة تحمس لها حزب الاستقلال أيضا الذي قرر المشاركة من خلال تعبئته لكل مكونات الحزب والمنظمات التابعة له من شبيبة، وقطاع نسائي وتجار صغار، بعد أن قال المجلس الوطني للاتحاد العام «إن مصلحة البلاد تقتضي إضرابا عاما». وحده الاتحاد المغربي للشغل هو الذي لم تهتم قيادته بالدعوة الصادرة من النقابات الأخرى.وخلص مجلسه الوطني المجتمع في الأسبوع الأخير من نوفمبر إلى صيغة مبهمة ومفتوحة على كل شيء، رافضا ضمنيا مبدأ الإضراب العام.في الأسبوع نفسه، تحركت الحكومة للمناورة والتهديد بإفشال الإضراب حينما قررت إرجاع بعض المطرودين، خصوصا من الوظيفة العمومية والقطاع العام مع حرمانهم من أجور فترة التوقيف. كما كلف الملك الراحل وزيرين للتفاوض مع النقابات. وتعالى الضجيج حول ضرورة الحوار، وتكاثرت الوعود في وقت تقاطرت فيه التعليمات على مختلف الإدارات ومرافق الدولة لمنع الإضراب، وتجندت وزارة الداخلية لإفشاله. وتوج ذلك كله ببلاغ مجلس الحكومة الصادر في الخامس من دجنبر تضمن تهديدا صريحا باستعمال جميع الوسائل لحماية «حرية العمل» و»النظام العام». كما أجرت الحكومة سلسلة مفاوضات مع بعض النقابات غير المشاركة في الإضراب العام، بما فيها قيادة الاتحاد المغربي للشغل. وحينما حل الموعد، أبانت المشاركة في الإضراب عن معدل دون المتوسط، رغم التعاطف الجماهيري العام الذي أثاره. ونجح التهديد الحكومي لمستخدمي الوظيفة العمومية في بلوغ مبتغاه. وأدت السلطات في أنحاء البلد دورها كاملا في السعي لإفشال الإضراب بعد أن تم استقدام العسكر إلى المدن، حيث استمر إنزالهم في محطة قطارات الدار البيضاء حتى صباح يوم الإضراب. كما استنفرت وزارة الداخلية كل ترسانتها وكان لها ما أرادت. ومع ذلك، فقد وقعت المظاهرات التي تطورت إلى أحداث عنيفة، بعد تدخل السلطات ورجال القمع، التي اشترك فيها، بحسب إذاعة لندن، 30 ألف شخص، خصوصا وأن المتظاهرين هاجموا الفنادق الرسمية، وبعض المباني العامة. كما أحرقوا السيارات والشاحنات في الشوارع. وعرفت مدينة فاس ونواحيها، على الخصوص، انتفاضة كبرى خلفت قتلى وجرحى ومعتقلين. وقد استعمل الرصاص الحي، ضد المتظاهرين انطلاقا من الطائرات العمودية ومن الدبابات والأسلحة الأوتوماتيكية. وكانت حصيلة الضحايا أثقل من الحصيلة الرسمية حيث أشارت وكالة المغرب العربي إلى سقوط قتيلين فقط. في حين قالت مصادر نقابية إن عدد القتلى تجاوز 25 شخصا، خصوصا وأن بعض شباب الأحياء الفقيرة من عاطلين وعمال مياومين، هم من قادوا المظاهرات، ودخلوا في حركة عصيان واسعة، بعد أن التزم النقابيون بالمكوت في منازلهم تفاديا لأية اصطدامات مع قوات الأمن. لم يحقق هذا الإضراب العام الذي شمل مدن فاس وضواحيها كل المطالب التي كانت قيادة الكونفدرالية تدعو إليها طيلة سنوات. ومن ذلك أن تعويض ما ضاع من القدرة الشرائية إثر الرفع المتزايد للأسعار، يتطلب زيادة دخل العمال بنسبة 400 في المائة.لكنها ظلت تطالب بزيادة 100 في المائة فقط. بل إنها لجأت قبيل الإضراب إلى تخفيض المطالبة إلى 50 في المائة، مراعاة للوضعية الاقتصادية والمالية التي كانت توجد عليها البلاد. أسبوعان بعد إضراب دجنبر 1990، عقدت الحكومة جلسة حوار مع النقابات التي دعت له. وبعد أن كان أرباب العمل قد أبدوا استعدادهم لزيادة 25 في المائة في الأجور، جاء خطاب الملك يوم الثاني من يناير 1991 ليحصر الزيادة في 15 فقط. بعد أن نجح الملك الراحل في وضع ميثاق اجتماعي يجعل السنوات الخمس اللاحقة سنوات سلم اجتماعي، مؤكدا على أن الالتزامات مع صندوق النقد الدولي غير قابلة للمساس.كان لابد أن يثار موضوع القتلى والجرحى، الذين سقطوا برصاص رجال الأمن. لذلك سيقترح الوزير الأول على البرلمان تكوين لجنة لتقصي الحقائق، حيث قدم البرلمان ملتمسا للملك، أجاب عنه يوم 18 دجنبر. وتشكلت اللجنة بإجماع البرلمان حيث ضمت 21 عضوا ممثلة من أحزاب حكومية ومن المعارضة السياسية ومركزياتها النقابية. وهي اللجنة التي ترأسها المعطي بوعبيد. استمعت اللجنة بمقر البرلمان لوزير العدل وقتها مصطفى بالعربي العلوي، ولوزير الصحة الطيب بن الشيخ، ولإدريس البصري وزير الداخلية، ولعامل فاس وقتها. وبعد اشتغال دام حوالي سنة، أنجزت اللجنة تقريرها الذي قالت فيه إن عدد ضحايا إضراب دجنبر من سنة 1990 وصل إلى 42 قتيلا بمدينة فاس، منهم 1 من القوات العمومية. ووصل عدد الجرحى إلى 236 منهم 153 من القوات العمومية. أما بمدينة طنجة، فلم يتجاور عدد الضحايا، بحسب لجنة تقصي الحقائق، قتيلا واحدا، وجرح 124 كان من بينهم 103 من القوات العمومية. كما خلصت اللجنة البرلمانية إلى أنه لم يستعمل السلاح الناري من قبل قوات الأمن، بالرغم من أن جل الذين عايشوا هذه الانتفاضة يؤكدون إطلاق النار واستعمال الذخيرة الحية. وهو ما سيتأكد بعد مرور أكثر من عقد ونصف على هذه الانتفاضة، حينما أوردت هيئة الإنصاف والمصالحة في تقاريرها أن عدد القتلى الذين تم اكتشافهم وصل إلى 106 ضحية. وهي الحقيقة نفسها التي ظهرت في شهر مارس من سنة 2008 حينما تم اكتشاف مقابر جماعية بحديقة جنان السبيل بالمدينة القديمة بفاس، سيتأكد أنهم لقتلى انتفاضة 14 دجنبر 1990، حيث قالت بعض المصادر إنه تم العثور على ما يقارب 106 جثة تعود إلى هؤلاء الضحايا. وهو الملف الذي ما زال يقض مضجع هيئة الإنصاف والمصالحة التي لم تنجح إلى اليوم في الحسم فيه بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من اندلاع أحداث الرابع عشر من دجنبر من سنة 1990.
انتفاضة يناير 1984 التي خلفت قتلى ومعتقلين
يوم وصف الحسن الثاني سكان الشمال ب«الأوباش»
أربع سنوات على مجزرة الدار البيضاء التي أودت بحياة مئات القتلى، وزجت بمناضلي الكونفدراية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في سجون الحسن الثاني، ستنفجر شوارع عدد من المدن المغربية للأسباب الجوهرية نفسها التي فجرت شوارع الدر البيضاء في يونيو من سنة 1981. غير أن الضربة الموجعة ستعرفها مدن الشمال التي كانت لها خصوصيتها على مستوى الوضع الاجتماعي المتردي. لقد عرف المغرب في تلك الفترة أزمة شملت مختلف الميادين، حيث وصل عدد السكان إلى ما فوق العشرين مليون نسمة، يشكل فيها حوالي 15 في المائة سكان المدن، بنسبة بطالة جد مرتفعة، وظروف سكن جد متردية حيث كانت الأرقام تفيد أن 45 في المائة من السكان، يقطنون دور الصفيح. مع ما يرافق ذلك من تدن حاد في الخدمات الصحية والتعليمية. أما على المستوى الاقتصادي للبلد، فقد وصلت نسبة المديونية الخارجية وقتها إلى 7 آلاف مليون دولار، خصوصا وأن الإنفاق كان قد زاد على التسلح الذي فرضته حرب الصحراء التي كانت تكلف وقتها قرابة المليون دولار يوميا. لذلك كان على المغرب وحكومته أن تستمع جيدا لتوجيهات صندوق النقد الدولي لتنفيذ ما عرف ب»سياسة التقويم الهيكلي» المبنية أساسا على التقشف في صرف الاعتمادات على المناحي الاجتماعية كالتعليم والصحة والشغل. وقد سجلت الأسعار حينها ارتفاعا مهولا خصوصا ما يتعلق بالمواد الأساسية. ومن ذلك ارتفاع ثمن مادة السكر مثلا بنسبة زيادة وصلت 18 في المائة، و 67 في المائة بالنسبة لمادة الزبدة، وحوالي 20 في المائة بالنسبة للغاز والوقود. كانت هذه هي حالة الاحتقان التي تسببت في أحداث يناير من سنة 1984 وطنيا. أما على مستوى مدن الشمال، التي ستعرف انتفاضة أكبر، فقد كانت أسباب ما حدث، هي أن الإدارة المغربية ستفرض على الراغبين في دخول مدينة مليلية المحتلة لممارسة تجارتهم، المبنية أساسا على التهريب وأمام أنظار السلطات، أداء مبلغ 100 درهم بالنسبة للراجلين. أما أصحاب السيارات فقد ارتفع المقابل إلى 500 درهم. وضع سيؤدى في النهاية إلى تفجير الانتفاضة، حينما نزلت الجماهير الشعبية إلى الشوارع في مسيرات في مجموعة من أهم المدن منها الحسيمة والناظور وتطوان والقصر الكبير ومراكش ووجدة. انطلقت الإضرابات والمظاهرات بغضب تلاميذي في 17 من يناير في كل من الناظور والحسيمة، قبل أن تتسع وتمتد إلى خارج أسوار المؤسسات التعليمية، وتشمل فئات اجتماعية أخرى. وقدر المشاركون ب 12000 متظاهر، ستستخدم قوات الجيش والأمن الرصاص الحي لتفريقهم. وفي 19 من يناير، ستصل الاحتجاجات إلى مدن تطوان والقصر الكبير، بالإضافة إلى مظاهرات طلابية في مدينة مراكش. يوم واحد، سيقدر فيه عدد القتلى الذين سقطوا في شوارع مدن الشمال بأربعين قتيلا. وبعد أن قال الحسن الثاني إن ما حدث يعتبر مؤامرة كبيرة تعرض لها المغرب، قدم كريم العمراني، الوزير الأول حينها، حصيلة الأحداث التي حددها في سقوط 29 قتيلا وإصابة 114 بجروح. توزعت على مدن الناظور، وتطوان والحسيمة، في الوقت الذي قالت فيه بعض وسائل الإعلام الغربية إن عدد القتلى فاق 400 قتيل. قبل أن يعلن العمراني بعد ذلك عن فرض حظر التجول في المدن التي عرفت هذه الأحداث. وهي الحالة التي امتدت إلى الثاني من فبراير من السنة نفسها. كان لا بد للحسن الثاني أن يدخل على خط الأحداث. لذلك سارع في 22 من يناير الموالي إلى إلقاء خطاب ناري وصف فيه سكان مدن الشمال، بالأوباش، بعد أن ذكركم بأحداث الريف، يوم كان فيها لا يزال وليا للعهد. غيرأن الملك الراحل سيعتبر ما حدث مؤامرة خارجية شاركت فيها عدة أطراف، مذكرا بأن إضراب يونيو من سنة 1981 كان قد تزامن مع سفره إلى نيروبي للتداول في قضية الصحراء المغربية، وحكاية الاستفتاء الذي قبل به الملك الراحل ورفضه خصومه في المعارضة، وفي مقدمتهم حزب الإتحاد الاشتراكي الذي أصدر بلاغا في الموضوع كان سببا في اعتقال عبد الرحيم بوعبيد ورفاقه في المكتب السياسي بسجن ميسور. أما اليوم فالمؤامرة متعددة الأطراف، بحسب الحسن الثاني. أولاها هي «منظمة إلى الامام» التي راهنت، بإشعالها فتيل الغضب في عدد من المدن المغربية وفي مقدمتها مدن الشمال، على إفشال المؤتمر الإسلامي الذي كان سيعقد في المغرب لأن افغانستان كانت ستحضر لتفضح الحكم في هذا البلد؟ وكانت التهمة التي وجهت لهذه المنطمة، هي أنها ظلت توزع المناشير في مدينة مراكش على الخصوص. وهي المناشير التي سيقرأ منها الملك الراحل بعض الفقرات وهو يلقي خطابه الشهير. قال الملك الراحل « ليكن في علمنا أن الوضعية الراهنة المريرة ليست نتيجة لحرب الصحراء التي يشنها النظام الملكي المهزوم على الشعب الصحراوي البطل، والتي ذهب ضحيتها الآلاف من أبنائنا، وليست نتيجة الجفاف كما يدعي الحسن السفاك، بل راجعة إلى نهب خيراتنا من طرف الأمريكان والأعداء». ثاني الأطراف، التي قال الحسن الثاني إنها ساهمت في إشعال فتيل يناير من سنة 1984، هي المخابرات الصهيونية، التي سعت إلى إفشال المؤتمر تخوفا من القوة التي يمكن أن تكون للدول الإسلامية المؤتمرة بعد انضمام مصر إليها. أما ثالث الأطراف، فليست غير إيران، التي قاطعت المؤتمر الإسلامي، وراهنت على فشله، بعد أن صرح الخميني قائلا:» في هذه الأيام المصيرية التي يمر بها العالم الإسلامي حيث يعيش مخاضا صعبا يجتمع أناس يدعون تمثيل الشعوب الإسلامية ويطلقون على جمعهم هذا المؤتمر الإسلامي، والأجدر أن يسمى قمة التآمر والجهل، هؤلاء هم الحكام المتسلطون على رقاب شعوبنا الإسلامية، والذين لا يكاد ينجو واحد منهم من ارتباطه بعمالته لأحد الشيطانين الأكبرين أمريكا وروسيا». هكذا برر الحسن الثاني أحداث يناير من سنة 1984. وهي تبريرات ذهبت إلى دخول أطراف خارجية على خط الأحداث، وليس لأن الوضع الاجتماعي لسنوات الثمانينيات التي عرفت ركودا اقتصاديا، وجفافا أثر بشكل سلبي على المنتوج الفلاحي، هو الذي حرك غضب الشارع المغربي. غير أن الملك الراحل سيعترف، بشكل ضمني، أن الزيادات التي عرفتها المواد الاستهلاكية، لن تكون، كما قال ذلك في خطابه الشهير. تركت أحداث يناير من سنة 1984 خلفها الكثير من الضحايا، خصوصا المتحدرين من مدن الناظور والحسيمة وتطوان، بالنظر إلى أن هذه المدن عرفت احتقانا كبيرا ساهم فيه الوضع الاسثتنائي لهذه المنطقة التي ظل اقتصادها يعتمد بنسبة كبيرة على التهريب. وحينما أحدثت هيئة الإنصاف والمصالحة في 1999، لم تقو هذه المؤسسة على ضبط عدد القتلى الذين سقطوا. ولا عدد الذين اختاروا الهجرة إلى خارج المغرب خوفا من بطش السلطات، التي ظلت تلاحقهم حتى بعد أن هدأت عاصفة الشمال. لذلك تقول هيئة الإنصاف والمصالحة في تقريرها الختامي، إن عدد ضحايا انتفاضة الريف لا يتجاوز 12 قتيلا، في الوقت الذي يقول المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف في فرعه بالناظور، إنه ظل يتوفر على لائحة إضافية تقول إن عدد الضحايا أكبر مما جاءت به هيئة الإنصاف. وهذا واحد من الملفات الحارقة، التي لا تزال تنتظر الحسم كلما استعاد أهل الشمال تفاصيل الأحداث، على الرغم من كل الخطوات التي اتخذتها السلطات لجبرر الضرر المعنوي للمنطقة.
يوم وصف البصري قتلى أحداث الدار البيضاء ب«شهداء كوميرا»
لم يتردد إدريس البصري، وهو يعلق على القتلى الذين سقطوا في أحداث الدارالبيضاء التي اشتعلت في يونيو من سنة 1981، ب»شهداء كوميرا» فقط لأنهم خرجوا إلى شوارع الدار البيضاء، وبعض المدن الأخرى، احتجاجا على قرار حكومة المعطي بوعبيد في الزيادة في أسعار المواد الأساسية بما فيها سعر الخبز. ولم يستحي أقوى وزراء داخلية الحسن الثاني في هذا الوصف وهو يحمل خطابه إلى قبة البرلمان، والذي كان التلفزيون متحمسا لنقله مباشرة إلى مشاهديه. لقد شكلت انتفاضة الدار البيضاء في يونيو من سنة 1981 الحدث الأبرز كمظهر للاحتجاج والغضب الشعبي في تاريخ المغرب المعاصر، خصوصا وقد أدت إلى اشتباكات خطيرة، وانتهت بعشرات الضحايا في السجون والمقابر الجماعية. كانت الحكاية قد انطلقت حينما قررت المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وهي وقتها في عز حماسها بقيادة الزعيم نوبير الأموي، أن تخوض إضرابا عاما بدعم من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعد أن نفذت حكومة المعطي بوعبيد وصية المؤسسات المالية للدولية، وقررت أن ترفع من أسعار جل المواد الأساسية. ففي صباح يوم 28 من ماي من سنة 1981، سيستفيق سكان الدار البيضاء على وقع زيادات صاروخية شملت كل المواد الأساسية. لم يكن هذا القرار سريا. لقد بثت وكالة المغرب العربي للأنباء تفاصيل الزيادة، والتي عرف معها الدقيق مثلا زيادة بنسبة 40 في المائة. فيما وصلت الزيادة في مادة السكر 50 في المائة، ووصلت في مادة الزيت إلى 28 في المائة، وفي الحليب 14 في المائة، والزبدة 76 في المائة. ولم يتردد وزير المالية آنذاك، وأمام البرلمان، في الاعتراف بهذه الزيادات، بعد أن برر القرار بكون حالة صندوق الدولة جعلت هذه الزيادة ضرورية وحتمية اقتصادية. انطلق رد الفعل، أمام ما أقدمت عليه حكومة المعطي بوعبيد، بإعلان يوم 18 يونيو إضرابا عاما في كل من الدارالبيضاء والمحمدية دعا إليه الاتحاد المغربي للشغل، وساندته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. غير أنه أمام رفض الحكومة التراجع، ستدعو كونفدرالية الأموي، ومعها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من خلال جريدتي المحرر وليبراسيون، إلى إضراب عام على الصعيد الوطني يوم 20 يونيو 1981 .كانت الاستجابة قوية لإضراب العشرين من يونيو.
وتوقفت الحياة في جل المدن المغربية، وفي مقدمتها الدار البيضاء التي أغلقت دكاكينها، وامتنع سائقو الحافلات عن القيام بعملهم. غير أن السلطة ستشرع في مساعدة أعوانها على إرغام أصحاب الدكاكين على فتح محلاتهم، والدفع بعمال الحافلات لاستئناف عملهم. بل إنها وضعت عددا من حافلات النقل العمومي بيد سائقين لا علاقة لهم بالنقل الحضري، في محاولة لتكسير وإفشال الإضراب. كان لا بد أن تتدخل السلطات لقمع الإضراب وكبح جناح المضربين من خلال تشتيت الجموع، بعد أن انضمت إليهم فرق رجال الدفاع والدرك الملكي والقوات المساعدة، والتي تم استقدامها عبر الشاحنات العسكرية. وبعد ساعات، أعطت السلطة إشارة الضرب والجرح والقتل والاختطاف والاعتقال وانتهاك حرمات البيوت، لتندلع انتفاضة شعبية وتتحول إلى مظاهرات عارمة في كل من درب غلف، ودرب السلطان، ودرب الكبير شارع الفداء، وحي الفرح، ودرب ميلا، وعين السبع إلى غير ذلك من أحياء مدينة الدارالبيضاء، احتجاجا على الزيادة التي قررتها حكومة المعطي بوعبيد في المواد الغذائية الأساسية، وكذلك ضد قمع الإضراب . كانت آلة القمع الدموي التي عرفتها شوارع الدار البيضاء في يونيو من سنة 1981 قد ذكرت المغاربة بما عاشوه في 23 مارس من سنة 1965 بنفس شوارع المدينة الاقتصادية، مع فرق بسيط وهو أن وزير الداخلية وقتها محمد أوفقير قد ناب عنه وزير داخلية آخر اسمه إدريس البصري. لقد استعملت في ذلك اليوم الدخيرة الحية، وبدون إنذار، ليبدأ حمام الدم في جل أزقة وشوارع الدارالبيضاء، والذي استمر معه استعمال العنف إلى حدود يوم 21 يونيو .وأسفرت تلك الأحداث عن سقوط عشرات القتلى ومئات من الجرحى كانوا ضحايا سلوك مصالح الأمن، التي لم تتردد في استعمال أسلحتها بدون سابق إنذار حيث طوقت قوات الجيش بالدبابات والسيارات العسكرية كل أحياء المدينة. والحصيلة هي أن عدد القتلى، الذين تم إقبارهم جماعيا، يفوق بكثير ماتم الإعلان عنه رسميا من طرف الجهات الرسمية. فقد وصل عدد القتلى إلى أزيد من 637 قتيلا، بحسب الداعين للإضراب. فيما قدرت إحدى الجمعيات اليسارية عدد القتلى بما يزيد عن 1000 قتيل. أما وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، فقد حدد القتلى في 66 فقط، نافيا أن تكون هناك وفاة بالرصاص الحي. لقد وصف المعطي بوعبيد، الوزير الأول وقتها بالتلميذ النجيب لصندوق النقد الدولي. فحينما غادر أحمد عصمان، الذي كان يسميه خصومه ب» «الأمير الصغير» لأنه كان صهر الحسن الثاني، الوزارة الأولى لكي يتفرغ لحزبه السياسي الجديد «التجمع الوطني للأحرار»، اختار الحسن الثاني المعطي بوعبيد لهذا المنصب في 22 من مارس من سنة 1979، والذي ظل يشغله إلى 30 من نونبر من سنة 1983 ليغادر هو الآخر نحو تأسيس حزب جديد هو «الاتحاد الدستوري»، الذي حمل بتخطيط من إدريس البصري شعار جيل ما بعد جيل الاستقلال. وهو الحزب الذي لم يكن اختيار أمينه العام ولا اسمه اعتباطيا.
فرمزية الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد كانت في حاجة لبعض التشويش. لذلك اختير بوعبيد ثان، لكنه يحمل هذه المرة اسم المعطي. أما الاتحاد الاشتراكي، فسيسرق منه اسم الاتحاد ليعطى للحزب الجديد الذي أصبح يحمل اسم الدستوري، وليس الاشتراكي. ظلت الفترة التي قضاها المعطي بوعبيد على رأس الوزارة الأولى من أصعب الفترات التي عاشها مغرب الثمانينيات.لقد كان سهم إدريس البصري في الصعود، وهو الذي كان يرسم الخطوط العريضة للحياة السياسية، ويتخلص، عن طريق الاعتقال والاختطاف، من خصومه السياسيين. في الوقت الذي لم يكن صوت المعطي بوعبيد يعلو على صوت وزيره في الداخلية. وكانت أكبر الامتحانات التي هزت حكومة المعطي بوعبيد، هي أحداث الدار البيضاء التي اعقبت إضراب يونيو من سنة 1981، بعد أن قررت هذه الحكومة الرفع من أثمنة عدد من المواد الأساسية، خرج المواطنون للتظاهر ليجدوا أن قوات الأمن والجيش تحاصرهم، وتطلق عليهم النار ليسقط آلاف القتلى، ويعتقل بعد ذلك الآلاف. لقد اعتبرت حكومة المعطي بوعبيد وقتها تلميذا نجيبا لصندوق النقد الدولي، لأنها لم تتردد في تطبيق ما ظل يطلبه منها، وهي تنخرط على حساب القدرة الشرائية للمغاربة فيما عرف وقتها ب» سياسة التقويم الهيكلي»، والتي تسببت في عدة أحداث اجتماعية همت مدن الدار البيضاء وغيرها. وهي الأحداث التي رافقها قمع واضطهاد واعتقالات ظل يشرف عليها إدريس البصري، أقوى وزراء داخلية الحسن الثاني، على الرغم من أن حكومة المعطي بوعبيد، الذي لم يكن وقتها قد أسس بعد الاتحاد الدستوري، ضمت في صفوفها وزراء من حزب الاستقلال كان أبرزهم عز الدين العراقي، وزير التربية الوطنية الذي رفض بعد ذلك الاستقالة من هذه الحكومة وتنكر لحزبه ليكون جزاؤه هو أنه سيصبح بعد ذلك وزيرا أول منذ سنة 1986، في حكومة سيصفها الزعيم النقابي محمد نوبير الأموي بحكومة «المناقطية» في استجواب أجراه مع جريدة البايس الإسبانية ستكلفه السجن. انتهى إضراب العشرين من يونيو من سنة 1980، وراحت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، تحصي قتلاها، بدأت الاعتقالات العشوائية في صفوف الشغيلة، وعلى رأسها المكتب التنفيذي للكونفدرالية، وعدد من المناضلين الاتحاديين، الذين زج بهم في السجون. بالإضافة إلى الآلاف من المواطنين الذين خرجوا للتظاهر، حيث وصل العدد لحوالي 26 ألف معتقل. كما تم منع جريدتي المحرر وليبراسيون من الصدور بصفة نهائية. أما بطل هذه الأحداث، وزير داخلية الحسن الثاني، فقد قال ببرودة دم، هل نسمي هؤلاء الذين سقطوا في شوارع الدار البيضاء في يونيو من سنة 1981، ب» شهداء كوميرا».
انتفاضة دفعت الحسن الثاني للإعلان عن حالة الاسثتناء
على الرغم من أن أحداث مارس من سنة 1965 لم تكن تحمل صفة الإضراب العام، كما سنعيشه في يونيو من سنة 1981 أو في يناير من سنة 1984 أو إضراب سنة 1990، إلا أن انتفاضة الطلبة والتلاميذ في الدار البيضاء كانت أكبر وأعنف بالنظر لعدد القتلى وعدد المعتقلين الذين تم الجز بهم في سجون الحسن الثاني. يتحدث المتتبعون على أن اندلاع أحداث الدار البيضاء في مارس من سنة 1965 هي التي أفاضت كأس الملك الراحل في علاقته المتوترة مع المعارضة. لذلك سيعلنها شهرين بعد ذلك، مملكة يحكمها بمفرده دون حاجة لبرلمان ولا لمؤسسات منتخبة، حينما أعلن عن حالة الاسثتناء. وسيخرج التلاميذ للشوارع للاحتجاج على قرار حكومي قال بطرد التلاميذ الذين استنفدوا سنوات تمدرسهم من التعليم العمومي لكي يلتحقوا بمراكز التكوين المهني. لقد شكلت انتفاضة الدار البيضاء أول اختبار حقيقي للملك، خصوصا وقد سقط فيها آلاف القتلى، وزج بأعداد كبيرة في السجون بعد أن ظل الجنرال أوفقير يطوف بطائرته الهيليكوبتير فوق سماء الدار البيضاء، التي عرفت ارتفاع حدة المواجهات مع قوات الأمن على امتداد ثلاثة أيام متكاملة. كانت الأزمة الاقتصادية قد امتدت لجل المجالات بعد أن فشلت الخطة الخماسية الأولى التي وضعتها حكومة أبا حنيني. ووصل عدد المعطلين وقتها في مدينة الدار البيضاء بمفردها إلى أكثر من 300 ألف. وزاد الأمر صعوبة أن أخرجت وزارة التربية الوطنية قرارا بإبعاد كل التلاميذ الذين وصلوا سن الثامنة عشرة من الثانويات، وإلحاقهم بالتعليم التقني. وفي الوقت الذي كان مبرر الحسن الثاني بعد اندلاع الأحداث، هو أن التعليم يجب أن يتم ربطه بعالم الشغل الذي كان في حاجة لمتمرسين أكثر من حاجته لمتعلمين تعليما عاما، قالت المعارضة إن قرار الحسن الثاني كان بخلفية سحب البساط من تحت أقدام تلك التنظيمات السياسية المعارضة التي استطاعت أن تستقطب التلاميذ إلى صفها. وهي التنظيمات التي ستؤسس بعد ذلك منظمات « 23 مارس»، و»إلى الأمام». اندلعت الأحداث في مارس من سنة 1965. لكن الحسن الثاني لم يعلن عن حالة الاسثتناء إلا في السابع من يونيو من السنة نفسها. لم يكن الملك الراحل يرى أن مواجهة متظاهري الدار البيضاء من الطلبة والتلاميذ، وإسقاطهم برصاص الجيش عملا غير مشروع. إنه عين العقل بحسبه من أجل استتباب الأمن. لذلك سيعترف في خطابه بأنه هو من ظل يعطي الأوامر لجنراله بقتل المتظاهرين. أما الإعلان عن حالة الاستثناء بعد ذلك، فقد شكل بالنسبة له محطة ضرورية من أجل إعداد الإصلاحات السياسية اللازمة. غير أن هذه الاصلاحات امتدت لخمس سنوات حكم خلالها الحسن الثاني بمفرده بعد أن وضع كل السلط بيده. فقد جلس الملك الراحل ليلقي خطابا، سيكتشف المغاربة أن الحسن الثاني سيرتجله لأول مرة منذ تولى العرش. لذلك جاء الخطاب مليئا بالكثير من الاتهامات، وإن كان قد اعترف فيه بأن المغرب يعرف ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة بعد أن أضحت الهوة واسعة بين الإنتاج والاستهلاك حيث لم يسجل الإنتاج الداخلي خلال العشرسنوات الأخيرة مثلا إلا 1.6 في المائة، في الوقت الذي ازداد فيه عدد السكان بنسبة 3 في المائة..أما المنتوج الفلاحي، فلم يعد يفي بالغذاء الضروري لمجموع السكان». كان خطاب السحن الثاني، بعد انتفاضة الدار البيضاء التي ستجعله يفكر في صيغة لكسر شوكة المعارضة التي رأى أنها في طريقها لتصبح قوة ضاربة بعد أن نجحت في اختراق صفوف التلاميذ، ووضعت اليد على الطلبة والعمال والفلاحين، قويا. قال غاضبا إن المغاربة الذين انتفضوا في الدار البيضاء، والكيفية التي عبر بها هؤلاء عن استيائهم ليست طريقة لائقة. «لقد استحييت، يقول الحسن الثاني بنبرة قوية، ولم أرض أن يستولي هذا البلد المتحضر قانون الغاب والفوضى». أما العائلات التي خرج أبناؤها للتظاهر في شوارع الدار البيضاء ضد قرار وزير التعليم بالتشطيب عليهم من التعليم الثانوي، فقد واجههم الحسن الثاني بنبرة الغضب نفسها «هل يخفى عليكم أيها الآباء والأمهات أن جيلنا هذا سينقرض يوما وسيموت.. وأن هذا الجيل الذي أخرجتموه إلى الشوراع هو الذي سيخلفه..إن الأباء والأمهات الذين دفعوا بأبنائهم إلى الشارع لأجل التظاهر، كانوا مخطئين لأنهم عودوهم على الفوضى وقانون الغاب.. حذار حذار. فمن تجرأ لك تجرأ عليك». أما رجال التعليم، فقد خصهم الحسن الثاني في هذا الخطاب بكلمات لا تزال إلى اليوم تترك أثرها في نفوسهم، لدرجة أصبحت معها سبة يتم ترديدها بمناسبة وبدونها، حينما وصفهم بأشباه المثقفين، لأنهم هم من دفعوا، بحسبه، التلاميذ للخروج والاحتجاج. قال الملك الراحل « أخيرا أتوجه إلى الأساتذة وأقول لهم إنه من عادة الرجال، وعادة المثقفين بالخصوص أن تكون لهم الشجاعة الكافية للتعبير عن أفكارهم لا أن يستغلوا التلاميذ، ولا أن يتستروا وراء الأطفال..يجب عليهم أن يكونوا رجالا ويخرجوا هم إلى الميدان.. فهم أدرى بأحوالهم. والسلطة أدرى بأحوالها..إنهم يوصدون المدارس ويأمرون التلاميذ بمغادرة الفصول للخروج إلى الشوراع. فلماذا لم يخرجوا هم أنفسهم بدل أن يخرجوا التلاميذ؟ أين هي رجولتكم وشجاعتكم؟ ولكن اسمحوا لي أن أقول لكم إنه لا خطر على أية دولة من الشبيه بالمثقف.. وأنتم أشباه المثقفين.. وليتكم كنتم جهالا». لم يستسغ رجال التعليم كل هذه النعوث التي أطلقها ملك البلاد في حقهم وهو يصفهم بأشباه المثقفين، لذلك ظلت المعارضة تراهن بعد ذلك على هذه الفئة وهي ترص صفوفها لمواجهة الحسن الثاني بعد ذلك. هذه المعارضة نفسها، هي التي سيخصها في خطابه المرتجل نفسه بفقرات نارية حينما قال « كفاكم من إلقاء الخطب الفارغة..كفاكم أن تقولوا لنا المسائل التي لا تتقون بها ولا تؤمنون بها..كفاكم أن تقولوا لنا الإصلاح كذا، والحال أنكم، بل الجل منكم، ليست له نظرة حقيقية عن الكلام الذي يتشدق به»… أنا، يقول الملك الراحل في الخطاب نفسه الذي أعقب انتفاضة الدار البيضاء وهيأ المغاربة لقرار حالة الاسثتناء وحل البرلمان، مؤمن بالديمقراطية وبالنظام الذي اخترتموه كنظام للملكية الدستورية..لكن أقول لجميع النواب إنني غير متيقن أنكم تؤمنون بها كل الإيمان مثلي..إنكم لو كنتم مؤمنين بها في الحقيقة، لما ضيعتم أوقاتكم في سفاسف الأمور..» قبل أن يخلص في مواجهته لنواب الأمة بالتهديد والوعيد «أقول لكم أيها النواب، وأقول لكم أيها المنتخبون إنكم متشبثون بالحصانة فقط، ومتشبثون بما تتقاضونه كل شهر من الدولة.. وأطلب منكم أن يكون لكم ضمير مهني كاف لكي تعطوا لتلك الدولة، وذلك الشعب المقابل للشيء الذي تتقاضونه..بل كل واحد منكم لا يفكر في المصلحة، بل في الشيء الذي يقوله أصدقاؤه..نعم إنه جميل أن يكتب عنكم في الجرائد والصحف..ولكن هل تؤمنون بذلك؟ لا لا يؤمنون أيها الشعب». هكذا فجر الحسن الثاني غضبه بعد أحداث الدار البيضاء في مواجهة العائلات التي دفعت بأبنائها إلى الشوارع، ليعم قانون الغاب، على حد تعبيره. وفي مواجهة الأساتذة، الذين هم مجرد أشباه مثقفين. وفي مواجهة نواب الأمة، الذين هم متشبثون فقط بالحصانة وبما يتقاضون من أجور وتعويضات. وفي مواجهة المعارضة التي لا تضيع الوقت في سفاسف الأمور. لذلك وجد، وكما سيكشف ذلك لمستشاره عبد الهادي بوطالب، أن أنسب الطرق لنزع الفتيل، هو حل البرلمان، والإعلان عن حالة الاسثتناء التي حكم خلالها بمفرده لخمس سنوات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.