أسترجع لحظات الحج، في شكل مدارات كتابية، عن تلاطم المعرفة والإيمان، المشاهدات المهنية مع الفتوحات المكية، كما رصص لها الطريق، بخيال زلال ولغة طافحة صاحب المراتب العليا ابن عربي. وبنقل ما كان يدور في ذهني وما يدور أمامي، وما كنت أراه من إعادة تمثيل نوبات من النبوة، في المدينة أو في طريق منى والجمرات، والحوارات التي تجعل الأمان أحيانا أكثر قلقا من الغربة في الوجود، مع الحرص على أن تكون للتأملات الصحافية حظها من الجدارة الدينية، كما للمشاهدات المحسوسة قسطها من مراتب الوجدان… كنت أحدس بأن حياتي ستدخل منعطفا غير مسبوق، وتتغير رأسا على عقب. لا لأني جئت إلى الحج من فراغ روحي طافح ومطلق، أو من فيافي ديانة أخرى، أو من فراغ عقدي، كلا. لم أكن طارئا على الغيب: فَأنا ليَ فيه أقاصيص ورؤى من الطفولة. فقد كنت أصوم وأصلي وأزكي وشهدت الشهادتين بالسليقة والإرادة والالتزام اليومي مع كل خطوة أخطوها في الحياة. وعليه كان الحج واردا في منطق الأشياء، ولما تحقق الإمكان واستوفيت القدرة، تحققت الزيارة … هل أزعم بأنني لم أكن عرضة للشك، أو لتنسيب الاعتقاد، أو حتى للابتعاد عن نشأتي الدينية وسط أسرة تسكن بالقرب من المسجد، تولت القيام بشؤون هذا المعبد من جيل لجيل، من جد وعم وخال وأخ؟ لا يمكن لهذا الادعاء أن يكون صادقا.. ربما من بين كل الملايين من الذاهبين إلى المكان المقدس، كنت موزعا بين دعة وسكينة حياة ألفتها، وحياة تتراءى في مستقبل مثير أو لعله ملغز… كنت مقبلا على قطيعة أنثروبولوجية، بين اليومي المتكرر وبين الجدول الزمني العام والأفكار التي لا تمتحن بميزان العدم! لكن كنت أحدس أن قلوبنا التي نضعها مؤتمنة عند صاحب القيامة، تعرف كيف تلتفت للنظر في الحياة والنظر إليها من جهة أخرى. كنت مثل من وجد الجواب عن معنى حياته، لكن الذي يقلقه هو السؤال الذي يكون بعده! أو قُلْ صرت لا أجزم بأن الإيمان أو الارتكاز إلى حقائق، يُعفي من … القلق الأنثروبولوجي! التحول كان في الخطوة نفسها، مع تدقيق النظر في الهوية الدينية على مشارف الستينيات.. كهوية في الموقف من الحياة اليومية في سريانها: كيف أعيشها وقد تخليت عن بعضها الكثير…؟ كيف أواصل العيش، ولم تعد الحياة أولوية، وقد تجاوزتها مشاغل الموت في الجولة السادسة من العقد السابع من العمر، وكيف لا أساير جسدا تعود على الجموح، كنمط وحيد في الكينونة؟ جسد الإيروس الطافح، وهو يستدرج نفسه إلى الطيطانوس الغابر؟ كنت أعرف أيضا أن هناك تيارا من المقادير يجرني: لقد أصبحت محاطا بالموت والموتى من الأصدقاء والأهل. لا يمكن أن أسلُّم بأنهم ذهبوا إلى اللامكان، اللاعالم صنو العدم الجليل، أو تبخروا في الثقب الأسود لما قبل الخليقة، كما يشاء علماء الفيزياء الكوانطية، ووجدتني في مفترق المشاعر لا القناعات أتساءل، أي طريق سأسلك إلى ذلك… الاطمئنان على قسطي الإنساني من الروحانيات كان يتطلب أن تكون الكعبة رمزًا لقلبي كما يشاء الشيخ ابن عربي!
لم يكن الحديث يخلو من مقارنة بين المدينةومكة، والتي لم نكن قد وصلناها بعدُ… تقابل قائم، لا شك، على تقديس نابع من دور المدينة في احتضان النبي »المهاجر«، وأهله معه…، في وقت كانت مكة قد طردتهم. لم يغفر المسلمون المتأخرون من أمثالنا لمكة أنها طردت النبي، بالرغم من أنها أرض إبراهيم وهاجر وإسماعيل من قبل. القرية، يثرب التي ضمدت جراح النبي، كانت أقرب إلى إنسانية القادمين من الأصقاع. مما كان يبعث على الابتسام، هو أنه من بين كل الشعوب المسلمة التي كان حجاجها يتهادون أمامي، كان أغلب الذين يصلني صوتهم أو أجدهم بالقرب مني… أشقاء جزائريين، كما لو أننا نقلنا الجوار الجغرافي …إلى جوار رباني. مرة في صلاة الجمعة الأولى والوحيدة في الواقع داخل المسجد النبوي، لعله كان اليوم الأخير قبل مغادرتنا إلى مكة، كان جزائري حاج رفقة إخوة أشقاء له، وقد هممنا بالاصطفاف قصد الصلاة، مر بيننا رجل كان يبحث عن مكان للصلاة، أمام ازدحام الداخل، شعرت بالشقيق الجزائري تأوه، التفت إلى شقيقه وقال له: »"والله ضربني، ما عرفتش كيفاهْ، داز وبحال كورون دير ماله ما عرفتش هذاك راهو مول النواظر على راسه«" ابتسمتُ، ربَّت المرافق على كتفه، وشرعنا في الصلاة وكلامه لا يفارق . سمعي. مرات عديدة، في الحرم المكي أيضا وجدت نفسي في نفس الصف حتى استقر في ذهني أنني لن أجد سواهم. ودار الحديث مرات عن سؤال بسيط أو طلب معلومة، كما حدث لشقيق جزائري أمام مقر الإقامة، فندق ضيافة الرجاء، بالمدينة… في المدينة دوما، حدث ونحن في باحة المسجد، أن قصدني رجل في قوة كهولته، يضع جرابا على كتفه. اقترب مني وسلم، قال لي: أخوك يمني، قلت السلام، وبدأت أسأله عن الحرب، وأتحدث عن اليمن الذي كان ذات يوم سعيدا، وعن مساهمة اليمنيين في الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، وكنت أدعو لشعب اليمن، لكن صاحبي لم يبد عليه أنه مهتم للغاية بما يقع، وكان متلهفا للحديث وسرعان ما انتقل إلى وصف حالته: "أخوك يمني، جئت رفقة الحاجة، أضاعت المال، أربعة آلاف ريال، لا نملك الآن ما نتمم به الحج"، لم يبد عليه أي أسف خاص، فعلا لم أكن أحمل معي ما يمكنني مساعدته به، اقترحت عليه أن يرافقني إلى الفندق »وهناك يمكنني أن أساعده وأطلب من الحجاج المغاربة أن يمدوا له يد العون… كان عقلي في الحرب، وكان عقله في الجيب. لم يعجبه مقترحي، فانتقل بنفس الطريقة إلى حاج آخر. تبيّن لي من محفظته أنه شقيق جزائري. لم يطل معه الجلوس، وقضى بضع دقائق على هذه الحال، ثم غاب، رغم أن إقامة الصلاة قد آن أوانها. ومرة، في شارع إبراهيم الخليل بمكة، سألني شقيق جزائري – أنا المغربي، من بين عشرات الحجاج الذين يذرعون الشارع ذهابا وإيابا مرتدين إحرام العمرة – عن طريق الذهاب إلى مسجد عائشة لأجل إشهار النية في العمرة. أرشدته إلى المكان الذي تنتظر فيه سيارات الأجرة التي تقلّ الحجاج إلى مسجد عائشة رضي الله عنها، وأنا أبتسم… من ذلك الشاب الذي اختار جاره المغربي ليدله عليها؟ هل كان يشعر بأن أقرب اللهجات إلى روحه هي اللهجة المغربية؟ هل آنس فينا جوارا روحيا، كذلك، لا يبْلى.. ؟ لست أدري، لكن الذي كان يحدث وسيحدث من بعد، لا سيما من قصص يرويها حجاج آخرون، أو حاجات وقف حجاج جزائريون في وجه النصب عليهن…أو عشتها في الحرم المكي، ستعطي لهاته اللقاءات مع الجزائريين معنى آخر. لعل المشهد الذي لن ينسى أبدا هو تلك الصورة التي علقت بذهني، وأنا في الحرم المكي، أمام الكعبة يوم الجمعة، كان الجو خانقا من الحر، وكنت أتصبب عرقا، أكثر مما تعودت، عرق مثل المطر حقا ينزل على رخام الحرم، بالقرب مني قازغستانيين وأثيوبيين، كما أقرأ على ألبستهم، وأمامي حاجين، تحت مظلة شمسية واحدة، في تناغم، عندما اقتربت منهما سمعت لهجة مغربية وجواب وحوار باللهجة الجزائرية، كانا معا تحت المظل نفسه، يقول الواحد منهما للآخر: "أنا هنا لا أقول إنني جزائري فقط"، ويجيب الآخر: "أنا هنا لا أقول إنني مغربي فقط، بل مسلم كذلك"، تتخلل محاوراتهما كلمات بالفرنسية، أخمّن أنهما معا مهاجران. خمنت في البداية أنهما قدما من الخارج معا، لكن سرعان ما اتضح لي أن كلا منهما جاء من بلده، كل في مسار خاص به. عندما بدآ الحديث عن تكلفة الحج، وجدتني أنصت بنوع من المودة إلى ما يدور بينهما. لم أحاول أن أفهم سببه، ولا أن أفسر دواعيه. كنت مأخوذا بصورة »فينومينولوجية- تلك الصورة التي تجمع بين حنين مغاربي دافئ، وطمأنينة إيمانية تُلطّف الحيطة والتوجّس اللذين قد يطفوان على السطح. حدث بالفعل أن وقع ما يشبه ذلك، ذات يوم عندما توجهت إلى منى، وقفت في الصف المنظم لزيارة الطبيب، وكنت أبحث عن دواء عاجل للزوجة، أمامي مغربي وجزائري يتحدثان، وورائي جزائري يتابع مثلي الحديث، دار الموضوع حول كلفة الحج، من بين أشياء أخرى، ترجم كل واحد المبلغ إلى الدولار واليورو لمعرفة الأفضل، كان المغربي قد خلص إلى القول "»احنا تقريبا بحال رجال«"، فما كان من الحاج الذي كان يقف ورائي مباشرة إلا أن قال»: "قالاك بحال بحال، احنا ماشي بحالكم«"، ضحكت من وصول الخلاصة محرفة إلى عقل الحاج الشقيق، وابتسم الحاج الجزائري الآخر من فهمه الخاص. في بهو الفندق أو بين أعضاء الفريق الواحد، على الرصيف كما في محلات البيع، كان الجوار يأخذ معناه، وكان يسري بين حجاج البلدين ككهرباء صامتة. ابتسامات خاطفة أو تحية. كلمات متبادلة وقصص، كان صديقي الحاج عبد الرزاق، الذي خلق لاسمه هالة خاصة وسط المجموعة، قد روى لي، ليلة الوقوف بعرفة، ونحن ساهرون إلى ساعة متقدمة من الفجر، عن قصته مع حافلة جزائرية، في حجة سابقة له. كان قد أضاع السفر مع المجموعة وكان عليه أن يتوجه راجلا إلى منى. في الطريق، وقد أخذ التعب منه مأخذه، طلب من شرطي المرور أن يساعده على الوصول، لاحت شاحنة تقل حجاجا جزائريين، أوقفها الشرطي السعودي. يقول الحاج بحرقة ما زالت تأكل أحشاءه: "لقد رفضوا أن أركب معهم بعد أن عرفوا أنني مغربي". أعدت السؤال غير مصدق لما يقول، فأعاد علي الجواب والحرقة معا! هونت عليه وعلى نفسي، قلت "قد تكون مجموعة رسمية، وتحت ضغط الشحن الإيديولوجي"، وطوينا الموضوع. لم تتكرر القصة، حسب ما تابعت طوال أيام الحج، ووصلتنا أخبار طيبة عن الجوار الروحاني بين الحجاج، تماما كما كانت تصلنا الأخبار الطيبة عن التعامل من طرف السعوديين مع الحجاج الإيرانيين، عندما اندلعت الحرب، وتلك قصة سنعود إليها، وإن كانت الحرب لم تصل بكامل طبولها وصليل سيوفها إلى المدينة ولا إلى مكة، إلا لمن كان مسكونا بالأخبار، مثلي. روت لنا حاجة من المجموعة أنها كانت تتبضع في شارع إبراهيم الخليل، نهارا، وعند دفع الثمن أعطت البائع ورقة نقدية من 500 ريال، وهو مبلغ محترم يوازي 1500 درهم مغربية، بدا على البائع الجشع، وبدأ يماطل في نقدها الباقي، ويتعلل بأنه سيذهب للبحث عن مكان لصرفها، فما كان من حاج جزائري كان يتابع المشهد سوى التدخل وأخذ الورقة المالية من يد البائع وإعادتها إلى الحاجة المغربية، طالبا منها أن تغادر، فهذا البائع لا يناسب سذاجتها، وعلقت في الأخير:» "هادوا خوتنا مزيانين ماشي بحال اللي كانسمعو"«، في خلط واضح طبعا بين الأشقاء وبين نظامهم. وكان لا بد من أن يعقب الضحك والمزاح ردها الطيب الخلوق…