تأخذ أخبار الفتوى الدينية الغريبة، حيزا كبيرا في الصحافة العربية، ففي كل صباح و مساء، تقرأ عن الداعية الفلاني المثير للجدل، و العالم الفلاني المثير للخجل!، وهذا التوسع و الانتشار يرجع إلى سببين رئيسين: الأول: غالب الصحف العربية، إن لم نقل الكل، تبحث عن الإثارة، من خلال تناولها لهذا الرباعي " السلطة و الدين و الجنس و الجريمة "، و التي يجمعها أهل الصحافة في قولهم " صاحت الملكة يا إلهي، الأميرة حامل، من الذي فعلها"، و لكم أن تتخيلوا كيف سيكون حال الصحفي، إن اجتمع في الخبر " الدين و الجنس" !. ثانيا: يحتل الدين في حياة الإنسان موقعا متقدما، حتى قيل قديما" الإنسان حيوان ديني "، فلايمكن أن يحيا بدون الحديث في الدين، و العيش بالدين، و ممارسته، و الدعوة إليه، و البحث عن أجوبته في قضايا كثيرة، فهو في مسيس الحاجة إلى الدين، أكثر من حاجته إلى الأكل و الشراب !. يدرك رؤساء التحرير في الصحف العربية، ما يريده المواطن، وما يثير انتباهه، وما يستفزه، ولذلك كثيرة هي الصحف، التي وضعت قائمة للشخصيات " المثيرة للجدل"، لا لأنها مقتنعة بما يصدر عنها من مواقف و أفكار، بل تعرف أن هذه الشخصيات، ترفع منسوب استهلاك مطبوعاتها الصحفية، ولذلك نجد صحفا، صنعت نجوما في التحليل السياسي ، و نجوما في الإثارة الفنية..بل إن الصحافة صنعت نجوما في الخطاب الديني بشكل من الأشكال...و في الإعلام مقولة شائعة " ليس المهم ما تقول ولكن المهم كيف تقول" ، فالكيف هنا هو الإثارة..و لم لا "الإثارة الدينية"... نرى أحيانا ملفات تنبش في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة مستفزة، أو النبش في التاريخ الإسلامي، بالحديث حياة البذخ و الترف و المتعة..، أو إثارة قضايا استشراقية حول " القرآن الكريم " ، و الحديث أيضا عن ترجمة القرآن بالدارجة المغربية مثلا !.، فهذه القضايا الاستفزازية، تستقطب القراء بكل أصنافهم و أنواعهم، و توجهاتهم، سواء كانوا من الرافضين أو من المدافعين.. كمؤشر دال على حجم تفاعل القراء مع مثل هذه القضايا، يمكن الرجوع إلى خانات التعاليق، على المواقع الإلكترونية الإخبارية، للتأمل في نوعية التفاعل، الذي يصل أحيانا إلى حرب جاهلية، بين داحس و الغبراء !، والمستفيد الأكبرطبعا، هو صاحب الموقع الإخباري، الذي يراكم قاعدة بيانات زوار موقعه، ليفاوض بها، لجلب الإعلانات و الإشهارات. انطلاقا مما سبق؛ على كل عالم شريعة و داعية إلى الإسلام أن يكون متيقظا، و عارفا بالصحافة و خباياها، و لتحقيق هذا الأمر، أقترح ما يلي: - على المؤسسات التي تخرج العلماء، أن تصيغ برامج تكوينية، موضوعها كيفية التعامل مع الصحافة و الإعلام؟ كيف تجيب على أسئلة الصحفيين؟ كيف تصرح للإعلام؟، و من المعلوم في الدورات التدريبات، تدريب خاص لرؤساء الجمعيات و الأحزاب السياسية في كيفية الإجابة على أسئلة الصحفيين، و تدريب علماء الشريعة و الدعاة من باب أولى !، و على هذه المؤسسات أن تدرب العلماء الذين أصبحوا نجوم الفضائيات و المواقع الإجتماعية، أن تدربهم على صناعة الخطاب الجامع لا المفرق، فالكثير من الدعاة و العلماء، لم يدركوا التحول الذي حصل في مسيرتهم، فأن تحدث الناس في مسجد الحي بخطاب معين، يختلف تماما عن أن تخاطب الناس من الفضائيات أو اليوتوب، فالخطاب الأول خاص، و الخطاب الثاني عام، يسمعه في زمن الانفجار المعلوماتي الملايين من الناس، من كل الشعوب و البلدان و الثقافات.. - على عالم الشريعة أن يدرك أن " سؤال الصحفي"، ليس كباقي أسئلة المواطنين، الذين يطلبون فتاوى تجيب عن أسئلة شخصية خاصة جدا، نعم لكل سؤال جواب، لكن من الأجوبة ما لا تجوز أن تكون عامة في الصحافة و الإعلام، لأن الفقيه كالطبيب، لكل حالة خاصة دواء محدد، بل إن الشاطبي رحمه الله 790ه، تحدث في كتاب لواحق الاجتهاد، عن أحكام السؤال و الجواب، و أشار إلى أن العالم إذا سأله متعلم، فإن علم بأن السائل، ممن لا يحتمل عقله الجواب لم يفته، و لو كان الشاطبي في زماننا لقال في الصحفيين الذين يبتغون الإثارة، ويسألون أسئلة التغليط و الاعتراض المبطن، قولا بليغا ! ، و كثير من العلماء الخلص، كان بعض الصحفيين سببا في توريطهم في مشاكل صعبة جدا، و سببا في تشويه سمعته لدى الجمهور. - على المؤسسات الصحفية، التي أدركت بوعي ، حاجة القراء إلى الخطاب الديني، أن تتحرر من القاعدة التي تقول" إن الصحفي يكتب عن القطار الذي لم يصل في الوقت، و لايكتب عن القطار الذي وصل في وقته"، تنزيل هذه القاعدة على المجال الديني، ستجعل الصفحات الدينية متخصصة في البحث عن الفتاوى الغريبة و الشاذة، و في المقابل؛ جمهور الناس في حاجة إلى خطاب ديني علمي رصين، و ستتخصص في كل مظاهر التدين المنحرف، لإبرازه تقريرا، لواقع ما. و لتجاوز هذا الوضع، كما أن بعض الصحف، تنتقي بعناية الصحفي المشرف على الصفحة التربوية أو الفنية أو الرياضية، فبالمثل؛ عليها أن تنتقي بدقة الصحفي المشرف على الصفحة الدينية، الجامع بين المهنية الصحفية و الثقافة الدينية العامة، ليحقق التوازن المطلوب، و ليس الغرض من هذا أن تتحول الصحيفة إلى منبر لخطب الجمعة و المواعظ الدينية، بل إن الغرض أن تخبر الناس بما ينفعهم من الإصدارات و الندوات و المناظرات، و الحوارات .. - كما أننا نسمع عن اللقاءات و المؤتمرات الحوارية التي تعقدها الصحافة مع كل الفاعلين في المجتمع، كمؤتمرات الصحافيين مع رجال العدالة و القضاء ..، فإنه ينبغي أن تعقد مؤتمرات بين علماء الشريعة و رجال قبيلة الصحافة، للتحاور و النقاش و تبادل الآراء و الأفكار، و تحديد الأدوار، وفهم كل طرف طريقة اشتغال الطرف الآخر، فمثل هذه اللقاءات، ستخرج الكثير من العلماء من عزلتهم، و سيقدم الصحفي خدمة غالية للقراء، لأنهم رأسمال أي مؤسسة صحفية، فبدونهم تموت و بوجودهم تحيا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.