من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. ف«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة. أشرت إلى ثبات المنهجية المخزنية في التعاطي مع الريف دون تغيير جوهري حتى وقتنا الراهن، خصوصا تكرار تهمة الانفصال التي تبرر القمع، فهل ظلت أهداف السلطة نفسها؟ بالأمس كان الهدف هو القضاء على تغوّل حزب الاستقلال، كي لا يحدث في المغرب ما حدث في تونس، حين ألغى برلمان بورقيبة الملكية، وأزاح الباي بدون مقاومة تذكر؛ لأن تونس لم تكن فيها تعددية حزبية تستطيع أن تقف في وجه بورقيبة. ولذلك لجأ القصر المغربي إلى البحث عن «أرانب قوية الشكيمة» تساعده على الانتصار في سباقه ضد حزب الاستقلال. وقد لا تختلف أهداف ما يحدث اليوم عما حدث في السابق. غير أن بعض الأسرار والحقائق ستبقى غائبة بعض الوقت، طبقا للقاعدة القائلة «المعاصرة حجاب»، وتطبيقا لتقاليد مخزنية مغربية لا تزال حية حاضرة في مشهدنا السياسي. لكن التوثيق الذي يقوم به المغاربة الأحرار للأحداث واستقرائها استقراء علميا، والقيام بالنبش عن جذور الحراك وأهداف صانعيه، الظاهرين منهم والمحتملين، قد يساعدان أجيالا جديدة على توظيف وعيهم بطريقة مغايرة لما سبق. توقفنا عند العوامل التي حدّدت وعيك السياسي، ماذا عن العوامل التي أسهمت في تبلور وعيك الاجتماعي والثقافي؟ أدرك جيدا اليوم أن سكان الريف كانوا لا يفرقون في غالبيتهم بين ريفي ومغربي وعربي ومسلم، فالأربعة واحد بالنسبة إليهم، حتى جيء بموظفي الإدارة المغربية الجديدة من داخل مناطق تختلف ثقافتها في بعض مظاهرها عما وجدوه لدى ساكنة الريف. وكان أن اعتقدوا بأن ثقافتهم أسمى من ثقافة الريفيين، وإثنياتهم أو مجتمعاتهم المحلية أرقى من الإثنية الريفية. وقد صاحب ذلك إطلاق نعوت استصغارية مُهينة للساكنة، لم يكن لها سابق الحدوث، حتى في تصرفات قوات الأمن الإسباني. هل كانت تصرفات فردية معزولة أم سياسة موجّهة؟ قد يكون ذلك، لكن تكرارها بدون تنبيه المسؤولين لفاعليها بأن يتجنبوها في تعاملهم وتصرفاتهم مع الساكنة، أو نهيهم وأمرهم بالتوقف عن تكرارها، يدفع إلى القول إنها كانت سياسة موجّهة. لذلك ترسخ لدى الساكنة أن ما يقوم به أولئك الموظفون من تمييز، يصل درجة العنصرية، بين سكان الوطن المغربي الموحد، ربما ولّد عند الكثير الاعتقاد بأنه خطة عمل مخزنية، تهدف إلى الانتقام من ساكنة الريف عن شيء لم يفعلوه. الأمر الذي جعل الكبار، والشباب، والصغار أيضا، يميلون إلى إعادة النظر في بعض قناعاتهم السابقة. ولم يكن الوضع يختلف في ميدان التعليم؛ فقساوة المعلمين المستقدَمين من المناطق التي تجهل لغة الريفيين وتقاليدهم وثقافتهم مع تلامذتهم كانت تتميز بالقسوة نفسها وبالاستصغار نفسه. أما معاملات «القوات الأمنية» من درك، وعسكر، وقوات مساعدة، وبوليس، المُهينة للساكنة، بسبب أو بدون سبب، فقمعها غير المبرر للساكنة لا يزال راسخا في الذاكرة الجماعية. تقصد أن كل ذلك كان تعبيرا عن سياسة موجّهة لاحتقار الريفيين؟ إذا لم تكن كذلك، فهذا يطرح السؤال التالي: ألم تكن السلطات مطلعة على تصرفات أعوانها المخالفة للقانون وللقيم الأخلاقية؟ ألم تكن على علم باحتقار موظفيها لثقافة السكان ولتقاليدهم الاجتماعية، وللغتهم الريفية التي لم يكونوا يعرفون غيرها؟ ألم تكن تعلم أن ما تقوم به الإدارة المغربية نحو الساكنة كان دون مستوى الإدارة الاستعمارية بكثير؟ ألم تكن تعرف أن التلاميذ الذين كانوا لا يحسنون الحديث بالدارجة المغربية العربية غالبا ما يتعرضون للرسوب والطرد؟ أما عناصر الدرك والعسكر فكانوا يسلطون غضبهم المصحوب بشتم «رعايا صاحب الجلالة» من ساكنة الريف بألفاظ شائنة، وبالضرب المبرح لكل من يجيب عن أسئلتهم بالريفية التي كانوا لا يعرفون غيرها. أعتقد أن هذه العناصر، أو العوامل، كانت محفزا قويا لبدء تكوين وعيي الأولي ووعي أقراني، بالوقائع المغربية؛ هذه الوقائع التي لم يتغير فيها، للأسف الشديد، إلا الأسماء، وبعض الشعارات. لكن البعض قد ينطلق من كلامك هذا ويقول إن الإدارة الاستعمارية كانت أرحم بالريفيين من الإدارة المغربية، أليس في ذلك مبالغة؟ يجدر بي أن أسجل هنا أنّ غالبية عناصر معرفتي بمعاملات الإدارة الاستعمارية السابقة استمددتها من الأجيال التي سبقتني؛ وبخاصة من الذين خبروا هذه الإدارة أو اكتووا بنارها يومذاك. ويستخلص من رواياتهم وأحاديثهم أن هذه الإدارة كانت تهتم، بالدرجة الأولى، بأمرين أساسيين: الأول، كيفيات الحصول عن تعويض خسائر إسبانيا المادية في حرب التحرير الأولى برئاسة محمد الشريف أمزيان ما بين 1909 و1912. ثم خسائرها الكبرى في حرب التحرير الثانية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1921 و1926. والأمر الثاني، المكمل للأول، كان يتعلق بابتداع طرق فرض الضرائب على السكان تحت عنوان «الترتيب». وكانت تشمل كل ما يملكه سكان الريف وكل سكان الشمال من مزروعات وأشجار، ومن حيوانات، حتى الدجاج ولو كانت دجاجة واحدة. إضافة إلى المكوس الباهظة المحصلة من رواد الأسواق. وقد كان لكل قبيلة سوق أسبوعي أو أكثر، كما كانت هنالك أسواق خاصة بالنساء فقط.