بعد أقل من ست ساعات من نهاية المباراة التي جمعت المنتخب المصري بنظيره الجنوب-إفريقي، والتي انتهت بإقصاء قاس لمنتخب البلد المضيف، كانت الشاشات تعلن بالبنط العريض استقالة رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم من مهامه، ومعه الطاقم الفني المشرف على المنتخب المصري. لا مجال هنا لإسقاط مقاييس السياسة والاقتصاد والتخلف والتقدم على رياضة اسمها كرة القدم. الأمر واضح ولا يقبل المزايدة، أن تفشل معناه أن ترحل. هنا في المغرب، تمرّ اليوم ثلاثة أيام على تلك الهزيمة المهينة والقاسية التي ألحقها منتخب صغير بحجم منتخب بنين، بفريق الأسود، الذي أنهى الدور الأول متصدرا مجموعته بتسع نقط. باستثناء التصريحات الاحترافية والذكية للمدرّب الفرنسي هيرفي رونار، لم نسمع «حسّا» لمسؤول من الجامعة الملكية لكرة القدم، فبالأحرى أن نطمع في محاسبة أو مساءلة أو استقالة أو إقالة. الأمر كلّه مجرّد مباراة في كرة القدم يمكن أن تنتهي بالفوز كما يمكن أن تؤول إلى الهزيمة أو التعادل، لكن العبرة هنا بالرسائل المشفرة التي يبعثها القائم على تدبير أمر المنتخب الوطني لكرة القدم، وحتى نكون منصفين، فإن الأمر لا يتعلّق بالجامعة ولا برئيسها فوزي لقجع وحدهم، بل يخص المنظومة الشاملة التي تحكم تدبير شؤون المغاربة. دعنا من رد فعلنا نحن المغاربة، والذي من الطبيعي والبديهي أن يكون شلالا من الغضب والاحتجاج، بعد الشحنة الكبيرة من الأمل والترقّب التي جرى ضخها في دماء المغاربة، ولننظر إلى الأخبار التي تواترت بمجرد إقصاء المنتخب المغربي من كأس الأمم الإفريقية، بل بدأت في الحقيقة قبل مباراة بنين. تقول هذه الأنباء إن هيرفي رونار يستعد للالتحاق بأحد المنتخبات العربية، المنتخب السعودي بوجه خاص، لتدريبه مباشرة بعد نهاية البطولة. المشرفون على المنتخب السعودي، على غرار مسؤولي عدد آخر من المنتخبات العربية والإفريقية التي تحاول الظفر بهيرفي رونار، تفرجوا مثلنا على أداء المنتخب المغربي في الكأس الإفريقية الحالية والسابقة وبينهما كأس العالم في روسيا، فماذا يعني سعيهم إلى التعاقد مع مدرّب لم يحقق شيئا مع المنتخب المغربي؟ التفسير الوحيد هو أن القريب والبعيد يعرفان أن الرجل كفء، وقبله كان هناك تسابق على التعاقد مع جل لاعبي المنتخب الوطني بعد مشاركته في كأس العالم العام الماضي، وبالتالي، فإن مسؤولي تلك المنتخبات يعرفون مقدار موهبتهم وقدرتهم على العطاء. هؤلاء لا ينظرون مثلنا إلى منتخب الأسود بمنظار العاطفة والتشجيع، بل بعين التقنيين العارفين بشؤون الكرة، وهم، بالتالي، يدركون أن العطب يكمن في التدبير والتسيير وليس في المدرّب أو اللاعبين. لسنا هنا بصدد الركوب على حدث بسيط من حجم هزيمة في مباراة كرة قدم، ولا هو ضرب من ضروب الشعبوية. نحن أمام رفع للغطاء عن حصيلة مرتبطة بسياسات عمومية تصرف عليها أموال دافعي الضرائب، وبمسؤولين، وإن كانوا «منتخبين» ويتمتعون بشطارة كبيرة في تعبئة الأموال من الشركات والقطاع الخاص، فإنهم في نهاية الأمر يدبّرون مشاعر شعب وعواطف جمهور، جلّه من الشباب الباحث عن بارقة أمل وفرحة مصدرها وطن ألقى بالملايين من أبنائه بين مخالب بؤس الفقر والبطالة والتهميش. إذا كانت الأدبيات السياسية أنتجت مفهوم «المجال المحفوظ»، الذي نحته أكاديمي فرنسي في الخمسينيات للإشارة إلى الاختصاصات الحصرية للرئيس شارل دوغول، فإننا في المغرب حوّلنا الرياضة، خاصة كرة القدم المرتبطة بالمنتخب، إلى مجال محظوظ. وإلا كيف يمكن أن نصف قطاعا تضخ فيه الدولة وكبريات الشركات العمومية والخاصة الملايير سنويا، وكلّما سُجّل هدف بضربة حظ هنا أو هناك يحصل القائمون على هذا الأمر على الميداليات والأوسمة، ومع كل خيبة جديدة يخفون رؤوسهم في التراب في انتظار مرور موجة الغضب؟ من حقّ الدولة أن تستثمر في الكرة لتحصّل لحظات من الإجماع والوحدة ونسيان الخلافات والاختلالات، ومن حقّ المجتمع أن يبحث عن بديل لخيباته في انتصارات يحقّقها منتخبه في كرة القدم؛ لكن من واجب الجميع أن يحاسب القائمين على تدبير ملف يجمع بين صرف المال العام وبين الشعور الجماعي بالانتماء والفخر. ونحن على بعد أيام من الذكرى ال20 لعيد العرش، والتي كان يمكن أن تصبح عيدين لو فزنا بكأس إفريقيا، فلننظر خلفنا لنلاحظ أن آخر فرحة كبرى وإنجاز حقيقي للمنتخب الوطني كانت صيف 1998 في مونديال فرنسا، ولنتذكّر ملفات الترشح لاحتضان كأس العالم المتوالية التي تعاقب عليها مدبّرون من الدائرة نفسها، لتتبخّر الميزانيات وتبقى الخيبة. إذا كانت هناك أمور كثيرة يؤاخذ بها التاريخ رجالات عهد الحسن الثاني، فإن هؤلاء على الأقل منحوا مغاربة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات لحظات فرح حقيقية، فيما تحوّل المنتخب في العقدين الماضيين إلى «مجال محظوظ» عنوانه المال السائب ومحاولة الاستحواذ والتوظيف السياسي، والاختفاء في لحظة الفضيحة. صدق من قال: «الفشل يتيم والنجاح له ألف أب».