محمد أبرهموش اجتاحت بلاد المغرب عبر التاريخ، على غرار مجالات أخرى، موجات متتالية من الأوبئة الفتاكة، كانت لها آثار بليغة على الهياكل الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مما دفع الباحثين إلى تشريحها وتتبعها بأدوات منهجية جديدة، قصد إعادة كتابة التاريخ على ضوء القضايا المرتبطة بجوائح الأوبئة. في هذا الصدد، يندرج كتاب المؤرخ التونسي حسين بوجرّة: الطاعون وبدع الطاعون، الحراك الاجتماعي في بلاد المغرب بين الفقيه والطبيب والأمير (1350-1800). وهو في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث، نوقشت عام 2005 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، تحت إشراف محمد الهادي الشريف. يتكون هذا المؤلَّف من متن بلغ 751 صفحة من الحجم المتوسط،على شكل سبعة فصول، إلى جانب خاتمة عامة ضمنها استنتاجات توليفيّة مكثّفة ومطوّلة. جاء الكتاب في صيغة ثلاثة أقسام، خاضت في قضايا الأوبئة والكوارث الطبيعية، من منظور الديموغرافيا التاريخية وتاريخ العقليات، وذلك بالتركيز على سياقات أدبيات الطواعين، ومقاربتها على ضوء النص الديني والفعل السياسي والواقع التلقائي. بين الدّيموغرافيا التاريخية وتاريخ العقليات يُمكن اعتبار هذا الكتاب بمثابة مساهمة جادة في تاريخ الأزمات الديموغرافية في المجالات المغاربية. إذا كان المؤرخان روزنبرجي والتركي، قد درسا القرنين السادس عشر والسابع عشر، فقد اهتم البزاز في أطروحته بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في حين اعتمد بوجرّة على "طريقة القهقرى"، أو على مقاربة استرجاعية، لدراسة الأزمات البيولوجية وتاريخ الطاعون وذهنياته بالمغارب قبل الاستعمار، في إطار الزمن الطويل، وذلك انطلاقا من بنيات القرن التاسع عشر إلى بنيات القرن الرابع عشر. تناول المُؤلف في القسم الأول من كتابه، "المقاربات النّظرية والقراءات القديمة والجديدة للموَتان"، محاولًا تتبع ظُروف نشأة وتطوّر الديموغرافيا التاريخية، ثم التمييز بينها وبين الديموغرافيا المعاصرة من جهة، وبينها وبين تاريخ السّكان من جهة ثانية. فإذا كانت الديموغرافيا المعاصرة تهتم بدراسة هياكل المجموعات السكانية في الحاضر، انطلاقا من معطيات إحصائية رسمية، فإن تاريخ السكان يقارب نفس الهياكل في الماضي، اعتمادا على مؤشرات تتضمنها الوثائق التاريخية المختلفة. أمّا الديموغرافيا التاريخية، فرغم أنها تقوم على تقنيات كمية وتهتم بالسكان في الماضي،إلا أنها تتميز باعتمادها على الأمد الطويل، وبخصوصية مادتها المصدرية المتمثلة في الأرشيفات الجبائية والأبرشية، التي سمح حسن استغلالها بتحويلها إلى بيانات إحصائية متسلسلة. تجدر الإشارة، إلى أنّ الأبحاث والدراسات في الديموغرافيا التاريخية عرفت تطورات مهمّة مع الجيل الثالث من الحوليات، إذ تمّ توجيهها نحو المقاربات الكيفية والنوعيّة، بعد بلورة عدة تساؤلات تاريخية وأنثربولوجية، تهم السلوكيات والذهنيات، على ضوء خلاصات المعطيات الإحصائية. وبذلك انتقلت الديموغرافيا التاريخية، كما يقول حسين بوجرة، "من التاريخ الكمي إلى التاريخ الكيفي أو النوعي، وانتقلت من عمليات الجمع والطرح وتحديد النسب المئوية إلى عملية إنجاز المعادلات وصوغ النماذج، أي من إطار وصفي إلى حد ما، إلى إطار النظم والمفاهيم". إذا كانت الديموغرافيا التاريخية بالمغرب قد عرفت بعض التراكمات منذ دراسة الثنائي روزنبرجي والتركي، "فإن المسألة مازالت تنحصر في إطار الديمغرافيا التاريخية الكمية"، حسب بوجرة، رغم التجارب والأوراش التي دشنتها "مجموعة البحث في الديمغرافيا التاريخية"، عبر مجلّتها المتخصصة كنانيش. وأمام هذا الواقع، وجّه بوجرّة بحثه نحو المقاربة الكيفيّة، لتجاوز أزمة الرقم المسجلة في النصوص التاريخية التقليدية، لأن الديموغرافيا التاريخية، "ليست بالضرورة كمية فحسب، بل هي أيضا، إن لم تكن أساسا، نوعية وتنتمي تحليلاتها إلى النوع الطولي والمدى الطويل". ركّز الكاتب في القسم الثاني، على أدبيات الأوبئة، من خلال دراسته لمختلف الإنتاجات الفكرية الفقهية والطبية، ذات الصّلة بالسّلوكيات والتمثّلات والمواقف من الطاعون، التي تعبر عن"بعدين اثنين: البعد الصراعي التناقضي القائم على مبدأ نسف الطرف المقابل، والبعد التوفيقي الهادف إلى الجمع بين المقاربتين، المقاربة الدينية والمقاربة الطبية"، مما أهله لتشخيص جوانب من الحراك الاجتماعي ببلاد المغرب، بين الفقيه والطبيب والأمير، اعتمادا على مفاهيم الفاعلين التاريخيين، خصوصا "مفهوم البدعة"، المشحون بالأبعاد التاريخية، والذي كان دائم الحضور في مختلف الرسائل والمصنفات الفقهية.