اختلفت التفسيرات والتعليقات والتقارير بخصوص نتائج الانتخابات للبرلمان الأوروبي، لكنها اتفقت على نقطة واحدة، وهي كونها تمثل أكبر صعود للتيارات "الشعبوية" واليسارية والبيئية. في المحصلة، التيارات المعادية أو المتشككة على أقل تقدير في التيارات والأفكار والروح الأوروبية. وهو ما يدع مجالا خصبا للتأمل في مفارقة جديدة من مفارقات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للقارة العجوز: برلمان أوروبي يعج بنواب يحجون إليه بعد أن كانوا يرددون طيلة الحملة الانتخابية الشتائم ويتوعدون بإسقاط الشرعية عن المؤسسات الأوروبية. وليس صحيحا بداية أن هذه التيارات كلها يمينية متطرفة، على غرار الجبهة الوطنية الفرنسية، فالوضع في إسبانيا مثلا على طرف النقيض من ذلك، فقد كان التقدم الأكبر، أو المفاجأة إن صح التعبير، على يد حزب يساري حديث التأسيس "نستطيع" وأحزاب أخرى صغيرة من اليمين واليسار، على حساب الحزبين الكبيرين في البلاد، الحزب الشعبي، وعلى الأخص الحزب الاشتراكي الذي يغوص أكثر في دوامة الأزمة، مما أدى إلى استقالة أمينه العام والدعوة إلى مؤتمر استثنائي لتصويب المسار وإنقاذ الوضع. وربما يكون أبلغ تعليق على هذه النتائج عبارة رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس الذي نعت مت حدث ب"إنه زلزال". فوقال فان رومبوي إن قادة الدول الأعضاء، وعددها 28 دولة، طلبوا منه إطلاق مشاورات بشأن السياسات المستقبلية للاتحاد. وجاءت تصريحات رومبوي خلال اجتماع في بروكسل لمناقشة المكاسب الكبيرة التي حققتها الأحزاب الشعبوية واليمينية في الانتخابات الأوروبية الأخيرة. وأدت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي إلى دعوات لإعادة التفكير من جانب القادة الذين منوا بهزائم في هذه الانتخابات. ولكن على الرغم من المكاسب التي حققتها المجموعات المعارضة للاتحاد الأوروبي، فإن الأحزاب المواليه له حصدت أغلب الأصوات بصورة إجمالية. وكان مؤتمر الثلاثاء هو الفرصة الأولى لقادة الدول الأعضاء لمناقشة سبل التقدم بعد انتخابات الأسبوع الماضي وبعيدا عن التجاذبات السياسية الضيقة والمخاوف التي يمكن اعتبارها آنية ليس إلا، تتراءى لنا مجموعة من الثوابت في السياسة الأوربية منذ بداية القرن العشرين. أولها متلازمة أن دولة الرفاهية تمثل أقوى ترياق ضد النزوعات القومية الضيقة والشعبوية المتجذرة في أوروبا والتي توجه سهامها، كما فعلت مع الطرف الأضعف في بداية القرن العشرين، أي المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية والأرستقراطية المالية اليهودية، إلى الجاليات المسلمة في هذه البلدان. لا شك أن تنامي هذه القوى خبر سيء جدا بالنسبة لهذه الجاليات، فقد أصبحت المزايدة على المواطنين من أصول أجنبية حصانا رابحا لديها. وعودة إلى بداية القرن العشرين التي شهدت فصولا دامية على يد أنظمة تتبنى الأفكار النازية والفاشية، وكانت النتيجة حربين كونيتين طاحنتين أتتا على الأخضر واليابس في القارة العجوز، وأعادتا القارة عقودا إلى الوراء، وكانت آثارهما مدمرة على كافة الأصعدة. غير أن الثابت في الحالتين هو أن صعود التيارات القومية المتطرفة اشتراكية كانت أم فاشية، لا يهم، مرتبط بتدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية للشعوب الأوروبية، كأنها جزء من دفاعات المريض للحفاظ على كينونتها، غير أنها دفاعات مدمرة يمكن أن تودي بحياة المريض. لكن صناع القرار في أوروبا والولايات المتحدة بعد الحرب تنبهوا إلى ضرورة ضخ جرعات مرضية من ترياق هذه السموم: التنمية. وأطلقوا عليها لقبهم المشهور: دولة الرفاهية. ولذلك أطلقوا "خطة مارشال" لإعادة إعمار القارة الأوروبية ودفع عجلة التنمية الاقتصادية في القارة لتفادي الصراعات الدامية التي تحدثها التيارات القومية إذا وصلت إلى الحكم. غير أن هذا النهج الذي دام قرابة نصف قرن بنتائج مقبولة بدأ في التهاوي تحت ضربات التيارات اللبرالية الجديدة على ضفتي الأطلسي، والتي فاقمت من معاناة الشعوب الأوروبية. ونقول فاقمت لأن العولمة قد دقت إسفينا في نعش دولة الرفاهية، وذلك عبر فتح الحدود في وجه التجارة الذي أدخل العمالة الأوروبية في منافسة غير متكافئة مع بلدان لا معنى فيها لحقوق العامل وظروفه من الأصل. وبالتالي، يمكن أن نستنتج بكل سهولة أن الانتخابات الأخيرة ليست إلا حلقة من ردة الفعل البطيئة والحتمية للمواطن الأوروبي للتعبير عن حنقه وامتعاضه من السياسات الأوروبية، بهيمنة ألمانية واضحة، التي تفرض على كثير من بلدان الجنوب حمية قاسية بتبعات اجتماعية هائلة. لكن لننظر إلى المسألة من جانب أكثر تفاؤلا، يتمثل في كون هذه التيارات المنتقدة والاحتجاجية في البرلمان الأوروبي من شأنه أن يشكل ضغطا أكبر على المؤسسات الأوروبية في اتجاه صيغ جديدة لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تدخل عامها السادس مع بصيص صغير من الأمل لا يكاد يقنع أحدا. إن طرق الترويكا الألمانية الروح في عصر الدول التي تعيش ظروفا صعبة تشبه إلى حد كبير في تأثيرها ما جرته الروح الاستعمارية المستكبرة لفرنسا وإنجلترا التي حرمت العملاق الألماني من أي متنفس له على شكل مستعمرات، مما غذى لدى الألمان شعورا دفينا بالغبن تقيح حتى وجد من يستغله في شخص هتلر. وإن في التاريخ عبرة لمن يعتبر.