تجتاح الكثير من الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة موجة من العداء المتنامي ضد الإسلام والمسلمين. فمنذ أحداث 11 سبتنبر وهذا العداء والرفض في تزايد مستمر إلى أن بلغ أوجه في الآونة الأخيرة. ففي ألمانيا مثلا، يخرج الآلاف إلى الشوارع كل أسبوع وفي مدن متفرقة ليعبروا عن رفضهم لما أسموه "أسلمة أوروبا". أما في السويد، فإن العداء تجاه الإسلام والمسلمين ظهر في صورة خطيرة وتم التعبيرعنه بطرق إجرامية. ففي فترة لم تتجاوز الأسبوعين تمت أربع عمليات اعتداء في حق المساجد، ما بين محاولة الحرق والرمي بالحجارة، وقد وقعت بعض هذه الاعتداءات بينما كان المسلمون يؤدون الصلاة، مما أحدث إصابات وهلعا شديدا في نفوس المصلين. وفي هولندا حاول بعض المتطرفين من أتباع حزب الحرية (الحزب اليميني المتطرف) نقل العدوى إلى البلد، فنشروا على صفحات الفيسبوك رسائل عدائية ودعوات للتحريض على حرق المساجد في هولندا مثل ما وقع في السويد. استنكر مسلمو أوروبا عموما ومسلمو هولندا بالخصوص هذا التحريض على مساجدهم، وقدموا دعاوى لدى مكاتب الشرطة ضد الجهات الفاعلة، ومنهم من طالب السلطات بتوفير الحماية اللازمة لبيوت العبادة، وهناك جمعيات إسلامية بدأت فعلا بتوفير الحراسة لمساجدها عبر تناوب متطوعين من زوار المسجد. هذه الأحداث، وما تعيشه أوروبا عموما من ارتفاع ملحوظ في شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، وتنامي التصريحات العنصرية، جعلت الكثير من المسلمين في الغرب يشعرون بعدم الأمان، ويطرحون أسئلة مشروعة لفهم ما يجري من حولهم، وما يراد بهم: هل هذه الأحداث عابرة وموجة عنصرية مؤقتة سرعان ما تنطفئ وتعود الأمور إلى نصابها؟ أم أن الأمر يتعلق بتغيير جذري في عقلية الشعوب الأوروبية ومدى قبولها للإسلام، مما يحتم على المسلمين التفكيرالعميق في مواجهة هذا المستجد الخطيرالذي قد يهدد وجودهم؟ سأقف في هذا المقال وقفات مع هذه الأحداث، محاولا فهمها وكيفية التعالمل معها بشكل صحيح. -إنه من الخطإ التسرع في الحكم والجزم فعلا بأن ما يجري تجاه المسلمين يعبرعن موقف عموم أو غالبية الشعوب الأوروبية. فمنذ وجود المسلمين في أوروبا، والعنصرية موجودة، ولا تكاد تخلو دولة أوروبية من أحزاب أو تنظيمات تعادي الإسلام والمسلمين، ومحاولات حرق المساجد قد حدثت من قبل، ربما ليس بهذه الكثافة، ولكنها فعلا قد حصلت، وفي كل الدول الأوروبية التي يتواجد بها المسلمون تقريبا، والكتابات العنصرية على الجدران، وخاصة على جدران المساجد أيضا أمر يتكرر حدوثه في هذه الدول. وقد تعرض ويتعرض المسلمون لاعتداءات لفظية أو حتى جسدية عنصرية تمس أشخاصهم ومظاهرهم الإسلامية، فكم من محجبات تعرضن للإهانة ونظرات الاحتقار والدونية، وكم من ملتحين تعرضوا لنفس المواقف وعانوا من محاولات الاستفزاز. لكن، ومع هذا كله فقد تعايش المسلمون مع هذه الأحداث باعتبارها ظواهر منعزلة، وطبائع بشرية لا يخلو منها مجتمع مهما بلغ من الرقي والتقدم. فلم تنل هذه المواقف والأحداث العنصرية من عزيمة المسلمين، ولم تؤثربشكل ملحوظ على سيرهم وتواجدهم في المجتمعات الأوروبية، وبدل أن يقل عدد المسلمين كما يتمنى العنصريون إذا بهم يتكاثرون، وإذا بالمساجد التي يحاولون حرقها تتزايد وتتسع وتكتظ بالمصلين من كل الفئات. وهكذا يجب أن يظل تعامل المسلمين مع مثل هذه الأحداث التي يراد من ورائها إرهابهم والحد من قوتهم المتنامية داخل المجتمعات الغربية. إن الذي يظن أن المسلمين سيستسلمون أو يتنازلون عن دينهم وقيمهم جراء هذه الاعتداءات فهو واهم، ولا يعرف شيئا عن حقيقة ارتباط المسلمين بالإسلام، وإن أفضل رد على هؤلاء هو تجنب الصدام، والتمسك بالإسلام، وبناء المساجد التي يريدون حرقها ومنعها، وإعمارها بالشباب والشيوخ والأطفال، وبالرجال والنساء. قال تعالى في وصف المؤمنين:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } آل عمران (173-174). -يجب أن ننظر إلى هذه الأحداث بعين العدل والعقل والحكمة، ونتعامل معها دون تهوين ولا تهويل، فلا نضخمها، ولا نستهين بها أكثر من اللازم. فبعض الناس يمر على هذه الأحداث وكأن شيئا لم يقع، بل لا يريد حتى الحديث أو الخوض فيها. وهذا خطأ، لأن هذه الأمور تستحق الاهتمام والنقاش والتفكير، فالعدوان تم على المساجد، ونحن نعلم ما يعنيه المسجد بالنسبة للمسلم، وإن غيرة المسلمين على بيوت الله لا تقل عن غيرتهم على بيوتهم، فحينما يتعرض مسجد للاعتداء، يحس المسلمون كلهم وكأن ذلك الاعتداء قد وقع على بيوتهم التي يسكنونها بالفعل. ثم إن المعتدين لما قصدوا المساجد ولم يقصدوا الأشخاص أو المقاهي أو مشاريع أخرى للمسلمين، قد أبانوا فعلا أن الأمر لا يتعلق بخلافات شخصية، ولا عرقية، وإنما هو عداء سافر تجاه الإسلام، ثم إن محاولة حرق المسجد والمصلون بداخله تعتبر محاولة قتل جماعي في الحقيقة، فلولا لطف الله لذهب العشرات أو المآت ضحية هذا العمل الإجرامي. وإن المظاهرات المعادية للإسلام والمسلمين بدأت تستقطب الآلاف، وما تدخل المستشارة الألمانية وانتقادها لهذه المظاهرات إلا دليل على أن الأمر يستحق أن نقف عنده فعلا. لكن وبالمقابل، لا نجعل هذه الأحداث نهاية العالم، ونخلق على إثرها سيناريوهات رعب لا مبرر لها، نقض بها مضاجعنا ومضاجع أطفالنا، كاستحضار ما وقع للمسلمين في البوسنة والهرسك، أو ما يحدث لهم الآن في بورما أو غيرها، نسأل الله أن يلطف بالجميع، فالحال غير الحال، والمكان غير المكان. ولدينا شواهد كثيرة تجعلنا نرتاح ونطمئن إلى أن الأمور لن تنزلق إلى تلك المستويات أبدا. -إن العدل الذي يجب أن نتصف به ونحن نناقش هذا الأمر يحتم علينا أن لا نعمم الحكم على هذه المجتمعات، فمع ما وقع وما قد يقع، لا تزال الأغلبية الساحقة من الأوروبيين، ترحب بوجود المسلمين، وبإعطائهم كامل حقوقهم ليمارسوا شعائرهم الدينية، ولا تزال هذه الأغلبية تتضامن مع المسلمين وتعبرعن رفضها وشجبها لكل هذه الأحداث والاعتداءات العنصرية التي تستهدفهم أو تستهدف دينهم. وقد خرجت كرد فعل على المظاهرات العنصرية مظاهرات مساندة للمسلمين ومنددة بالمظاهرات المعادية لهم. وإنه من العدل كذلك (وخاصة في مثل هذه الظروف ) أن لا نتجاهل مواقف السلطات الرسمية في هذه الدول، إذ لا تألو الحكومات جهدا في حماية مواطنيها المسلمين وتمتيعهم بكامل الحقوق الدينية والسياسية والاجتماعية التي يتمتع بها سائر المواطنين دون تمييز، ومن ذلك حماية أشخاص المسلمين وممتلكاتهم ودورعبادتهم، ومعاقبة كل من يثبت تورطه في الاعتداء عليهم أو ممارسة العنصرية ضدهم، مهما كان جنسه أو لونه أو مركزه (حسب ما تسمح به دساتير هذه البلدان طبعا) وهذا أمر لا بد أن ننوه به. -إن هذه الاعتداءات الهمجية وهذه المواقف العنصرية تستوجب من المسلمين ومن غيرهم الشجب والإنكار، وأن يوصف مرتكبوها بأبشع الأوصاف، فهم مجرمون عنصريون إرهابيون، يرهبون المصلين الآمنين في بيوت عبادتهم، ويهددون السلم الاجتماعي الذي تنعم به هذه الدول، وعلى السلطات المعنية أن تشدد العقوبات في حق كل من له صلة بهذه الأحداث، وأن تقوم بما يستوجب القيام به من أجل أن تعيد الأمان والاطمئنان لكل المواطنين المسلمين الذين بدأ يخالج بعضهم الشعور بالخوف من المستقبل. -إن الذين يحاولون تبرير العنصرية ضد المسلمين في الغرب، لا يقلون خسة ولا جرما عن مرتكبيها. لقد قرأت في مواقع إخبارية تعليقات على الأحداث لبعض الملحدين المرتدين عن الإسلام الذين ألقوا باللائمة في ما جرى على الإسلام والمسلمين، ورأوا بأن تصرفات بعض المسلمين هي السبب فيما وقع! وطالب بعضهم بكل وقاحة المسلمين بأن يهاجروا من السويد باعتبارها بلدا للملحدين ! وأنا أقول لهؤلاء: أن تتركوا الإسلام وتتنكروا لأصولكم وربكم فذك شأنكم، بل اذهبوا غير مأسوف عليكم. "الماء والشطابة"، لكن أن تفرحوا وتصفقوا للعدوان على الإسلام والمسلمين جميعا لأن من بينهم متشددين أو إرهابيين أو كسالى خاملين لا يعملون ولا ينتجون، فهذه دناءة وخسة وخيانة ما بعدها خيانة. إن لهذه البلدان قوانين ودساتير وأجهزة أمنية وقضائية مهمتها مراقبة ومحاسبة كل من يخالف هذه القوانين، مسلما كان أو غير مسلم. وهي تقوم بذلك على أحسن وجه وبطرق عادلة. ونحن نرحب بمحاسبة كل من خالف هذه القوانين من المسلمين محاسبة طبقا لما هو مسطر في قوانين هذه البلدان. أما شرعنة التعميم وأخذ البريء بجريرة المسيء، وإرهاب الآمنين ، ومحاسبة الإسلام بأخطاء بعض المنتسبين إليه، فكلها أساليب مرفوضة ومستهجنة. -على المسلمين في هذه الظروف أن يبرزوا الرسالة الحقيقية للإسلام بمفهومه الوسطي المعتدل، الذي يقبل الآخر ويتعايش معه، ويراعي المشترك الإنساني، والواجبات الوطنية التي على المسلمين في الغرب القيام بها تجاه أوطانهم. كما علينا أيضا أن لا نخجل ولا نتردد في أن ننكر وبصوت مرتفع كل الأفعال الإجرامية التي يرتكبها بعض المحسوبين على الإسلام باسم الدين. والتي شوهته وأعطت أعداءه والجاهلين به ذريعة التهجم عليه، تماما كما ننكر هذه الأفعال المشينه التي تستهدف المسلمين. ونحن إذ نستنكر ما يقوم به بعض المتشددين من المسلمين من أعمال إجرامية في حق المسلمين وغير المسلمين، فإننا لا نفعل ذلك إرضاء لأحد أو تحت ضغط ظروف معينة، بل نقوم بهذا لأننا نعتقد أن هذا هو ديننا وهذه قيمنا، فا لبروالعدل والرحمة والتعارف وحسن الجوار والوفاء بالعهد وعدم نكران الجميل كلها قيم إسلامية يجب أن يراها منا الآخر ويحسها في تعاملنا معه، في هذه الظروف وفي غيرها. قال الله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة(8). - على المسلمين كذلك الكف عن الأعمال والتصريحات المستفزة للآخر، والتي تجر علينا عداوات نحن في غنى عنها، كالدعوة لتطبيق الشريعة في أوروبا، أو التبشير بفتح أوروبا وأسلمتها، أو التهجم على دين الآخر ومعتقده، أو تحويل الكنائس إلى مساجد، وغيرها من الأمور التي تستفز الآخر وتجعله يرى الإسلام خظرا يهدد هويته. بإمكاننا ولله الحمد أن نطبق ديننا ونعيشه دون أن نخيف الآخر أو نستفزه. ولمزيد من التوضيح لهذه النقطة الحساسة أقول: "علينا أن نظهر للغرب عبر تصريحاتنا وأفعالنا أنه ليست لدينا نوايا ولا خطط لأسلمة أوروبا ، فنحن مهاجرون مسلمون نريد المحافظة على ديننا وهويتنا كما تضمنه قوانين هذه البلدان لا غير، وما نبنيه من مساجد أو مدارس كله من أجل حاجياتنا الضرورية، لأن الجالية الإسلامية تتكاثر وتتوالد كغيرها من الجاليات، وبالتالي فمشاريعنا الإسلامية تتكاثر وتتسع أيضا طبقا لحاجياتنا"، وأرى والله أعلم أن هذه الصورة أقرب إلى القبول لدى الآخر من صورة تبشر بفتح أوروبا وأسلمتها، وتعتمد التهجم على الآخر في ثقافته ومعتقده، ونحن متمتعون بكل الحقوق في عقرداره! إن استعداء الآخر بدون مناسبة مناف للحكمة والعقل ولا يخدم مصالح الإسلام والمسلمين. -إن وحدة صف المسلمين في هذه الظروف من أوجب الواجبات، وإنه من العيب والعار بل ومن الخيانة للإسلام شغل المسلمين في الوقت الراهن بأمور جزئية أو خلافات فرعية عقدية كانت أو فقهية أو سياسية، تزيد صفوف المسلمين انشقاقا وتشرذما. إن العنصرية الآن لا تميز بين مسلم وآخر، فالواجب أن نتصدى لهذه الحملة جميعا كما تستهدفنا جميعا، وأن نترك خلافاتنا جانبا ولو إلى حين، وإن كنا نرحب بدعم ومساندة غير المسلمين لنا في هذه الظروف، فكيف لا يدعم المسلمون بعضهم بعضا؟ -في الأخير أقول: إن المسلم مطالب بأن يقوم بواجبه، ويؤدي الذي عليه، وبعد ذلك يحسن الظن بالله ويثق في أمره ويرضى بقضائه، ويعلم أن الأمور تسير وفق مراد الله، فالله غالب على أمره، وما أراده الله كان وما لم يرده لم يكن. ولن يصيبنا في الأخير إلا ما كتب الله لنا. وأختم بهذا الحديث الشريف الذي نحن في أمس الحاجة إلى أن ننهل من معينه. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي:" يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف".