أقلعت الطائرة قافلةً من مطار بيروت إلى كازابلانكا ثم ما لبثت أن صارت كالمتوقفة في السماء، وتوقف زمنها المحيط. عاد كل شيء إلى نصابه وانتصابه وتحلل الرَّكْبُ من ربط زُنَّار* السلامة. زال خشوع لحظة الإقلاع وفشا اللغو هنا وهناك في الطائرة، و في ركن من أركان درجتها الأولى، استأنفت امرأة في الثلاثين وجليسُها أحدوثة بدآها في بهو المطار. كانت المرأة تهمس بإيقاع سريع متوتر وجليسُها يهمس تعقيباتٍ مقتضبةً تعيد المرأة لحديثها من جديد، حتى قطعتهما مضيفة تدفع عربة مرطبات. صمتا والتفتا لدى نطق المضيفة: - آنسة غيتة.. سيد رايان.. هل من طلب؟ أشارت برشاقةٍ ضَجرةٍ أنْ لا، فوافقها جليسها وانصرفت المضيفة، ثم التفتت تكمل أحْدوثتها أو تعيدها. كانت تتكلم أمشاجا من لغة فلوبير ومن دارجة، بينما رايان كان ينظر إليها متعجبا من جمالها غير المعهود. ولقد كانا جميلين كلاهما. كانا برَّاقين كجلد رقيق مشدود وكانت عليهما نضارةُ طفولة مؤجَّلة. هل خُلِقا من جديد أم أن صُنعَهُمَا قد أعيدْ. بعد صمت نطقت شاردة: - فلوس.. فرد عليها: - وييه.. فلوس - مصاريف مرهقة.. هذاك بروفيسور طنوس ما سَاهْلشْ.. عفريت - عفريت وتمساح هههههه... اسمه ذكرني برواية - أمين معلوف "صخرة طانيوس" لكن وسواس المصاريف سرعان ما بدد الحديث عن روايةٍ بطلها لقيط حاول التجميل بالمعرفة والذوق. لم تفتأ غيتة أن عاودَتْ الحديث عن المصحة التجميلية حيثُ التقيا قبل شهرين في دُبَي. صدفة. وعاودت الحديث وأفاضت في كلفة الإقامة في أحد ابراج لاس-فيكاس العرب، وعن مصحة بيروت هي الأخرى وعن مصاريف الإقامة في لبنان وعن مبالغ البقشيش الموازية.. لحسن حظهما البروفيسور اللبناني الأصل، الأمريكي الروح، مباشرة بعد الأسبوع الثالث من نقاهتهما عقب عمليتين استصلاحيتين تمهيديتين، نصحهما أن يغادرا توا دبي ويَهُبَّا إلى بيروت ليلقياه هناك. وفعلا من يوم الاثنين الموالي رحلا فورا، تفاديا للإفلاس في دُبَي قبل إتمام قافلة العمليات المُنتظرة الباهظة.. - ذاك أفضل لكما.. ولا عليكما من الناحية القانونية هنا، البروتوكول ينص على ثلاثة عقود لم توقعا منها إلا واحدا اليس كذلك؟ هناك في بيروت مصاريف الإقامة والمصحة جميعا تعدل نصف ما أنفقتماه هنا في دبي لثلاثة أسابيع فقط. خبل..مصاري كثير.. - نعم بروفيسور مصاري..." كانت قد رددت غيتة كلمة "مصاري" هي كذلك متلونة بلغة المحيط، وغمز البروفيسور بعينه في حميمية براجماتية، ففهما عنه كما يفهم الحر. مع أنهما كانا عبدين لرغبة قاهرة في تجميل صورة لم تكن تروقهما. كانا يعلقان عليها تأجيل زواج كما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ربما. ناولهما بطاقته. مصحة طنوس الزعبي، أو الزغبي، شارع فنيسيا رقم 13. وانصرفا. - الزغبي وْلّاَّ الزعبي؟ تساءل رايان حين غادر الطبيب.. - الزعبي.. بالعين" أكدت غيتة على حرف العين تفاؤلا .. ها هما الآن قد تجاوزا كل تلك العقبات وخلفا وجهيهما الأولين هناك. صارا تاريخا. الصمت يلف طائرة العودة المظفرة الآن. ما زال الزمان متوقفا. التفتت غيتة ثانية معرجة هاته المرة على ترتيبات تتوجب على كليهما فور الوصول. تغيير الجواز والبطائق والوثائق وكل ما عليه صورة. لكن.. صور العائلة؟ والألبومات المتناثرة؟ وصور المناسبات والحفلات. داعبها رايان: - لنقل أنها كانت حفلات بال-ماسكي بالنسبة لنا ههههه لم تبادله الضحك. ثم إنه لا بأس. هل يكونان أفضل حالا من نجوم ونيازك هوليوود وبوليوود ووثن العرب، أراب أيدول. أليست صُورهم في الشبكة العنكبوتية متناثرة، قبل التجميل وبعده. اليس بعضهم صار مهزلة، كأنه تجمل بيد إسكافي أو دباغ وليس في مصحة تجميل. على الأقل هما قد عادا بنتيجة مُرضية. بل ناجحة فيما يبدو.. لمحو أثر كلامه الأخير عن حفل الوجوه المستعارة، توجه رايان لغيتة بكلام جميل عذب. ذكرها بالصدفة السعيدة وبطعم الحب في المهجر وسنوات الضياع التي ستعقبها الآن سعادة أبدية..ابتسمت. من حسنات تلك السَّفْرَة المبرورة إلى الشرق الأوسط الكبير، أنها وفرت على كليهما عناء البحث عن نصفه المفقود المرغوب. فقد وجد كلاهما شريكا كاملا في العملية برمتها. في حيثيته الاجتماعية، في تصوره للحياة، في تصوره للتجمل كذلك وهو الأهم. كانت السَّفرَة ضربة لعصفورين بحجر واحد. لكن.. كيف بالعصافير الأخرى التي لمَّا تفقِّسْ بعد؟ آخر لقاء مع البروفيسور طنُّوسْ كان قد خلف لغيتة هَما مُمِضّْا. لطالما همس لها رايان أن تنسى الأمر أو تُرجئَه لحينه. لكل حدث حديث وتوقع الأمر أكبر من وقعه. لكنها كانت لا تفتأ تردد كلام البروفيسور طنوس. وهل يصفو شيء من كدر أبدا، حتى الكذب والتجمل. كانا ينصتان إلى البروفيسور يومها كميت بين يدي غاسله، ويُنغِضَان رأسيهما علامة على القبول والتسليم والتفويض. - كما تعلمان.. آنسة غيتة.. سيد رايان.. أنتما شابان ذكيان مقبلان على الزواج وأطفال واااا... كما تعلمون...الكرموزومات لا تكذب.. الحمض النووي لا يكذب ولا يتجمل تماما كالأطفال.. لا يكذبون.. ومضى البروفيسور بعد تمهيد طبي يقترح عليهما فور عودتهما إلى المغرب أن يفتحا دفتر ادخار استباقي لوجود الأطفال ويَفَاعِهم.. فأما إن كانت جينات غيتة ورايان من النوع المتقهقر واختفت القسمات الأصلية فبها ونعمت فقد كُفِيا شر التجميل.. وأما إن كانت جيناتهما من النوع المهيمن المسيطر العنيد وعادت ملامحهما لتطفو على صفحة وجوه الصغار، فالدفتر لها.. قهقهت غيتة حينها عاليا للاقتراح المضحك باديَ الرأي، لكن جدية طنوس واستبصارَه وحسابه لجُداء الذمامة المحتمل، كانت قد تسللت رويدا رويدا إلى نفسها ككمأة بين الصخور. إنها لم تتجشم كل ذلك النصب إلا لمحو وجهها إلى الأبد.. *الزنار حزام كان يضعه أهل الذمة ليعرفوا به