تبدو العلاقة بين المجتمعات والدول ملتبسة أو يعتريها سوء فهم كبير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا والاحداث ذات البعد القيمي أو الإنساني. وعلى الأرجح هناك من يرى أن الدولة من المفترض أن لها مشاعر مثل الافراد، تعكس وتعبر عن المزاج العام، وعلى النقيض من ذلك، مقتربات علم السياسة ترفض هذا الطرح وتجعله من المثاليات التي قد تدمر دولا. لكن في المجمل، ليس من الضروري أن تكون الدولة فوق المجتمع أو أكبر منه، وعلى نفس المنوال من غير المناسب أن يكون المجتمع أكبر من الدولة، كلتا الحالتين غير مناسبتين، الحالة الأولى تفضي إلى تغول وتجبر الدولة، أي أن السلطة تصبح مطلقة وغير مسيجة وغير ديموقراطية بلغة مفكري العقد الاجتماعي، أما الحالة الثانية، فتغول المجتمع يؤدي إلى الفوضى، إلى سيادة قانون الغاب، أو سيادة المزاج العام، وإن كان هذا المزاج مناهض للقوانين والأنظمة. تفضي إشكالية التعارض بين الدولة و إرادة الشعوب وميولاته التي عادة ما تكون تميل إلى العواطف والمثالية، وبين منطق الدولة المحكوم بالغايات والمصالح بغض النظر عن الأهواء والمعتقدات وكل ما يرتبط بالمبادئ كالحق والعدل والمساواة، إلى بروز إشكالات جوهرية بين الفاعل/الفرد/المجتمع، وبين الفاعل الدولة/السلطة/الحكام. وتقدم نظرية النخبة عدة طروحات من الممكن أن تساعد على تحليل وتقييم مثل هذه الإشكالات التي تطرح بين الفينة والأخرى، حيث تظل اختيارات الدولة وتوجهاتها وسياساتها في الأصل تعبر عن تصورات وسياسات الحاكمين أو الفئة القليلة التي تحكم، سيما وأن الممارسة السياسية في المجتمعات الديموقراطية الليبرالية خضعت لسيطرة وهيمنة فئة قليلة يطلق عليها عادة اسم النخبة السياسية، أو صفوة القوم أو الخاصة. وبالعودة إلى الفلاسفة، يعتبر أفلاطون في كتابه الجمهورية صاحب السبق في فتح النقاش حول ما بات يعرف بالفلسفة السياسية للنخبة، حيث يعتبر أول من استعمل مصطلح "الفيلسوف الحاكم"، وكان أفلاطون يرى أن الفيلسوف الحاكم هو القادر على حماية المدينة والحفاظ عليها من خلال تأمين العدالة للأفراد بخلاف القواعد الديموقراطية التي تساوي بين الجميع من خلال السماح لجميع الأفراد بالوصول إلى السلطة. على النقيض من ذلك، يعتبر ميكيافلي ، بأنه لا يمكن لجميع المواطنين أن يحكموا، فمؤهلات وخصائص الحكم والقيادة لا توجد إلا لدى فئة قليلة، كما يرى ميكيافلي بأن الشعب لا يعرف بشكل جيد ما يجب فعله، وفي هذا الإطار، حاول ميكيافلي أن يؤسس لنظرية تتعلق بخصائص الطبقة القائدة، حيث ركز في كتاباته على الدور الحاسم لبعض الرجال الذين يتمتعون بخصائص استثنائية وفريدة من نوعها، ويرى أنهم استطاعوا أن يعلوا من مكانة الدولة، ويضمنوا استمراريتها وقوتها واستقراراها. أما هيجل، فقد ركز بدوره على هذه الإشكالية، من خلال الإشارة إلى دور بعض "الرجال الكبار" الذين عرفوا كيف يسمعون ويسمعون صوت العقل، وهو بذلك يرى أن تبني العقلانية من لدنهم مكنهم من ترسيخها داخل المجتمع، وبفضل "الرجال الكبار"، تخطت الدولة عتبة الذاتية نحو الموضوعية والعقلانية والفعالية وهنا يميز هيجل بين "رجل الدولة" عن الجماهير العريضة الغير المنظمة والغير المؤطرة، هذا الطرح جعل هيجل ينتقد ويرفض فكرة الدولة عند جون جاك روسو التي تدعوا جميع المواطنين للمشاركة في المناقشات السياسية داخل الدولة، بدعوى أن الجماهير تفكيرها دائما سطحي وتافه. ونفس الطرح، تبناه توماس دوكاريل، حيت يرى أن رجل الدولة هو "فنان السياسة"، وهو بمثابة بطل، فعوض أن يبحث عن الشعبية كما يفعل السياسيون السطحيون، فإنه يضع قوته وإبداعه تحت تصرف الدولة، فالذي يهمه هو شرف مسؤولية الدولة وليس تحقيق الانتصار. وفي نفس الاتجاه، وبالاعتماد على نظرية النخب لفهم وتحليل العلاقة الملتبسة بين المجتمع والحاكمين على مستوى الاختيارات والسياسات وتحديد المصالح والتحالفات، فمثلا باريتو V.Pareto يقر بوجود نخبة وحيدة مسيطرة، حيث يرى أن المجتمع ليس جسما منسجما، فالناس بالنسبة إليه ليسوا مختلفين فيزيائيا فقط، بل أخلاقيا وثقافيا كذلك، فالأفراد لا يتساوون بشكل موضوعي بالنظر إلى كفاءتهم ومؤهلاتهم، وليس فقط بالنظر إلى اعتبارات ذاتية أخرى، وقد ركز باريتو على ظاهرة "دوران النخب"، حيث يرى أنه ليس هناك سيطرة أبدية لنخبة معينة، لأنه سرعان ما تظهر نخبة جديدة تزيح النخب القائمة وتحل محلها. على خلاف باريتو، يرى موسكا G.Mosca ، بأنه ليس من الضروري ومن الطبيعي أن يسيطر على المجتمع أفراد يتمتعون بذكاء وقدرات عالية، بل في كل مجتمع توجد طبقة حاكمة تشكل أقلية تفرض قيمها ومصالحها على الطبقة المحكومة، ويصف هذه الطبقة بأنها منظمة وواعية. أما بالنسبة لميلز Mills فالنخبة الحاكمة هم الأشخاص الذين يملكون مناصب جد حساسة داخل المؤسسات الكبرى، ويقسمها إلى ثلاثة نخب يتوحدون على مستوى الأصل الاجتماعي والتربية والتكوين والمصالح المشتركة، وهو ما يجعلهم نخبة واحدة تستأثر بالحكم. بعد هذا التأصل النظري، هل من الممكن الإقرار بأن تجاوز الإشكالية المرتبطة بالتضاد والتعارض بين مصالح الدولة أو منطق الدولة ومنطق الجماعة أو المجتمع، يستلزم استحضار نظرية النخب أو الميولات الهيغلية العقلانية التي تقر بوجود طبقة حاكمة تتمتع بمؤهلات معينة أو كنتيجة لتحالفاتها، أو من خلال المدخل الديموقراطي وما يتيح من مداخل لولوج النخب أو الساسة إلى دائرة السلطة. تبعا لذلك، فمن المفترض أن ينتج ويصدر "المقرر" أو الحاكمين قرارات وسياسات بعيدة عن العواطف، وحتى العقيدة في بعض الأحيان، على اعتبار أن تدبير وتسيير وإدارة تناقضات المجتمع ومكونات نسيجه الاجتماعي، تخضع لمنطق البراغماتية والمصلحة من جهة، وعلى النقيض من ذلك، فالدولة مطالبة بأن تراعي ميولات ومطالب المجتمع، بل وحتى المزاج العام من جهة أخرى. جدلية أو ثنائية تبدو صعبة ومعقدة، إذ يعتبر التوفيق بين رغبات ومطالب المجتمع ومصالح الدولة، من متطلبات المشروعية والشرعية، بالمقابل، لا تستطع السلطة السياسية أن تفرض كل سياساتها وتوجهاتها بالاعتماد فقط على القوة أو العنف المشروع حسب تعبير مع ماكس فايبر، حيث يعتبر الإقناع أو الخضوع الطوعي للأفراد مؤشر على مشروعية السلطة وقدرتها على ضبط وتوجيه الرأي العام وهنا يأتي دور وسائل الإعلام. فبالإضافة لنظرية النخبة، يمكن استحضار دور وسائل الاعلام التقليدية والحديثة في صناعة واحتواء الرأي العام، لذلك، يمكن تفسير ظاهرة اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع أو المزاج العام، بضعف السلطة في استمالة وتوجيه الرأي العام وفق استراتيجية تواصلية، أو عدم قدرتها على تملك أدوات الدعاية الحديثة التي تعتمد الوسائل التكنولوجية الجديدة، سواء مواقع التواصل الاجتماعي ويوتوب أو المنصات الرقمية. وفي هذا السياق، يلاحظ على مستوى الرقعة العربية. منذ أحداث الحراك العربي سنة 2011 أن المنطقة العربية باتت تعيش على إيقاع انفلات للرأي العام بشكل غير مسبوق، "انفلات افتراضي" يجد صداه في الواقع وعلى الارض في بعض المرات، بل بات ميول الافراد مناهض لكل ما تنتجه السلطة بشكل تلقائي. خلال مرحلة الحراك الشعبي، بدت السلطة السياسية عاجزة على مسايرة إيقاع الشارع وضبط الأشكال الاحتجاجية الجديدة التي باتت توظف مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية لتجييش وتعبئة الشارع ضد الدولة بالمفهوم الضيق، والذي يقصد به السلطة القائمة، بل استمر مسلسل الشد والجذب هذا بين الحكام والشارع إن جاز توصيفه. الطرف الأول، يحاول توظيف الوسائل الحديثة بالإضافة إلى الوسائل التقليدية. أما الطرف الثاني الذي هو الشارع بمختلف مكوناته، صار يوظف المنصات الرقمية بشكل مكثف للنيل من رمزية السلطة والهالة التي عادة ما تحيط بها. لقد صار الرأي العام رهينة للحرب الافتراضية التي تدار عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الأخرى، حرب تخاض بشكل يومي وهي حرب حطمت كافة السرديات والمعتقدات والتمثلات، بل ظهرت مع هذا "الصراع الافتراضي أو الرقمي" ظواهر جديدة غير مألوفة، دعوات مجهولة على مستوى تلك المنصات للتعبئة والتجييش لكل الفئات سواء الصغار والشباب والشيوخ، إذ كيف يمكن تفسير مثلا تلبية مجموعة من الأطفال والشباب لدعوات مجهولة للهجرة الجماعية عبر سبتة، مثلما وقع خلال 15 شتنبر 2024، إذ وجدت السلطات نفسها أمام جحافل من الأطفال والشباب، يحاولون اقتحام الحواجز الحدودية للعبور إلى اسبانيا عبر سبتةالمحتلة. هذا مشهد من مشاهد باتت معتادة، ويمكن أن تتكرر بحسب الظروف والمناسبات، رأي عام يتشكل بعيدا عن السلطة، وهذه الأخيرة تكتفي بمحاولة احتواء وامتصاص ونزع فشل الأزمة، ومحاولة تخطي "الأزمة" بأقل الخسائر، والحفاظ على الوضع القائم واسترجاع هيبتها وإظهار قوتها. وتشتد المواجهة بين السلطة والشارع –خاصة الجزء النشيط والمنفلت_ إذ يمثل هذا الجزء مختلفة التيارات المعارضة، والغير مؤطرة، وحتى الأفراد المنتمين للهيئات السياسية المشاركة في الحكومة، أو التي تشكل المعارضة المؤسساتية، إذ يبدو الجميع متحلل من الالتزامات والتحفظات التي عادة ما يفترض أنها تنسجم مع مواقف تلك الهيئات والأحزاب مثل الموقف من الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، حيث تتداخل المصالح بالمشاعر والعواطف، بل يصير التماهي مع الشارع ومن يوجهه بمثابة " صك الغفران" لتفادي كافة النعوث القدحية والشتائم. وتبعا لذلك، تصير الرغبة في التماهي مع الشارع مغرية وأكثر إغراء، بغض النظر عن سقف مواقفه وميولاته التي قد تكون معاكسة للمصالح العليا للبلاد، وخاصة في القضايا والملفات ذات البعد القيمي والديني. تفاصيل وجزئيات تجعل معالجة هذه الإشكالية متفرعة إلى إشكالات أخرى، بل قد يبدو معها كذلك هذا الموضوع منفلتا بدوره، على غرار، انفلات الرأي العام في بعض المرات على مستوى المنصات الرقمية، لذلك، فمن الناحية المنهجية، يمكن الإقرار بأن علاقة السلطة بالمجتمع هي علاقة معقدة محكومة بمتغيرات رئيسية وثانوية. خلاصة القول، يمكن الإشارة إلى ثلاثة استنتاجات فيما يتعلق بالظواهر الجديدة في ارتباطها بالدولة والمجتمع، فعلى مستوى الدولة، فهو كائن يفكر بمنطق المصلحة، ويوظف أدوات علم السياسة لتحقيق الغايات المشروعة وغير المشروعة، أما على مستوى المجتمع والافراد، فهو نسيج اجتماعي معقد غير منسجم يفكر بمنطق اللحظة وبالمشاعر والغايات النبيلة. أولا. الدولة، وفقا لتصور الهيجيلي والميكافيلي يعتبر كيان براغماتي يسعى وراء المصلحة، أو يحاول الحفاظ على استمراريتة وامتلاك أدوات القوة لفرض الهيمنة. والدولة وفق هذا التصور، تتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما يجب أن يكون. ثانيا: المجتمع ليس كتلة منسجمة، يخضع وهو خاضع باستمرار لعواطفه، ويميل أكثر إلى الأطراف والجهات توظف الوسائل الدعائية بشكل دائم ومكثف ومحترف، بمعنى، أن حرب الدعاية باتت تلعب دورا محوريا في صناعة الرأي العام وتوجيه الافراد. ثالثا: يخاض الصراع حول استمالة الرأي العام على مستوى المنصات الرقمية، إذا بات " الصراع افتراضيا"، حيث يوظف كل طرف الأدوات والوسائل المتاحة لصناعة الخبر وتوجيه الرأي العام بغض النظر عن الحقيقة والواقع، لقد صار تزييف الحقائق، وبث الشائعات، ونشر الأخبار الزائفة، أحد أبرز السمات الرئيسية التي يدار بها الصراع، وكنتيجة طبيعية لذلك، باتت الهوة تتسع بين الدولة والمجتمع، بين الفاعل/الفرد/ المجتمع وبين الفاعل/الدولة/ السلطة حول صناعة واستمالة الرأي العام. ختاما، في السابق وقبل الثورة التكنولوجية، كان الافراد يعبرون عن سلوكهم الاحتجاجي عبر القنوات والوسائل التقليدية، وفق نسق لا يخرج عن المنطق الاحتجاجي إن كان ديمقراطيا أو غير ديمقراطيا لكنه مؤسس على قاعدة معرفية صلبة أنتجتها نخبة متعلمة ومتمرسة سواء تعمل داخل النسق مؤسساتيا أو غير مؤسساتيا، أما اليوم. فقد بات الاحتجاج وإنتاج المواقف كوسيلة للحشد والتعبئة من طرف أفراد لا يتوفرون على تكوين تعليمي أو سياسي، بل بات هؤلاء ينعتون " بالمؤثرين" على وسائل سوشل ميديا ولهم أنصار وتابعين بأعداد كبيرة، حيث يوظف هؤلاء هذه المنصات للربح المادي تارة، أو كوسيلة لممارسة المعارضة في شقها الراديكالي. أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري