حسن لقيبي الخميس 12 يونيو 2025 - 1:10 المكون المنسي في الدستور المغربي.. دعوة لإعادة اكتشاف الذات لا تقتصر الدساتير والمواثيق التأسيسية للأمم على تنظيم السلطات وتوزيع الاختصاصات، بل تنهض أيضا بوظيفة رمزية تؤسس للهوية الجماعية، وتعرف "الشعب" باعتباره مصدر السيادة والشرعية. وفي هذا السياق، سعى تصدير دستور المملكة المغربية لسنة 2011 إلى إبراز غنى الهوية الوطنية من خلال التعدد الثقافي والتاريخي لمكوناتها. إلا أن هذا التوجه على وجاهته، جاء في صيغة تغلب منطق التعداد على منطق الوحدة، فغاب بذلك إبراز "المكون المنصهر المنسي" الذي تشكل تاريخيا وعبر قرون من تمازج الروافد وتزاوجها، ونتجت عنه أغلبية مجتمعية صامتة، لا تختزل في أي رافد بمفرده، لكنها تشكل نواة الانتماء الجماعي المشترك. وتزداد هذه المفارقة وضوحا بالنظر إلى أن الدستور، في الوقت نفسه، يقر بالإسلام كدين رسمي للدولة، ويكرس مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها الضامنة لوحدة المعتقد والمرجعية الدينية، بما لها من شرعية دينية وتاريخية. غير أن هذا الإقرار على أهميته، لا يستثمر ضمن تصور متكامل يعزز وحدة الهوية الوطنية، بل يبقى محصورا في بعده المؤسساتي دون أن يترجم إلى رؤية جامعة تنصف البعد الاندماجي للهوية. ومن هنا، يأتي هذا المقال كمحاولة لإعادة تفكيك التعريف الدستوري للهوية الوطنية، ولفت الانتباه إلى التناقضات التي يحملها، والمرافعة من أجل رؤية جديدة تنصف تاريخ المغرب الحقيقي وتعزز مستقبله في وجه التحديات المعاصرة. تعريف الشعب في الدستور - فسيفساء جميلة لكن بلا إطار جامع يقدم تصدير الدستور المغربي لعام 2011 "المملكة المغربية على أنها دولة إسلامية ذات سيادة كاملة متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوا الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء. إن هذه الصياغة، التي تبدو للوهلة الأولى احتفالية وشاملة، تحمل في طياتها إشكالية منهجية عميقة. فالنص، في محاولته تسمية المكونات، يخلط بين معايير تصنيف لا يجمعها رابط منطقي واحد، مما يحول دون تقديم معيار جامع وحقيقي للشخصية المغربية. فالتعداد يمزج بين تصنيفات لغوية (العربية، الأمازيغية)، ودينية (الإسلام)، وجغرافية (الصحراوية، الإفريقية، المتوسطية)، وتاريخية (الأندلسية) وثقافية لغوية (العبرية) دون إطار جامع يحدد كيف تتكامل هذه المكونات. بل ويغفل لهجات (المراكشية الشمالية...) ومجالات (الجبلية السهلية...) يمكن أن تدمج في التصنيفات التي يعتمدها. هذا التعداد، على الرغم من رغبته في التمثيل الشامل ومراعاة لسياق ومدة صياغة الدستور، يخلق مفارقة جوهرية: إنه يصف بدقة روافد النهر، لكنه يتفادى تسمية النهر الذي تشكل منها. يرسم خارطة الجذور، دون أن يعترف بوجود "الشجرة" التي نبتت من تلاحمه.. إن غياب المعيار الجامع، الذي هو الانصهار والتمازج في حد ذاته، يترك فراغا نظريا يمكن أن تستغله خطابات التجزئة والتفرقة، فكل مكون قد يرى في نفسه أصلا نقيا منفصلا، بينما الحقيقة التاريخية والسوسيولوجية هي عكس ذلك تماما. تعريف "المكون المنسي" - أغلبية الانصهار الصامتة المكون الغائب في التعريف الدستوري للهوية المغربية ليس فئة هامشية أو أقلية محدودة، بل هو الأغلبية الصامتة التي تجسد الواقع الحي للبلاد أقصد "مغاربة التمازج" المواطنون الذين تجري في عروقهم دماء روافد متعددة عربية، أمازيغية، إفريقية، أندلسية ولا يمكن بل ولا يرغبون في اختزال ذواتهم في أصل واحد أو تصنيف ضيق. إنهم نتاج قرون من التفاعل الاجتماعي والتزاوج والتصاهر، حيث بات من غير الممكن علميا أو عمليا رسم حدود صافية على أساس العرق أو اللغة ... الإشكال في التحديد الدستوري للهوية لا يكمن في التعداد الانتقائي للمكونات، بل في غياب الاعتراف الصريح بمكون حاضر في الواقع والنموذج الأسمى للهوية المغربية الناتجة عن اندماج تاريخي عميق، يتجاوز الثنائية بين العرب والأمازيغ...، ويتسع ليشمل كل الروافد التي صنعت المغرب. فغالبية المواطنين اليوم لا ينتمون إلى رافد واحد صاف، بل هم أبناء تداخلات معقدة ومتعددة؛ فقد نجد مغاربة من أم تفراوتية جدتها من جماعة بني هلال وأب من العيون ذو أصول سودانية جدته ريفية أندلسية وقس على ذلك. هذه ليست استثناءات، بل هي القاعدة التي تشكل النسيج المجتمعي المغربي. ومع ذلك، لا يمنحهم النص الدستوري اعترافا مستقلا، بل يعيد تصنيفهم ضمن مكونات منفصلة، كأنهم مجرد تجميع لعناصر سابقة، لا هوية جديدة قائمة بذاتها. هم النهر الذي انبثق من التقاء الروافد، لا مجرد رافد إضافي. إنهم التعبير الأصدق عن "الهوية المغربية الواقعية"، لكنهم يظلون غائبين عن الوعي الدستوري الرسمي. إن هذا الواقع هو نتيجة سيرورة ديموغرافية وثقافية طويلة، لم تقم على الإقصاء، بل على التفاعل العضوي، فكم من قبائل عربية استقرت في مناطق أمازيغية فتمزغت تدريجيا، وقبائل أمازيغية انتقلت إلى الحواضر والسهول فتعربت بفعل المعاش والتواصل. إن الهوية في المغرب ليست معطى جغرافيا أو لغويا خالصا، بل بناء مركب يتجاوز الانتماء الظاهري، ويتشكل من جدل التاريخ والمعيش اليومي والانصهار المجتمعي المتواصل. مقارنة بالنموذج الأمريكي - قوة المواطنة القانونية الجامعة عند مقارنة التصور المغربي لتعريف "الشعب" في دستور 2011 بما نجده في نماذج دستورية أخرى، وعلى رأسها الدستور الأمريكي، يبرز اختلاف جوهري في الفلسفة التأسيسية. فبينما يجنح النص المغربي نحو تعداد المكونات الثقافية والتاريخية للمجتمع، فإن الدستور الأمريكي، على الرغم من خلفية تاريخه المعقد مع العرق والتمييز، يتفادى أي تعريف إثني أو حضاري للشعب الأمريكي. لا نجد في نصه إشارة إلى الأصول الإنجليزية أو الإفريقية أو الألمانية أو اللاتينية.. بل يستند التعريف إلى مبدأ المواطنة القانونية أن تكون أمريكيا هو أن تولد على التراب الأمريكي أو تكتسب الجنسية عبر مسار قانوني، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الأصل. وتتجسد هذه الفلسفة في شعار الدولة "E Pluribus Unum" من التعدد، واحد الذي يختزل رؤية وحدوية تعلي من شأن المواطنة كعقد قانوني وسياسي فوق-هوياتي، يضمن المساواة في الحقوق والواجبات مع بعض التحفظات التي ليست موضوعنا. هذا النموذج لا يلغي التنوع الثقافي، بل يضعه في مكانه المناسب أي المجتمع، الثقافة، الفنون، دون أن يحوله إلى بنية تقسيمية في النص الدستوري ذاته. بالمقابل المقاربة المغربية، رغم سعيها المشروع للاعتراف بالتعدد الثقافي، تخاطر من حيث لا تدري بإدخال منطق الانقسام الهوياتي إلى صلب الوثيقة الدستورية، عبر ترسيخ تصور هوياتي قائم على الروافد المعلنة، بدل الانصهار التاريخي العميق. ولعل ما يعمق هذا التناقض، أن القانون المغربي يقر بحقوق المواطنة الكاملة، ويعترف صراحة بالجنسية لأبناء المغربيات من زواج أجنبي، وهو تقدم مهم في منطق المساواة القانونية. غير أن تحقيق مواطنة جامعة حقيقية يقتضي ما هو أبعد من الإقرار القانوني، إذ لا تكتمل هذه المواطنة إلا في ظل هوية وطنية موحدة ومحتضنة شعبيا، تتجاوز منطق التصنيفات والحقوق الثقافية وتعلي من الانتماء المشترك في ظل الإسلام، وإمارة المؤمنين، والتاريخ الوطني المشترك، بما يعزز وحدة الشعور الجمعي لا مجرد شرعية الاعتراف أو الإقامة أو الدم. الانصهار الحضاري قوة، والتعصب العرقي زوال يقدم لنا التاريخ البشري دروساً بليغة حول مصير الأمم. فالأمم والإمبراطوريات التي بنت عظمتها على الانصهار والتعدد والتفاعل، هي التي عمرت طويلا وتركت بصمة حضارية خالدة. أما التجارب التاريخية التي قامت على وهم "النقاء العرقي" أو التعصب لدين أو لغة أو عرق واحد، كان مصيرها العزلة والانكماش ثم الحرب والزوال. فالفينيقيون، أسلاف شعوب المتوسط، لم يكونوا عرقا نقيا، بل شعبا بحريا منفتحا، بنوا حضارة تجارية امتدت من لبنان إلى المغرب، وتركوا إرثا ثقافيا تجاوز حدودهم. والرومان لم يبنوا إمبراطوريتهم على دم لاتيني نقي، بل وسعوا مفهوم المواطنة ليشمل مختلف الشعوب، حتى أصبح الإمبراطور نفسه من أصول إسبانية أو شمال إفريقية. القوة كانت في القانون المشترك والانتماء الجامع، لا في الأصل. أما الحضارة الإسلامية فقد بلغت ذروتها حين شكلت فضاء علميا وثقافيا مفتوحا، اجتمع فيه العرب والفرس والأمازيغ والهنود وغيرهم، تحت مظلة لغة وثقافة جامعة، أنتجت ثورة علمية وإنسانية لا تزال مآثرها حية. في المقابل، كانت نهايات التجارب القائمة على "نقاء العرق" مأساوية. فألمانيا النازية، التي مجدت العرق الآري، جرت العالم إلى دمار شامل. واليوم، لا تنتج النعرات الإثنية والطائفية سوى الحروب الأهلية والانقسام وسقوط الدول. إن الانصهار لا يعني تذويب الاختلاف، بل تحويله إلى طاقة بناءة داخل مشروع وطني جامع. أما التعصب، فجوهره نفي الآخر، وهو طريق أكيد إلى التفكك والخراب. ضرورة المراجعة - من تعديل النص إلى الاستثمار في الإنسان ليس الحديث عن "المكون المنسي" ترفا فكريا، بل ضرورة وطنية ملحة في زمن تتعاظم فيه خطابات الهوية والانقسام، خصوصا عبر الفضاء الرقمي حيث تتحول "الحساسيات الافتراضية" بسرعة إلى تشققات واقعية في النسيج المجتمعي إذا لم تواجه بخطاب وطني جامع. وأمام هذا التحدي، لا بد من تحرك مزدوج مراجعة النص الدستوري من جهة، والاستثمار في الإنسان من جهة أخرى. أولا: مراجعة النص الدستوري البداية يجب أن تكون رمزية وتشريعية فالتصدير الحالي للدستور يعتمد على منطق التعداد، ويغفل المكون الذي بزغ من هذا التعدد أي الشعب المغربي المنصهر الهدف هو صياغة تعترف بأن الهوية الوطنية ليست مجرد جمع لروافد، بل هي نتاج تاريخي لانصهارها وتفاعلها العميق. الاعتراف بهذه النتيجة لا يلغي التعدد، بل يسمو به إلى مشروع وطني مشترك. فتعديل بسيط في صيغة التعريف قد يحدث تحولا عميقا في تصور الذات الجماعية. ثانيا: الاستثمار في الإنسان إن النص الدستوري، مهما كانت قوته الرمزية، لا يكفي وحده. فبناء هوية جامعة يتطلب استثمارا طويل الأمد في التعليم والثقافة والفن: * في التعليم: لا بد من مراجعة مناهج التاريخ والتربية على المواطنة...، لتروى قصة المغرب كتاريخ انصهار لا تجاور، يجب أن يرى التلميذ في كتابه المدرسي صورة لذاته المركبة، ويدرس سير شخصيات ومراحل جسدت التفاعل العرقي والثقافي بدل تكريس الهويات المنفصلة. * في الثقافة والإعلام: لا بد من تفكيك الصور النمطية التي تختزل كل مكون في جغرافيا أو سلوك، يجب إنتاج محتوى إعلامي وفني يروي قصص التمازج العائلي والاجتماعي، ويبرز شخصيات تعكس هذا "المكون المنسي" الذي يعيش في الواقع، لكنه غائب عن الشاشة والخطاب. * في الفن: للفن قدرة فريدة على مخاطبة الوجدان وتشكيل الوعي. لذلك يجب تشجيع المبادرات الفنية، في الموسيقى والسينما والمسرح والفنون التشكيلية... التي تستلهم من فكرة التمازج وتقدمها في قوالب إبداعية مؤثرة، والفنون والعادات والتقاليد الشعبية خير دليل على العبقرية المغربية في الصهر والتوليف. إن الاعتراف ب "المكون المنسي" لا يلغي التعدد الثقافي ولا ينتقص من شرعيته، بل يمثل أرقى أشكال الاحتفاء به. إنه تأكيد على أن التفاعل التاريخي بين مختلف روافد الهوية المغربية لم ينتج مجرد فسيفساء متجاورة، بل صاغ نسيجا حيا وموحدا اسمه "الشعب المغربي"، بفرادته المركبة ومصيره المشترك. والتحدي الحقيقي الذي يواجهنا اليوم هو الانتقال من هويات متقابلة إلى مواطنة حضارية جامعة، تستمد شرعيتها من وحدة الانصهار التاريخي، لا من وهم النقاء أو الفصل الثقافي. ولعل ما يبعث على الأمل ويؤكد وجاهة هذا الطرح، أنني عرضت هذا المقال قبل نشره، على مغاربة من خلفيات وانتماءات مختلفة فوجدت في ردودهم احتضانا صادقا للفكرة، وإجماعا على أن المغاربة، رغم تنوعهم، يتقاسمون عمقا وحدويا يسبق التصنيفات، ويحتاج فقط إلى من يعبر عنه بصدق. من هنا، فإن إعادة اكتشاف هذا العمق الوحدوي يجب أن تجد طريقها إلى نصوصنا التأسيسية، وفي مقدمتها الدستور، كما إلى سياساتنا التربوية والثقافية. فبناء مغرب المستقبل مغرب موحد، عادل، مزدهر يبدأ من إعادة الاعتبار لهويتنا المركبة، والاحتفاء بها لا كعناصر متجاورة، بل كقوة اندماجية حية تسكن وجدان المغاربة جميعا. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة