حسن لقيبي الجمعة 4 يوليوز 2025 - 0:53 التجنيد الثقافي في صراعات المحاور الإقليمية في عصر تتشابك فيه خيوط السياسة بسجاد الثقافة، وتخاض فيه معارك النفوذ على الشاشات وفي أروقة المهرجانات والمسابقات، يبرز مفهوم "التجنيد الثقافي"، ليرسم ملامح الواقع الثقافي والسياسي... إنه ليس استقطابا بالقوة، بل تجنيد ناعم؛ وفق سياسة هجينة تحول الفن والأدب والإعلام إلى أدوات نفوذ، وتجعل من المثقفين والمبدعين أصولا في لعبة توازن القوى الإقليمية. هذا المقال هو محاولة للمساهمة في تفكيك هذا المشهد المعقد، والغوص في آلياته الدقيقة، من بريق الاحتواء وجاذبيته، إلى الوجه الآخر المظلم الذي يكشف عن ثمن الخروج عن النص، وصولا إلى طرح سؤال جوهري حول إمكانية إنقاذ الثقافة من دورها كأداة، وإعادتها إلى رسالتها الإنسانية السامية. رغم غياب مفهوم "التجنيد الثقافي" عن التداول الواسع، فإنه يفرض نفسه كأداة فعالة في التأثير في القناعات، ليس عبر الضغط المباشر، بل عبر مسارات ثقافية ناعمة تستهدف المشاعر وتعيد تشكيل الهويات والثوابت والمقدسات...، إنه امتداد لمفاهيم "التجنيد الفكري" و"الأيديولوجي"، لكنه يتميز بتركيزه على البعد الرمزي والجمالي، حيث تستخدم الفنون والآداب والموسيقى ومنصات الإعلام الجديد لتوجيه الأفراد نحو تبني مواقف معينة، غالبا دون أن يدركوا أنهم يتحولون تدريجيا إلى حوامل لأفكار غيرهم وتعتمد هذه العملية على الاستقطاب العاطفي، وتقديم نماذج هوية بديلة للفئات التي تشعر بالتهميش، بالإضافة إلى توظيف انتقائي للنصوص الدينية والتاريخية لتعزيز رؤية أحادية تطرح كحقيقة مطلقة. وفي خضم التنافس الإقليمي، تحولت هذه الآليات إلى استراتيجية ممنهجة فالجوائز الأدبية السخية لا تكتفي بتقديم الدعم المالي، بل تمنح الفائزين شرعية ثقافية تربطهم تدريجيا بالمؤسسة المانحة كما تخلق المهرجانات والملتقيات الفكرية فضاء للتواصل والتموقع، بينما توفر الفضائيات الكبرى و "مراكز الأبحاث" منابر دائمة لمن يتم اختيارهم بعناية، بما يكرس ارتباطهم العضوي بسياسات الدولة المستضيفة. ولم يكن هذا الحضور الرمزي وحده كافيا، فقد تم تتويج عملية الاحتواء بإجراءات رمزية كالإقامات والتجنيس، بما يحول المثقف من "ضيف مؤقت" إلى "مقيم دائم" له مصلحة في استقرار المنظومة التي احتوته. ليست كل أدوات النفوذ قائمة على اجتذاب الجاهز والمشهور، فالاستراتيجية الأكثر عمقا هي تلك التي تفضل زرع البذور بدلا من قطف الثمار أو بالأحرى الاستثمار الأقل كلفة؛ فبدل استقطاب المؤثرين الذين راكموا مجدهم بشكل مستقل، يجري التوجه إلى "صناعة" أصوات جديدة، تشكل من مراحلها الأولى داخل دوائر الرعاية والتوجيه، بما يضمن توافقا عميقا بين الشخص المُنتَج وخيارات الجهة الراعية. إنها هندسة دقيقة تبدأ باكتشاف المواهب النامية التي يلمح فيها انسجام أولي مع الأفق الفكري للدولة الراعية، بعد ذلك، تبدأ مرحلة التلميع والتأهيل عبر الورشات والتدريبات والفرص التي تفتح تدريجيا في مناخ يبدو احترافيا، لكنه في جوهره عملية تصنيع رمزي. ثم تأتي مرحلة الإطلاق، حيث يقدم "النجم الجديد" للجمهور بطريقة مدروسة عبر قوائم الجوائز والمقابلات والمنصات الكبرى، مع تعزيز حضوره رقميا عبر شبكات ترويجية منظمة، وفي اللحظة المناسبة، يمنح "الختم الرسمي" بجائزة كبيرة أو منصب اعتباري، لتكتمل دائرة "الشرعنة" ويصبح هذا الصوت الجديد مرجعية، الرهان هنا ليس فقط على الكفاءة، بل على الولاء المبكر؛ فالشخص الذي تم "صنعه" يشعر في الغالب بانتماء عميق إلى الجهة التي رعته، وحين يتحدث إلى مجتمعه الأصلي، يرى كجزء من النسيج المحلي، مما يمنحه مصداقية لا تتوفر غالبا للمؤثرين المستوردين، هكذا تتحول صناعة النجوم إلى مشروع رمزي بعيد المدى لإعادة تشكيل الرأي العام الإقليمي عبر أصوات تبدو حرة، لكنها نبتت في تربة محسوبة. إن الدور الأساسي للتجنيد الثقافي يتجاوز مجرد بناء السمعة أو القوة الناعمة بمفهومها العام، ليصبح أداة هجومية مباشرة في ساحة الصراع الجيوسياسي؛ فهدفه الأسمى ليس فقط تلميع صورة الدولة المستضيفة، بل تفكيك صورة الدولة الخصم وتقويض سرديتها من الداخل يتحقق ذلك عبر خلق منظومة إعلامية وثقافية بديلة وموازية؛ فمن خلال القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والمؤثرين الذين تم استقطابهم، يتم بناء منصات قوية تخترق حدود الدولة المنافسة وتتحدث مباشرة إلى شعبها، هذه المنصات تعمل بشكل ممنهج على التشكيك في الرواية الرسمية للخصم، وكشف تناقضاتها، وتسليط الضوء على إخفاقاتها الاقتصادية أو السياسية، مما يخلق حالة من انعدام الثقة بين المواطن وحكومته. ويكتسب هذا التأثير قوة مضاعفة عند استقطاب مثقفين وإعلاميين من أبناء الدولة الخصم نفسها فهؤلاء لا ينظر إليهم كأصوات خارجية، بل كشهود من أهل الدار؛ فعندما ينتقد كاتب أو صحفي بارز نظامه من منصة توفرها له الدولة المنافسة، فإن لكلامه وقعا أعمق وأشد إيلاما، يضعف الموقف الأخلاقي والمعنوي لدولته الأم. كما يتحول هذا الجيش الناعم إلى أداة لزعزعة الاستقرار الداخلي عبر احتضان أصوات المعارضة والمجموعات المهمشة من داخل الدولة المنافسة ومنحها منابر لم تكن لتحلم بها يتم تضخيم الاحتجاجات الصغيرة، ودعم النشطاء الحقوقيين، وتوفير مساحة آمنة للمنشقين، مما يضع النظام الخصم في موقف دفاعي دائم، ويشغله في معاركه الداخلية، ويحد من قدرته على لعب دور فاعل على الساحة الإقليمية بهذه الطريقة، لا يعود التجنيد الثقافي مجرد استعراض للقوة الناعمة، بل يتحول إلى سلاح فعال في حرب استنزاف تهدف إلى إضعاف الخصم عبر تآكل شرعيته وتفكيك جبهته الداخلية، دون إطلاق رصاصة واحدة. خلف هذا المشهد الزاهي، تلوح ظلال من الأسئلة العميقة حول كلفة هذا الاحتضان على حرية المثقف واستقلاليته، إذ يرى كثيرون أن هذا النموذج قد ينتج "ترويضا ثقافيا" ناعما، حيث يجد المبدع نفسه مدفوعا لتجنب انتقاد السياسات التي ينتمي إليها فضاؤه الجديد حفاظا على مكتسباته، هذا التحييد التدريجي للصوت النقدي لا ينزع عن المثقف أبرز وظائفه فحسب، بل يؤدي إلى نزيف حاد للكفاءات من بلدانها الأصلية، ويخشى أن يحول بعض المثقفين إلى أدوات في صراعات المحاور الإقليمية. والوجه الآخر لهذه الاستراتيجية يتمثل في أداة الترهيب التي تكمل وظيفة الترغيب، فعندما يخرج شخص تم استقطابه أو "صناعته" عن "النص" الرسمي، لا ينظر إليه كمجرد معارض، بل ك"استثمار فاشل" ويكون التعامل معه حاسما ليصبح عبرة، بدءا من الإقصاء الصامت ووقف الدعم، مرورا بحملات التشويه المنظمة على وسائل التواصل، وانتهاء في حالات قصوى بالطرد أو بالملاحقة والتهديد القانوني. إن النظام الذي يصنع النجوم هو نفسه الذي يمتلك قدرة تدميرهم، مما يفرض على الكثيرين رقابة ذاتية، حيث يصبح الخروج عن "سرب الطاعة" مخاطرة باهظة الثمن. في جوهره النقي، يعد الاستثمار في الثقافة أسمى أشكال الاستثمار في الإنسان، فهو الذي يبني العقول ويرتقي بالمجتمعات. كان يفترض بالثقافة أن تكون ذلك الفضاء الحر الذي تتلاقى فيه الأفكار وتتحاور فيه الشعوب، غير أن هذا الدور النبيل، ويا للأسف، قد تم اختطافه في زمننا هذا ليصبح أداة سياسية باسم "القوة الناعمة" ومنطق "المصلحة " لقد شوهت الثقافة حين تحولت من غاية إلى وسيلة، وكانت النتيجة الأكثر إيلاما هي زرع الشقاق بين المثقفين أنفسهم، وتحويلهم من زملاء في مشروع فكري إلى جنود في معسكرات متضادة، وهكذا فإن ما كان يفترض به أن يكون جسرا يجمع العقول، أصبح جدارا فاصلا. وفي مقابل هذا الواقع، يجب التأكيد أن من أراد فعلا أن يكسب العقول والقلوب، في الحاضر والمستقبل، وأن يسطر لنفسه مجدا تاريخيا حقيقيا، عليه أن يسلك طريقا آخر. الطريق لا يمر عبر شراء الولاءات أو تكميم الأفواه، بل يمر عبر الاستثمار بصدق في الثقافة كقيمة إنسانية، وفي بناء فضاء رحب وآمن يتسع للأصوات الحرة ويشجع الآراء الناقدة. إن مواجهة الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، هو جوهر الممارسة الحضارية ودليل الثقة بالنفس فالدولة التي تحتضن نقادها وتناظرهم فكريا هي دولة تطورها حتمي كما ستكتسب احترام العالم وتؤسس لنفوذ أخلاقي مستدام. أما الدولة التي تخشى من قصيدة أو مقال، فإنها تكشف عن هشاشتها، وقد تكسب صمت الخائفين في حاضرها، لكنها حتما ستخسر عقول الأحرار في مستقبلها، وستذكر في التاريخ كقوة قمعت، لا كحضارة أنارت. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة