حسن ناجح الجمعة 20 يونيو 2025 - 14:35 قراءة سيميائية في آليات الرمزية المبتذلة".. هل نحن أمام انشطار الإدراك أم حتمية انحراف المعنى؟" المقدمة: الإنسان المعاصر وسط متاهة الرموز في ظل التحوّلات التكنولوجية المتسارعة وانعكاساتها الملموسة على مختلف المستويات، يجد الإنسان المعاصر نفسه غارقًا في سيل هائل من الأخبار والمعطيات وفي وفرة من التطبيقات المجانية التي تغطي تقريبا معظم الخدمات، مما أدى إلى تلاشي الحدود التقليدية بين ما هو ذاتي وما هو جماعي فيما يتعلق بسيكولوجية الإنسان و ثقافته و معتقداته. بذلك، أصبحت إشكالية الهوية لدى الفرد والجماعة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، إذ لم يعد التساؤل حول هذه الخاصية البشرية مجرد شأنٍ فلسفي، بل تحول إلى استفهام وجودي ضروري في مواجهة الثورة الرمزية التي تهدد بتفكيك ذات المتلقي وتذرية المعنى الذي أصبح يصعب إدراكه بعد التفتيت. وتثير هذه الإشكالية بعض التساؤلات الفرعية حول أسباب هذه التحولات ومقاصدها، تلك التي قلبت حياة الإنسان، إبان القرن الحادي والعشرين، رأسا على عقب، وللإجابة عليها، أصبح من الضروري تفكيك كل الإشارات السيميائية والإيحاءات اللاشعورية التي نلتقطها يوميا، دون استيعاب ما وراءها أحيانا. فما الذي يميز الحقل الرمزي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي مثلا؟ وكيف تحولت دلالات الرموز من أدوات للتعبير إلى أدوات للهيمنة على مسار الإنسان وتكييف عقله؟ ثم كيف للإنسان المعاصر أن يقاوم انزلاق المعاني و يجتنب كمين التلاعب به وتوظيفه كوكيل ضد نفسه و ضد عشيرته؟ زمن الابتذال الرمزي لقد كان لعوامل العولمة، وما رافقها من تسارع في انتقال الأفكار والصور والرموز عبر الحدود، أثر بالغ في إعادة تشكيل المشهد السيميائي للإنسان المعاصر أو ما يصطلح عليه، ب "المسرح السيميائي". وهو مفهوم يُحيل إلى الفضاء الرمزي الذي بات سهل المنال عبر قنوات الإعلام التقليدي أو شبكات الإعلام البديل والذكاء الاصطناعي، حيث تتفاعل الأمم والثقافات والهويات ضمن منظومة من التمثيليات والصور والدلالات المتداولة عبر الإعلام، التكنولوجيا، الفن، السياسة، والتجارة. فهو إذن الساحة الافتراضية التي تُعرض فيها الهويات في شكل سرديات مرئية، ملفوظة أو مُشفّرة. ويخضع هذا المسرح السيميائي لقواعد التنافسية أوالهيمنة الرمزية، حيث تسود بعض الرموز وتُهمّش أخرى. وعلى غرار مغارة أفلاطون، فالإنسان يجسد في الوقت نفسه دور المتفرج والممثل، إذ لا يكفي أن يوجد، بل يجب أن يرى، ويروي، ويُستهلك كل المنظومات الدلالية العالمية. مما يطرح إشكالية التموقع والتمثيل في عالم متعدد العلامات والقراءات، إلا أنه و مع بروز معالم النظام العالمي الجديد التي تتجلى تارة في تكريس الثنائية القطبية بين شرق وغرب، حيث يسعى كل منهما إلى ترسيخ مشروع عولمة ثقافته، و تارة أخرى، مع تجاذب عدة تحالفات التي تسارع نحوالهيمنة. فلم يعد الفضاء الرمزي محكومًا بمرجعيات محلية أو تقاليد ثقافية راسخة كما خطّه الأسلاف، بل أضحى ساحة مفتوحة تتنازعها قوى اقتصادية، سياسية وإعلامية عابرة للحدود الجغرافية. وقد أدت هذه التنافسية إلى انفجار غير مسبوق في إنتاج العلامات المشفرة وتداولها عبر مختلف الوسائل، خصوصا عبر تقنيات التواصل الحديثة، وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، حيث تتجاور وتتصارع رموز متباينة، وتتشابك سمات الخطابات في فضاء متداخل لا يعترف بمؤسسات الدول. ونتيجة لهذا الصراع، أضحى الإنسان معرّضًا لحالة من التيه التأويلي، إذ بات يجد نفسه أمام مسرح سيميائي مترع بالرموز التي تأخذ أشكالا مختلفة و تتغير باستمرار. إضافة إلى ذلك، فإن معانيٍ الرموز تتقاطع على خشبة هذا المسرح إلى حد التناقض أحيانا، حيث تفقد العلامات استقرارها ودلالتها الأصلية المتعارف عليها، إذ تصبح حاملة لمدلول اخر، أحيانا، عكسي. هذا التشظي في المرجعيات الرمزية ليس وليدا لفوضى عشوائية في الساحة الرمزية، بل هو، في كثير من الأحيان، نتاج منظومة مدروسة تكرر إنتاج رموز العالم وفق منطق السوق والهيمنة والأدهى من ذلك، وفق أيديولوجية معينة. فقد أفضى مشروع العولمة والنظام العالمي الجديد، القائم على التدافع بين القوى، إلى نوع من الارتباك في تفسير الذات والعالم، وأنتج حالة من الاغتراب الرمزي، حيث يغدو البحث عن المعنى مغامرة محفوفة بالالتباس والتردد وأحيانا بالانهزامية أمام تعقيد نماذج الرموز الحديثة المعقدة و صعبة القراءة. الهوية الرمزية بين التفكك وإعادة التشكيل نتيجةً لذلك، تُصبح الهوية الرمزية (Identité sémiotique) بنية ثقافية معقّدة تتجاوز حدود الانتماء العرقي أو الجغرافي أو القبلي، بل حتى الثقافي، لتتجلّى في منظومة من الرموز والدلالات المعدة لغرض تشكيل تصورًا متعدّد الأبعاد للفرد والجماعة. وبناءً على ذلك تصبح الذات والهوية في حالة تشظٍّ دائم و تسقط في فخ المعضلات السيميائية. وقد تتكوّن هذه الهوية من علامات لغوية، شعائرية، بصرية، وسردية تعبّر عن الانتماء الثقافي والقيمي، والعقائدي. وتُعاد صياغة هذه العلامات باستمرار تبعًا للسياقات الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية. وهكذا، فالذات، كما تُرى وتُعبّر عن نفسها بواسطة هذه الرموز، تصبح، داخل فضاء تأويلي مشترك ومتغيّر، ضحيةً للمحفّزات الدلالية في قالبها التجاري. مفاهيم مركزية لفهم الانفجار الرمزي من جهة أخرى، ولفهم ظاهرة الانفجار الرمزي، لا بد أولًا من تحديد المفاهيم. فالعلامة (Signe)، وفقًا لفرديناند دي سوسير (Ferdinand de Saussure)، تتكون من الدال (Signifiant) وهو الشكل الحسي، والمدلول (Signifié) أي المعنى أو الفكرة، وتجمع بينهما علاقة مفصلية مزدوجة. إلا أنه، ومع تطور الوسائط الرقمية و علم الأعصاب الإدراكي، لم يعد هذا الارتباط ثابتًا، بل أصبحت العلامات تتكاثر وتنفصل عن مدلولاتها، مما أدى إلى ما يمكن تسميته ب"تضخم العلامات" (Infobésité) أو بالأحرى، "فوضى العلامات"، حيث يغدو الرمز كيانًا قائمًا بذاته، يُستَهلَك ويُعاد إنتاجه خارج أي ضرورة دلالية، لاسيما على مستوى التضمين (Connotation) والمعنى الحرفي (Dénotation). وهكذا، بينما ترتبط العلامة بوظيفة دلالية مباشرة، يمارس الرمز وظيفة إيحائية تتجاوز حدود المعنى الظاهر، وتدعو إلى فعل التأويل كشرط لفهم وجوده. التضخم السيميائي: من العلامة إلى التشويش الرمزي كما سبق ذكره، فالقصد في هذا المقال ب"الدال" هو الشكل الحسي للعلامة، و"المدلول" الفكرة المرتبطة به، أما "الرمز" فيفترض بعدًا تأويليًا ثقافيًا يتجاوز العلاقة المباشرة بين الدال والمدلول، وعليه، فإن مفهوم الفوضى الرمزية أو الانفجار الرمزي يتجاوز المعنى التقني ليصبح عنصرًا من البعد الظاهراتي. (La dimension phénoménologique). وبالتالي، فالفوضى السيميائية هي ظاهرة معاصرة تُشير إلى تكاثر غير مسبوق في إنتاج وتداول العلامات والرموز والدلالات، إلى درجة تؤدي إلى طمس العلاقة بين الدال والمدلول، بل وبين الحقيقي والمُتخيل. ويحدث هذا الانفجار في ظل تطور الوسائط الرقمية والتواصل حسب مخططه الجديد المبتذل، حيث تصبح كل تجربة إنسانية قابلة للتحويل إلى علامة أو محتوى قابل للاستهلاك الرمزي، مما ينتج نوعا من التشويش الرمزي و يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز، و كذلك يُفضي إلى فراغ دلالي أو تشقق معرفي وثقافي. في هذا السياق، يصبح الفرق بين الرمز والعلامة بالغ الأهمية، إذ يفترض الرمز وجود بعد ثقافي وتأويلي يتجاوز العلاقة الميكانيكية بين الدال والمدلول، ويحمل معان عميقة تتغيّر بتغيّر السياقات. أما العلامة فقد باتت، في عصر الرقمية، قابلة للتفريغ وإعادة التدوير، حيث يتم إنتاجها بعدة أوجه حسب المحور النموذجي مُعدّ بعناية و ذلك قبل استهلاكها بلا عمق، مما ينم على عملية تآكل دلالي شامل. من إنتاج المعنى إلى استهلاك العلامة لا يمكن للملاحظين والمهتمين بالسيميولوجيا إنكار أن البنية السيميائية للوجود الإنساني شهدت تحوّلًا جذريًا في العقود الأخيرة. وهذا التحول يرتجع أساسا إلى التقدم التكنولوجي الحثيث، وخصوصًا في مجالات الإعلام الرقمي والبحث العلمي، فضلا على ظاهرة الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالبحث على المعلومات التي غالبا ما يعتبرها المستخدم كمعطيات. هذا التحول لم يكن سطحيًا أو تقنيًا فحسب، بل طال جوهر علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، حيث انتقل من موقع الفاعل المنتج للمعنى إلى مستهلك للرموز المنتجة ضمن منظومة آليات رمزية معقدة ومتداخلة. فلم يعد الفرد يملك زمام تمثيل ذاته، بل بات موضوعًا لتمثيل خارجي تُنتجه خوارزميات السوق الرقمي، وخطابات الإعلام، وأدوات العرض البصري. وهكذا، تحوّل الإنسان إلى نص مفتوح، سهل القراءة والتأويل، تتقاذفه الدلالات بينها ويُعاد تشكيل مخيلته دوريا وفق معايير العرض والاستهلاك، و أحيانا حسب عدد المتابعين والتفاعلات، لا بعمق التجربة أو إخلاص الانتماء. الهوية كسلعة رمزية وارتباطا بالموضوع، لم تعد الهوية تعبيرًا عن تجربة ذاتية عميقة أو انتساب حضاري متجذّر، بل أصبحت بضاعة رمزية تُعرض على المنصات الرقمية، وتُقاس قيمتها بالتأثير والتفاعل وإثارة الرموز التعبيرية (Emoji). هذا التغيير يجسد تفريغًا تدريجيًا للذات من محتواها الوجودي والمعنوي، واستبداله بتمثيليات سطحية تختزل الإنسان في صورة قابلة للتسويق والإشهار، أي بصيغة أخرى للاستغلال. وحسب هذه المنظومة الجديدة، تُختزل الهوية، التي كانت نتيجة تراكمات تاريخية، وثقافية، وأنثروبولوجية، في قدرته على الاستجابة للحافز اللحظي الكامن في العرض البصري والترميز التسويقي. وبنفس المنوال، فقد تم التطرّق خلال التحليلات السابقة إلى تحولات الرأسمال "السيميائي الإنساني" وخاصة منه الخطاب النضالي والتحرري في ظل ما يسمى بالعولمة الإعلامية والتكنولوجية، حيث جرى الوقوف على كيفية تحول المطالب المشروعة المتعلقة بالعدالة والحرية، تلك التي شكّلت جوهر الحركات الاجتماعية والسياسية، إلى أدوات رمزية ساخرة في خدمة السلطة تنفيذا لأجنداتها و سعيا لمبتغاها ومصالحها. فبدل أن تكون الشعارات وسيلة لتحرير الوعي، أصبحت جزءًا من آليات السيطرة الناعمة، تُفرَّغ من مضمونها، وتُعاد تعبئتها في قوالب جمالية أو استهلاكية تروّجها وسائل الإعلام والمنصات الرقمية. هذه السيطرة لم تعد تُمارَس فقط من خلال المؤسسات التقليدية (كالمدرسة، والشارع، والمعابد، والدولة بمختلف مؤسساتها)، بل أصبحت تتحقق عبر احتكار المعنى وإعادة تشكيل المفاهيم من قبل شبكات قوى غير مرئية، تتجسد في تحالفات بين السوق، والخوارزميات، والمحتوى الثقافي المُوجّه. وهكذا، يتم التلاعب بالرموز، وإعادة برمجة اللغة، وإفراغ المفاهيم من أبعادها النقدية، لتصبح أدوات لتطبيع الواقع بدلاً من مساءلته. وعليه، فالتحول السيميائي الذي يطرأ حاليا على صعيد العالم يجعل من الإنسان كائنًا معروضًا أكثر مما هو كائنً موجود. فلم يعد «أن تكون» معناه أن «تفكر» أو «تسائل» أو «تنتمي»، بل أن «تظهر» و«تُرى» و«تُتَداوَل». وفي هذا السياق، تتحول الذات إلى علامة عائمة، غير مستقرة، يعاد إنتاجها وفق منطق العرض و الوفاء"للوكالة". وهذا ما يجعلنا أمام واقع تتآكل فيه الحدود بين الحقيقي والمتخيل، بين ما هو ذاتي وما هو مُفبرك، وبين المعنى الأصيل والدلالة المصطنعة. ويُطرح هنا تساؤل جوهري: هل ما نراه من هويات وتمثيليات هو انعكاس لإدراك الذات بحقيقتها و نجارها، أم هو قناع مفروض؟ وما مصير المعنى في عالم تُنتَج فيه العلامات بوتيرة أسرع من قدرة الإنسان على تأويلها واستيعاب معناها بطريقة صحيحة ؟ أمام كل هذه استفسارات، تبرز الحاجة الماسة إلى مساءلة عميقة لمكانة الإنسان داخل البنية السيميائية الجديدة. فبدل أن تكون الذات مركزًا للمعنى، أصبحت عنصرًا بسيطا في شبكة الرموز المتداولة تجاريًا حيث تعاد صياغة و ديباجة الدلالات عبر آليات و برمجيات لا يتحكم فيها المتلقي. من هنا، يصبح من الضروري استعادة الفعل التأويلي بوصفه أداة مقاومة رمزية، وتفكيك الخطابات الجاهزة التي تفرزها الماكينات الإعلامية. المؤثرون كفاعلين سيميائيين في تشكيل المعنى والاتجاهات الثقافية في إطار التحليل للفضاء السيميائي ، لا يقتصر الأمر فقط على تفكيك الرسائل و المعاني المتضمنة للرموز أو الأدوات المستعملة، بل يشمل التحليل أيضا الفاعلين و الأطراف المعنية. وفي هذا النطاق، يحتلّ المؤثرون مكانة محورية بوصفهم فاعلين رمزيين في إنتاج المعاني وتوجيه دلالات الرسائل التي يتلقّاها الجمهور. لا يُنظر إليهم فقط كصانعي محتوى، بل كقادة رأي افتراضيين يمتلكون القدرة على التأثير في إدراك الأفراد للمنتجات، والقيم، وحتى القضايا الاجتماعية الراهنة. إنهم لا يكتفون بنقل المحتوى بل يعيدون إنتاجه وتأويله ضمن بنيات رمزية مشحونة بالرسائل الثقافية والدلالات الاجتماعية. من خلال وسائط متعددة – الصور، التعليق الصوتي، لغة الجسد، الإيماءات البصرية – ينسج المؤثرون رموزًا ومعاني جديدة تجعل من التفاعل مع المحتوى الرقمي تجربة تأويلية بامتياز. فالمحتوى الذي يقدمونه ليس بريئًا أو محايدًا، بل مشحون بشحنات رمزية تتداخل فيها القيم مع الأذواق، والواقع مع الخيال، والاستهلاك مع الهوية. يلعب هؤلاء الفاعلون دورًا مهما في توجيه إدراك الجمهور. فهم لا يعرضون المنتج كما هو، بل يعيدون تأطيره داخل سردية جمالية أو اجتماعية تجعل منه رمزًا للنجاح، أو الأناقة، أو التفرّد. بهذا المعنى، يتحوّل العرض البصري إلى فعل تأويلي يُعيد تشكيل تصور المتلقي للواقع. علاوة على ذلك، يمتلك المؤثرون قدرة ملموسة على صناعة "التريند" أو الاتجاه السائد، من خلال تقديم أنماط حياة أو منتجات على أنها مطلوبة، عصرية أو تستحق التقليد. هذا التقديم لا يتم فقط عبر التكرار، بل من خلال تراكم العلامات والدلالات التي تُنتج رغبة جماعية في الامتلاك أو التشبّه. على مستوى العلاقات، يبني المؤثرون رأسمالاً رمزياً قائماً على الثقة والمصداقية، يساهم في ترسيخ قدرتهم على التأثير في قرارات الشراء، وتبنّي الآراء، ومواقف الجمهور من قضايا معينة. فالعلاقة بين المؤثر وجمهوره تتجاوز مجرد التلقي إلى مستوى الانتماء والتفاعل، ما يُعزّز من قوّة التأثير السيميائي للمحتوى. أما على مستوى نقل القيم والأفكار، فيسهم المؤثرون في نشر خطاب رمزي جديد حول قضايا مثل الاستدامة، والتنوع، والمساواة، من خلال تضمين هذه القيم في محتواهم اليومي. وهكذا، تتحوّل منصاتهم إلى فضاءات لنشر الوعي الرمزي والتأثير الثقافي. وفي الأخير، فإن المؤثرين في المنصات الرقمية يمارسون سلطة رمزية مزدوجة: من جهة، ينتجون المعنى عبر أدوات سيميائية متعدّدة؛ ومن جهة أخرى، يوجهون السلوك الجماعي من خلال إعادة برمجة الإدراك العام. بذلك، يتحوّلون إلى وسطاء رمزيين يعيدون تشكيل العلاقة بين الفرد، والمجتمع، والرموز. انهيار المرجعيات السابقة وتعدد الخطابات إن فقدان المرجعيات الكبرى – من انتماء، ووطنية، ولغة ودين – لا يمثل مجرد تحول عرضي في التجربة الإنسانية، بل يترجم أزمة وجودية عميقة يعيشها الإنسان المعاصر المتصل دائما بإحدى الشبكات. وقد شكّلت هذه القواعد عبر التاريخ مركز ثقل رمزيًّا يمنح الفرد والجماعة استقرارًا ويفرض نوعًا من التماسك الهوياتي. غير أن التحولات الراهنة، لاسيما بفعل العولمة الرقمية والانفجار الإعلامي، قد أدت إلى تفكك هذه الركائز الرمزية و تجاوز هذه المرجعيات، فانهار معها شيئًا فشيئًا الإحساس بالانتماء لمنظومة الدلالات المتفق عليها من قبل، وتحولت الذات من كينونة متماسكة إلى تقاطع هشّ لتوترات رمزية أحيانا متضادّة. وفي هذا المجرى التاريخي، تتزايد الخطابات حول الإنسان-الزبون كما تتكاثر صورُه النمطية: فهو في الوقت نفسه مواطنٌ ومستهلك، فردٌ وجمهور، حرٌّ وخاضع، واقعيٌّ وافتراضي، قنّاصٌ وطريدة. كأنما الذات لم تعد متماسكة، بل تحولت إلى تقاطعً هش لتوترات رمزية متباينة، مما يجعل من الإنسان كائنًا غامضًا، معقدا، يصعب التعرف على جوهره وتصوراته أو تحديد الملامح الحقيقية لهويته المبعثرة التي تكاد تصبح متلاشية. تحت تأثير هذا التغير، تصبح الخطابات السياسية والدينية و خاصة الشعبوية منها، أدوات لتوجيه الإدراك ثم السلوك الرمزي للمتلقي، لا عبر الإقناع العقلي، بل عبر التأثير السيميائي الكامن في أنظمة الدلالة الجديدة، أي تلك التي تعيد تشكيل المعاني وفق منطق الهيمنة و التحكم. و من بين الأهداف المتوخية، تحويل الأفراد إلى وكلاء، دون الوعي بذلك، بواسطة الرموز الموجهة، المصنعة بعناية فائقة داخل المختبرات الإعلاميائية والسياسية، فتُستخدم الرموز ذات الشحنة العاطفية، والتاريخية، والعقائدية لإنتاج دلالات جديدة تخدم السلطة بدلًا من أن تُعارضها. أزمة الدلالة وسط فوضى الرموز المستحدثة في الوقت الراهن، المتميز بهيمنة الصورة المتحركة على الكلمة وتتآكل فيه المعاني، تصبح اللغة أداة للاستهلاك السريع و منتوجا للتداول السريع، حيث تنهار بعض الكلمات ذات المعاني السامية (كالحرية، والحب، والحقيقة والإيمان) وتفرغ من مضمونها المعهود لتصبح دالة على مفاهيم جديدة و ليست بالبريئة. فالرمز أضحى قالبا جاهزا يكرّس الاستهلاك الأعمى بدل التفكير النقدي الذي يستعمل "المصفاة السيميائية" و يبعد المتلقي بعيدا عن " بروباغاندا " ودعاية المنظومة. فكأن الواقع ذاته بات محاكاة (Simulacre) كما ينعته بودرييار(Baudrillard)، أصبحت الدوال تتناسخ بلا مدلول ثابت. فالإنسان أصبح يمارس طقوس الحياة الحديثة دون حضور رمزي فعلي، كما يغدو الوجود ذاته أشبه بواجهة استخدام كل منطاق، حيث تختزل الذات إلى ملف تعريفي يحتفظ به على قواعد البيانات، والصمت إلى فشل تواصلي، والذاكرة إلى سجل رقمي قابل للمحو والتعديل. يضاف إلى هذه الطريقة في معالجة مكونات الذات سرعة استهلاك الرموز والمفاهيم المستحدثة، مما سيعجل لا محالة هذه التحولات البنيوية في النظام الرمزي المعاصر سببا في انحراف الهوية. وبفعل كثافة إنتاج الرموز وسرعة استهلاكها وتدويرها، يدخل النظام السيميائي المتعارف عليه في مرحلة تشوّه بنيوي، تُسقط معه الحدود بين الحقيقة والتمثيل، وتُختزل الحياة في شكلها القابل للتداول فقط. ولعل أحسن مثال هو الوسم ذو المعنى الكوني ألا و هو( هاشتاغ # الحرية) الذي تم نشره على منصة"X "، تويتر سابق، و الذي تم استخدامه ألاف المرات يومياً في سياقات متضاربة (من تسويق المشروبات الغازية إلى خطابات سياسية فارغة)، مما يحوله إلى دال عائم ((Signifiant flottant بلا مدلول حقيقي - محاكاة صرفة تخدم اقتصاد الانتباه، و بالتالي، أصبحت الأزمة السيميائية معضلة وجودية تمسّ قدرة الإنسان على الإدراك، وعلى تأويل العالم ومعايشته بفهم ووعي. السلطة الرمزية الجديدة في زمن الرقمنة أدركت أنظمة السلطة المعاصرة، المدعومة بعلماء النفس والسيميولوجيا و آخرون، أن التحكم في المعنى وإنتاج مفاهيم جديدة وفرضها تفوق في تأثيرها السيطرة المادية المباشرة على الفرد والجماعة. فكما هو معترف به عند السيميائيين، من يمتلك القدرة على فرض الكلمات وتحديد معانيها، يمتلك القدرة على فرض مفاهيمه وتكييف العقول. هكذا، تتحول حتى الخطابات الاحتجاجية – كما هو الحال في عدة ظواهر حالية، التي تحولت من أدوات نقدية إلى شعارات تُفرغ من شحنتها التحررية، وتُعاد توظيفها لخدمة النظام القائم. وهنا يتجلى تعريف السلطة الجديدة (Biopouvoir) حسب (Foucault) حيث تتحول السيطرة من القمع الجسدي إلى إدارة الرموز والحياة. هذه الطريقة المبتكرة لا تعمل أساسا عبر الإكراه، بل تُمارَس عبر تنظيم الخطابات وإنتاج المفاهيم، وتوجيه الأطر المرجعية للفهم. إنها سلطة ناعمة، تتخفّى في اللغة، وتتسلل إلى الإدراك الجماعي من خلال المعاني، الشعارات، الصور، والإشارات. فلم تعد السلطة في عصر ما بعد "كوفيد" قائمة على القمع المباشر أو الإكراه الظاهر، بل أصبحت سلطة ناعمة، رمزية، تتغلغل في نسيج اللغة والتصوّرات والعادات الإدراكية قبل التدخل المادي. و بتعبير أخر، فإن من يتحكم في الخطاب – أي في القدرة على تحديد الكلمات، ومعانيها، وشروط تداولها وفصل دالها على مدلولها – يتحكم فعليًا في بنية الواقع الممكن، لأن اللغة ليست مجرّد أداة وصف، بل أداة لبناء للعالم وثقافته. في هذا السياق، لا تُمارَس الهيمنة من خلال الصمت فحسب، بل من خلال فرط الكلام، وإغراق المجال الرمزي بشعاراتٍ تُستهلك حتى التفاهة، ما يجعل من الخطاب النقدي نفسه عرضة للاختطاف و الابتذال. فتتحول مفاهيم مثل "الحرية"، "الاختلاف"، "المقاومة"، أو حتى "الثورة الرقمية" من أدوات لتحرير الوعي إلى علامات تجارية رمزية، تُفرّغ من دلالتها الأصلية، وتُعاد قولبتها داخل منظومات الخطابات، لتخدم مصالح النظام القائم بدلًا من تقويضه. يحدث هذا من خلال ما يمكن تسميته بإعادة تدوير الرمزي (Recycling of symbols) ، حيث تُبتلع المفاهيم الجذرية وتُعاد إخراجها بشكلٍ مزيَّف ومقبول جماهيريًا، لتُصبح مقاومة دون مقاومة، وثورة دون فعل تغييري و العقل خامل دون فطنة. وهكذا، تُفرغ الكلمات من مضمونها، وتُحاكي شكل التمرد دون أن تمسّ جوهر البنية السلطوية وغاية وجودها. إن أخطر ما في هذا الشكل من السيطرة على الدلالات هو كونه غير محسوس مباشرة، ويعمل على مستوى البنية الذهنية للمتلقّي(Schéma mental)، بحيث يتحوّل الفرد إلى مستهلكٍ للخطابات الجاهزة والمعاني المُصنَّعة دون أن يدرك أنه يعيش داخل مشهد لغوي تم إخراجه للمسرح السيميائي بعناية، حيث حتى العصيان المحتمل مُرتَّب و مُؤطَّر سلفًا ضمن هوامش مقبولة، ومربحة، والتي تُنتج الوعي ذاته داخل بنى رمزية تحكمه من الداخل، ولا تترك له هامشًا للانفلات. ونكتشف ذلك من خلال تحليل خوارزميات فيسبوك التي تروّض الاحتجاج عبر تحويله إلى "تريند"، كما حدث مع حركة #MeToo حيث حوّلت المنصة المطالب النسوية إلى محتوى قابل للاستهلاك والإحصاء، مُفرغةً إياها من ثوريتها عبر إدراجها في اقتصاد البيانات. التحييد الخطابي والسيطرة الرمزية يُقصد هنا ب"التحييد الخطابي" تلك العملية السيميولوجية المعقدة التي لا تكتفي بتعطيل فاعلية اللغة، بل تُفرغها من شحنتها الدلالية سواء النقدية أو التحررية منها، لتُحوّلها من أداة اعتراض إلى أداة تبرير، ومن أفق للتخيل الثوري إلى بنية خطابية منضبطة وخاضعة. إنها، على ما يبدو من خلال الإشارات المنبعثة من الخطابات، إستراتيجية رمزية تنتمي إلى ما يمكن تسميته ب"التحكم التأويلي"، حيث تُعاد برمجة الرموز والمفاهيم داخل منظومة السلطة. وتستغل الأنظمة ثغرة في الخوارزميات التي لا زالت لم تضبط تماما دمج السيميائيات في تطوير تطبيقات حوسبية دقيقة، مثل التشكيل والترجمة الآلية، خاصة في اللغات الطبيعية المتعددة عبر العالم. ويُبيّن هذا النقص في دقة التطبيقات غياب المعالجة السيميائية الصحيحة للعلامات، سواء اللسانية أو غير اللسانية، مما يتيح فجوة للتلاعب بالدلالات. فاللغة، بمنطقها المتعدد العلامات، تحتاج إلى معالجة سيميائية وفية تراعي العلاقات النحوية، السياقية، والدلالية. وتُقترح مفاهيم مثل الموجهات السياقية، البنى الوظيفية، ومبادئ التداول لتأطير عمليات التأويل الآلي ومنع الانزلاق في التشكيل أو الترجمة. وبالتالي، فإن تجليات تأثير الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل المعاني وتحوير المفاهيم داخل النظام الرمزي، متناسبة مع غرض استعمال الخوارزميات في إنتاج الدلالات المراد إيصالها للمتلقي، و ذلك بناءً على معطيات إحصائية أو بنيوية، مما قد يؤدي إلى طمس المعاني الأصلية أو تشويه السياقات. وعليه، فإن حوسبة الرموز لا يمكن أن تنجح في الحفاظ على معناها دون بُعد سيميائي نقدي يضمن حفظ العلاقة بين الدال والمدلول في بيئة رقمية ديناميكية. وتبرز الحاجة هنا إلى تعاون متعدد التخصصات بين خبراء اللسانيات، الحوسبة، والسيميائيات التداولية، لضمان بناء قواعد بيانات دقيقة قادرة على التفاعل مع تنوّع العلامات واختلاف السياقات ضمن رؤية شاملة للذكاء الاصطناعي بوصفه فاعلًا دلاليًا جديدًا يعيد برمجة الإدراك ويُعيد تشكيل المنطق الرمزي. وبالرجوع إلى التحييد، فلا تتم العملية عبر المنع المباشر أو الرقابة الصريحة، بل عبر تآكل المعنى من الداخل: عبر الإفراط في تكرار المصطلحات، واستعمالها في سياقات ساخرة، أو تحميلها أبعادًا جديدة تفرّغها من مضمونها الأصلي. وهكذا، ما يُفترض أن يكون أداة صراع رمزي، يصبح مجرد "علامة مشروطة"، خاضعة لمنطق السوق أو للنكتة أو للسخرية الجماهيرية وحتى للتفاهة وأحيانا لتريند إعلاميً سريع الزوال و النسيان. وتشكّل هذه العملية ما يمكن تسميته ب"المصفاة الرمزية (Filtre symbolique)، حيث يتم "تصفية" الخطاب من عناصره المقاومة – سواء كانت مفردات، أو رموزًا، أو أساليب تعبير – وإعادة دمجها داخل المنظومة السائدة، لا بوصفها تهديدًا، بل بوصفها إما تشويشًا هامشيًا أو ترفًا تعبيريا. وقد يتحوّل الشعار الاحتجاجي إلى منتج بصري على القمصان، أو إلى تريند عابر في شبكات التواصل، أو إلى مادة للسخرية، وبالتالي يُحيد خطره دون منعه. هذه الآلية تُفرز ظاهرة ما يسمى ب"القبول الرمزي المنضبط"، حيث يُسمح للغة المعارضة بالوجود، شريطة ألا تُغيّر شيئًا، فيتحول النقد إلى مجرد تمرين لغوي داخل فضاءٍ محكوم بقواعد علمية مرتبة قبليا. بهذا المعنى، لا يُلغى الخطاب المقاوم، بل يُروَّض، وتُعاد برمجته ليخدم في النهاية مصلحة النظام الذي نشأ أساسًا ليفككه. الذات المنقسمة بين ما هو واقعي وافتراضي يعيش الإنسان المعاصر، متعدد التوجهات أو معقد الشخصية، انشطارًا دائمًا بين فضاءات رمزية متداخلة و أبعاد متراكبة: جسدٌ في الواقع، وظلٌّ في العالم الافتراضي؛ قلبٌ يتوق للانتماء، وعقلٌ مشدود إلى وهم الحرية؛ هويةٌ تتشظّى بين الرغبة في التميّز والخضوع لأوامر الخوارزميات. وهذا الانشطار لا يُعد عيبًا أو خللًا، بل هو سمة بنيوية للوجود البشري في عصر ما بعد الحداثة، حيث تتعدد الذوات نتيجة لتقسيم الهويات أو بالأحرى تجزيئها. هذا التعقيد (Complexité) حسب إدغار موران ( (Edgar Morin يتجلى في تتفاعل الأضداد في وحدة غير قابلة للاختزال. فالإنسان المعقّد ليس كيانًا متجانسًا أو ثابتًا، بل ذاتٌ مرنة، ديناميكية، تُعيد تشكيل هويّتها وفقًا للتحوّلات الفكرية، التقنية، والاجتماعية التي تشهدها الساحة العالمية التي أصبحت تشبه قرية صغيرة، وبالتالي فهو الفرد الذي تشكلت ذاته عبر مسار تاريخي واجتماعي طويل، انطلاقًا من بساطة الحياة الطبيعية وصولًا إلى تعقيد الرموز والتحولات المعاصرة المليئة بالتحوّلات الرمزية والاجتماعية، مما جعل هويّته الثقافية مركّبة وأدواره الاجتماعية متعددة. ويتجلّى هذا التعقيد في قدرته على التكيّف مع سياقات متغيّرة، تعايشه مع صراعات داخلية تتأرجح بين مرجعيات تقليدية وقيم كونية مستوردة أو مصطنعة، فضلا عن تفاعله اليومي مع رموز متباينة مصدرها العالم الافتراضي. وعلى المستوى الوطني، تُبرز التحوّلات الاجتماعية الراهنة في المغرب، لا سيما تجلّياتها في الفضاء العام، مدى تغلغل رموز ثقافية أجنبية مثقلة بدلالات مُلتبسة، ما يجعل من الساحة المغربية اليوم حقلًا حيًّا لرصد ديناميات التحوّل السيميائي. إذ يعيش الإرثُ الثقافي التقليدي حالة تداخل مع إملاءات العولمة، في مشهد شعبي متشظٍ، تولِّدُه حالةُ توترٍ رمزي دائم قد تفضي، إن تُركت بلا وعي نقدي، إلى أشكال من الانزياح والانحراف الثقافي. فمثلا نجد بعض الشباب يتابعون دراستهم بكلية الشريعة صباحاً ويُنتجون محتوى «تيك توك» مساءاً بلغة العولمة. أليست هذه هوية مركبة تعكس "الحلقة المنعكسة" (Boucle récursive) عند موران، حيث يدمج التناقضات دون انفصام؟ تحديات العصر الرقمي وأزمة المعنى تفاقمت أزمة الدلالات في ظل فوضى المعلومات، وانتشار الأخبار الكاذبة، وتقهقر التفكير النقدي والابتكار أمام سطوة المحتوى السطحي وتفوّق التكنولوجيا. فمن الواضح أن الحروب لم تعد تُخاض بالسلاح فقط، بل بالخوارزميات والرموز، وبحروب التأثير النفسي، تتراجع السياسة التقليدية للدول أمام صعود الشعبوية والانقسامات الهوياتية، وتبدو المؤسسات الدولية عاجزة عن احتواء النزاعات أو التعبير عن موقف موحّد. في هذا السياق، يصبح الإنسان مهددًا بفقدان القدرة على التخيّل، وعلى ابتكار سرديات جديدة تمنحه الأمل والمعنى. وعلى ذكر استغلال النظام الرمزي الجديد، فالمسرح السيميائي العالمي الحالي مليء بالأمثلة التي تبث أن تخمة الرموز ليست ببريئة. فالخلط المتعمد بين المفاهيم وتغييب الوعي النقدي خاصة في الإعلام، يكشف بعض جوانب الحقيقة المسكوت عنها. فسواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر قنوات الإعلام تُمرّر أفكار متناقضة على أنها مترادفة. وإذا كانت وسائل الإعلام قادرة على نشر المعرفة وتوسيع آفاق الوعي، فإنها تمتلك كذلك القدرة على تحريف الحقائق وصناعة وعي زائف يخدم مصالح معينة على حساب القيم الاجتماعية النبيلة. ويُعدّ التضليل الإعلامي أداة محورية في هذا المسار، إذ يهدف إلى التعتيم، وتهميش القضايا الحيوية، وتوجيه الثقافة، ثم إفقاد الدلالة الانفعالات الجماعية، لإضعاف قدرة المجتمعات على الفعل والمقاومة. وقد أججت تكنولوجيا المعلومات والاتصال (NTIC) من حدة هذه الظاهرة، إذ جعلت من كل فرد ناقلًا للمعلومة دون تحقق، وأسهمت في نشر الأخبار الكاذبة بسرعة فائقة، مدفوعة بخوارزميات تروّج للمحتوى الأكثر إثارة لا الأكثر دقة. هذه البيئة الرقمية تُنتج "فقاعات معرفية" تعزز الانزلاق وتكرّس روايات مضلِّلة تُبنى على مصادر مجهولة أو سرديات مشوهة. فالإعلام المضلل، مدعومًا بالتقنيات الحديثة، لا يكتفي بإخفاء الحقيقة، بل يُعيد تشكيل الإدراك الجماعي عبر استراتيجيات متقنة تستهدف العقل والوجدان والسلوك. ومن جهة أخرى، فإن غياب "البوصلة السيميائية" لدى المواطن العادي أمام التخمة الرقمية وتركيب صياغتها يُسهم في إعادة تشكيل إدراك زائل تحت وطأة المحتويات السطحية، التي تراهن على الإبهار لا على العمق، وعلى التفوق التقني المتسارع الذي لا تُواكبه بنية ثقافية أو أخلاقية موازية وعليه، فقد أضحى تراجع التفكير النقدي والابتكار المعرفي، سببًا في انكماش قدرة المستهلك على الربط بين الرموز ومقاصدها، وبين اللغة وتجذرها في التركيبة الإنسانية. في هذا السياق، لم تعد الحروب تُخاض فقط بالسلاح التقليدي، بل تطورت وبلغت مستويات رمزية متطورة وخفية. فيما يخص الخوارزميات. فقدرتها على التعلم السريع من الإنسان جعلها تصبح أداة للهيمنة على أنماط التفكير، تنظم تدفق المعلومة، وتنتج "فقاعات إدراكية" تعزل الأفراد داخل غرف صدى رقمية، حيث لا يسمعون سوى ما يعزز قناعاتهم الأولية. أما "الرموز"، فقد تحولت إلى أسلحة تأثير جماهيري، تُوظف في الإعلانات، والسياسة، والدين، والهوية، لتوجيه الرغبات والانفعالات ضمن هندسة شعورية مضبوطة. السياسة التقليدية من جهتها فقدت الكثير من قدرتها الإيديولوجية و التنظيمية، وتراجعت أمام صعود الحركات الشعبوية التي تستثمر في الانفعالات الجماعية والهويات المجزأة بدلًا من بناء رؤى جامعة. كما تآكلت شرعية المؤسسات الدولية، التي باتت عاجزة عن إنتاج توافق رمزي أو حتى عن احتواء النزاعات المتفاقمة. في ظل هذا التضخم الرمزي والتشظّي الدلالي، يعيش الإنسان المعاصر خطر فقدان القدرة على التخيّل والإدراك، تلك القدرة التي كانت دوما ركيزة تأسيسية للمعنى، ولإبداع سرديات كبرى تمنحه أفقًا إنسانيًا، طبيعيا يتجاوز اللحظة الرقمية المسطحة. ومع غياب هذه السرديات الجامعة، يغدو وجود الذات مفرغًا من نَفَسه الحي، ويُختزل إلى بيانات قابلة للتحليل، و"الذات الافتراضية" مرئية عبر الشاشات، لكنها مبهمة في العمق. وبالتالي فإن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في سيطرة التقنية، بل في ضمور الحس الرمزي، وفي الانفصال التدريجي بين اللغة والذات، بين الرمز والتجربة، وبين الإنسان وظله المتناسل في العالم الافتراضي، وهنا نفهم تحذير أومبرتو إيكو (Umberto Eco ) من «الغزو البطيء للغباء» عبر تفتيت المعرفة. نحو مقاومة رمزية جديدة رغم الاقتناع التام بضرورة قبول طفرة التكنولوجيا و تطور العلوم الجديدة للأعصاب و كذلك علوم الاجتماع و دون الانسياق وراء التشاؤم، إلا أن معضلة الأزمة السيميائية تستوجب الوقوف لمواجهة هذا الانشطار الوجودي للإنسان المعاصر. فمنطقيا، لا يكفي الحنين إلى الماضي أو رفض التطور الحتمي للتقنيات الحديثة، فالمطلوب هو مقاومة رمزية خلاقة، تقوم على مساءلة المعنى، وفهم خطاب الرقمنة بدلًا من رفضه، وتفكيك الشروط الرمزية التي تصنع الذات وتعيد إنتاجها. ينبغي إعادة ابتكار لغة قادرة على إنتاج معنى ودلالات جديدة، وتسمية الأشياء بطريقة مختلفة، والتأثير في الواقع لا بواسطة الاستهلاك السلبي، بل من خلال الوعي والمعرفة، ثم عبر الفعل النقدي والإبداعي عبر تبني رؤية جدلية (Dialectique): فكل أداة هيمنة، سيطرة أو تحكم تحمل حتميا في داخلها بذور مقاومتها. على سبيل المثال، في الأيام الأخيرة المتداولة، استفحلت أزمة المعنى في ظل مشهد رمزي عالمي يتّسم بالفوضى والارتباك، وأشير هنا إلى الحرب القائمة بين إيران وإسرائيل وتصرفات الولاياتالمتحدةالامريكية و بعض الحركات داخل المغرب. فوسط الفيض من المعلومات والإيحاءات، لم تعد العلامات تُنتج لتدلّ، بل لتُستهلك، وتُعاد تدويرها في فضاء افتراضي متخم بالدوال المنفلتة من مدلولاتها. و بالتالي، فقد المنطق مجراه، و أصبحنا أمام تصرفات متناقضة لبعض الجهات التي تموضعت خارج سياقها المألوف. والوضع كما عليه، فإنّنا أصبحنا أمام ما يمكن وصفه ب"تضخم دلالي فارغ"، حيث تتكاثر الإشارات، وتتشابك الخطابات، دون أن تنبثق عنها بنية تأويلية متماسكة. لقد أفرز هذا الانفجار الكمي في المعلومات – مدفوعًا بثورة تكنولوجية عمياء – حالة من التشويش السيميائي (Parasite sémiotique)، تُربك عملية إنتاج المعنى وتضعف مناعة الذوات في التفاعل مع الرموز بوعي نقدي. في خضم هذه الفوضى الرمزية، لم تعد الحروب تُخاض بالسلاح فقط، بل أصبحت صراعات على المعنى، وعلى الحق و الأسبقية في التسمية، وعلى التحكم في البنية العميقة للرموز التي تؤطر الإدراك الجماعي و توجهه حسب البوصلة السميائية المقررة من طرف القادة. وعلى ذكر الخوارزميات، فلا يجب اعتبراها مجرد أدوات تقنية، بل هي أنساق دلالية تُعيد ترتيب أولويات الخطاب، وتُبرمج المخيّلة الاجتماعية على نحو يرسّخ منطق التكرار والانفعال بدل التحليل والتمثل الى حد التظليل. أما الرموز – التي كانت تاريخيًا حوامل للانتماء والمقاومة – فقد تم تدجينها وتحويلها إلى واجهات سيميائية مفرغة، قابلة للتداول السريع ولكن غير قادرة على تأطير التجربة أو قول الحقيقة. ولنا في التغطية الاعلامية لحرب بين إيران وإسرائيل محاولة اقتحام حدود الدول أحسن مثال. هذه الأزمة الدلالية تمسّ بعمق الوظيفة السيميائية للإنسان ذاته، باعتباره منتجًا للمعنى ومؤولًا للعالم الخارجي من خلال العلامات التي يلتقطها. ومع تراجع التفكير النقدي عند الفرد و الجماعة، وضمور الحس التأويلي، لم تعد الذات فاعلًا سيميائيًا حرًا، بل صارت مفعولًا به داخل شبكات من الدوال المنتَجة داخل المنظومة السيميائية الجديدة حيت تفقد الكلمات مركزها، وتتهالك المفاهيم، وتذوب الهوية في طوفان من الصور والشعارات الزائلة أو الزائفة. في هذا السياق، يُصبح الإنسان مهدّدًا لا فقط بفقدان قدرته على التخيّل، بل كذلك بفقدان موقعه كذات دالة، أي ككائن يخلق العلامة ويتفاعل معها ويعيد إنتاجها بوصفها أفقًا للمعنى. ولعل أخطر مظاهر هذه الأزمة هو الانفصال التدريجي بين الرمز والتجربة: فالكلمات تُستخدم دون أن تُعاش، والصور تُستهلك دون أن تُفهم، واللغة تتحول إلى فضاء تشغيل بلا محتوى، أقرب إلى واجهة تكنولوجية منها إلى مرآة رمزية للوجود. لحكامة السيميائية: نحو فهم رمزي لتدبير السلطة في عالم يتزايد فيه الوعي بأهمية الرموز والمعاني في صياغة العلاقات الاجتماعية والسياسية، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الحكامة من زاوية جديدة: زاوية سيميائية. ف"الحكامة السيميائية" ليست مجرّد توليفة لغوية بين تدبير الشأن العام والسيميائيات، بل هي مدخل نقدي لفهم كيف تُمارَس السلطة، وتُبنى الشرعية، وتُنتج الطاعة، ليس فقط عبر القوانين والمؤسسات، بل أيضًا من خلال الخطابات، والرموز، والصور، والبروتوكولات التي تشكّل النسيج العميق للفضاء العام. تدعو هذه المقاربة إلى تفكيك الواجهة الرمزية للحكامة: من لباس الموظف، إلى ترتيب الفضاء الإداري، من شعار الدولة، إلى مفردات الخطاب السياسي. فالحكم، في جوهره، ليس فقط تقنية إدارية، بل فعل رمزي يُمارَس عبر علامات تُوجّه الإدراك وتُنتج المعنى. إن فهم الحكامة من منظور سيميائي يسمح بقراءة جديدة للسياسات العمومية، لا بوصفها إجراءات محايدة، بل كممارسات مشبعة بدلالات ثقافية وتاريخية تحدد فاعليتها أو فشلها. وهو ما يجعل من الحكامة السيميائية أداة لفهم التوترات بين الشكل والمضمون، بين ما يُقال وما يُمارس، بين الرمز والواقع. في هذا السياق، تصبح الحاجة ملحّة إلى حكامة واعية ببعدها الرمزي، حكامة تُدبّر المعنى كما تُدبّر الميزانية، وتُراعي التلقي الاجتماعي للرمز كما تُراعي الأثر الإداري للقرار. استعادة المبادرة الإنسانية الطبيعية إنّ التحدي الأكبر يكمن في إعادة الاعتبار لمشروع التطوّر الإنساني كفكرة ومسؤولية جماعية، بل كونية. لذلك، يجب غرس مهارات التفكير النقدي في منظومة تكوين الأجيال الجديدة، وتعزيز الثقافة الرقمية، وبناء منصّات للحوار والتعاون تتجاوز منطق السيادة والحدود، وبالأحرى المصالح الضيقة. كما ينبغي الاستثمار في الفن، والأدب، والإعلام المستقل، لإعادة بناء المخيّلة الجماعية وتجاوز الصور النمطية السلبية والسالبة. إنّ تجاوز حالة الانشطار الرمزي لا يتحقّق بالانسحاب من المشهد، ولا بمجرد التنديد بسطوة الصورة والخوارزميات، بل يتطلّب مقاربة نقدية مزدوجة : تقوم من جهة على تفكيك البنية الرمزية المهيمنة التي تصوغ تمثّلاتنا وهويّاتنا، ومن جهة أخرى على اقتراح نماذج بديلة ومقاوِمة لإنتاج المعنى من لدن الأطراف المعنية في حكامة شؤون الإنسان المعاصر. وفي هذا الإطار، يمكن التفكير في حلول سيميائية متدرّجة ومرتبطة بإعادة تفعيل الفاعلية الرمزية للإنسان: إعادة تأهيل المتلقّي: من خلال ترسيخ ثقافة نقدية قادرة على فكّ شفرات الرسائل الرمزية، خصةصا المعقدة و المبطنة منها. و بمعني أخر، التمييز العلاقة بين الدال والمدلول، وبين الرمز والسلعة، مع الوعي بخطورة تحوّل المتلقّي إلى وكيل غير واعٍ لإعادة إنتاج خطاب السلطة. فالفرد، في غياب الحصانة التأويلية، قد يتحوّل إلى أداة رمزية تسهم في إعادة تدوير السرديات المهيمنة بدلًا من نقدها. تفعيل التعليم السيميائي: عبر إدراج أدوات تحليل الخطاب، والصورة، والإعلام في المنظومات التربوية، وتوسيع مدارك الناشئة لفهم الآليات الرمزية التي تُنتج المعنى، وتوجيههم نحو قراءة نقدية للواقع اللغوي والبصري المحيط بهم. تشجيع الفن المعاصر النقدي: لأنّ الفن هو أكثر المجالات قدرة على ممارسة (Le filtre sémiotique) "الفلترة السيميائية" ، أي تصفية الرموز من شوائبها الاستهلاكية، واستعادة كثافتها الدلالية، خاصةً حين يُنتَج الفن من الهامش، خارج قوالب السوق، وبروح مقاومة تحرّر العلامة من الابتذال. تطوير خوارزميات بديلة: خوارزميات تستند إلى قيم إنسانية وشموليّة، لا تُصنّف ولا تُقصي، بل تعيد الاعتبار لتعدّد الخطابات واختلاف وجهات النظر، وتوظّف الذكاء الاصطناعي في خدمة التنوع الثقافي والرمزي، لا في ترسيخ أحادية المعنى، وبمعنى أصح: بلورة ميثاق الأخلاقيات الخاص بالذكاء الاصطناعي (Ethical AI). بناء مساحات رمزية جديدة: من خلال إنشاء منصّات رقمية وثقافية مستقلة عن منطق السوق والتسليع، تسمح بإنتاج سرديات مضادّة، وتمنح للفاعلين الرمزيين هامشًا لتخيّل العالم وتمثيله خارج دوائر الهيمنة الرمزية. اعتماد مبدأ "التَّرْديف السيميائي" (la Tradaptation): أي القدرة على نقل المفاهيم عبر السياقات الثقافية دون فقدان روحها الأصلية، وتجاوز ثنائية الترجمة الحرفية أو الاستنساخ الأيديولوجي. فالترديف السيميائي أداة لإعادة إنتاج المعنى بما يليق بالواقع المحلي والرمزي للذات. أعتماد الحكامة السيميائية: أي المقاربة النقدية لفهم آليات تدبير الشأن العام أو المؤسسات من خلال تحليل البُعد الرمزي والدلالي للسلطة والقرارات، أي كيف تُبنى الشرعية، وتُمارس السلطة، وتُنتج الطاعة، وتُصاغ السياسات، عبر اللغة، والصور، والشعارات، والبروتوكولات، والطقوس المؤسساتية. إنّ هذه الحلول ليست شاملة ولا نهائية، لكنها تُشكّل بوادر استعادة المبادرة الرمزية من داخل الحقل ذاته، لا عبر الإنكار أو الانسحاب، بل عبر الوعي النقدي، والتحويل الخلّاق، والمبادرة الفاعلة في أفق بناء رمزية مقاومة جديدة. وحدها هذه المقاربات قادرة على إعادة الإنسان إلى موقعه ككائن دالّ، يُنتج المعنى، ويُعيد تأويل رموزه، ويرفض أن يُختزل إلى مجرّد مستهلك في اقتصاد المعنى. الخاتمة: الإنسان في مفترق طرق الدلالات في نهاية هذا التحليل السميائي، يتّضح بما لا يدع مجالًا للشك أننا لا نقف أمام تحوّل رمزي عابر، بل نعيش لحظة انفجار سيميائي شامل، يعيد رسم خرائط الإدراك، ويقوّض البُنى الدلالية التي كونها الإنسان عبر التاريخ، و منحته تموضعه الرمزي واستقراره الهوياتي. من الواضح أننا دخلنا زمنًا تتدافع فيه العلامات، وتتسارع الدوال، وتتآكل فيه الصلات العضوية بين الكلمة والفعل، بين الرمز والتجربة، بين اللغة والحقيقة. و بيد أن يتطور الإنسان في الفكر، أضحى خاملا و خنوعا أمام التلاعب بالمفاهيم و المعاني. و كخلاصة للتحليل، يمكن تصنيف أزمة المعنى إلى ثلاث ظواهر مترابطة: أولًا، تآكل الدلالة نتيجة تشويه الرمز؛ ثانيًا، التضخم السيميائي الناتج عن كثافة الإنتاج الرمزي؛ وثالثًا، التشويش الإدراكي بسبب فوضى المحتوى الرقمي. إلا أنه وأمام هذا الانزياح الرمزي العنيف، تبرز الحاجة إلى مشروع ثقافي بديل لا يكتفي برصد التفتيت أو توصيف الأزمة، بل يسعى إلى ترميم العلاقة الأصلية بين اللغة كأداة للتفكير والفعل، والرموز كأفق للمعنى والمقاومة. إننا إذن بحاجة إلى إعادة بعث اللغة باعتبارها مجالًا حرًّا للصراع الرمزي، لا مجرد واجهة للاستهلاك الخاضع لمنطق الخوارزميات. في هذا السياق، تؤول مسؤولية كبرى إلى المثقفين والفاعلين الرمزيين، في تفكيك آليات الهيمنة التي تُمارس باسم التقدم أو التقنية أو الحياد العلمي. فليست مهمتهم نقدية فقط، بل تحرّرية كذلك، تسعى إلى فكّ القيود عن الفضاءات المعرفية والمؤسساتية، وإعادة إنتاج خطاب يقوم على التأويل الحر، والاختلاف المشروع، والترديف السيميائي الخلّاق، الذي يترجم دون أن يستنسخ، ويعيد وصل المعاني بجذورها دون أن يعزلها عن الحاضر. إنها، بدون شك، معركة رمزية بامتياز، لا تُقاس فيها الغلبة باحتلال الأرض أو السيطرة على الأسواق، بل بامتلاك خريطة إدراك مستقلة، وهوية غير مؤتمتة، وحس نقديّ قادر على مقاومة الاستلاب. المنتصر في هذه المعركة هو من يحمي المعنى من التبديد، ويعيد للكلمة كثافتها الوجودية، ويمنع الرموز من الانحدار إلى مجرد علامات تسويقية بلا انتماء ولا جذور. وكتشخيص لوضعية الفضاء السيميائي الراهن، يبدو أن الحاجة إلى مقاومة رمزية فعالة تتزايد في ظل ما نشهده من تآكل الحركات الاجتماعية نتيجة الانزلاق الرمزي، حيث تفقد القضايا تمثيلها الخطابي، وتُختزل المطالب في شعارات مفرغة، ويتحول الاحتجاج إلى ومضة رقمية قابلة للاحتواء والتسويق. إن إنقاذ هذه الحركات لا يكون إلا عبر تطهير الفضاء الرمزي، واستعادة المعنى كحق مشترك، يُتداول داخل فضاءات دلالية حرّة لم تبلغها بعد يد الخوارزميات، ولم تلوّثها آليات التمييع الدلالي. وبناءً على هذا، وفي زمن تزاحم العلامات وتشظي الذوات، تبقى الكلمة آخر حصن للمعنى، تبرز المقاومة الرمزية الطريق الأوحد لإعادة كتابة الذات والعالم، لا بوصفهما معطيين جامدين، بل كمشاريع دلالية حيّة، تصوغها الإرادة، ويمنحها الخيال والتأويل أفقًا إنسانيًا جديدًا. ولأن السلطة الحديثة لا تُواجه بالسلاح وحده، بل بفهمٍ نقديّ لكيفية إنتاج المعنى، ولمن يمتلكه ويوجّهه، ولصالح من يُعاد تدويره؛ فإن استعادة الذات تبدأ باستعادة السيطرة على اللغة، على الصور، على الرموز، وعلى آليات التأويل. وفي الختام، و بشكل لا لبس فيه، فالتحرّر المعاصر لا يبدأ من الثورة، بل من نقد العلامة فالفوضى الرمزية لا تُواجَه بالتقاعس أو بالارتهان العاطفي، بل بفعلٍ يبدأ بسؤال المعنى... وينتهي بإعادة صناعته و الصراعٌ الحقيقي في المستقبل الرمزية سيكون على خرائط الإدراك قبل أن يكون صراعًا على الأرض أو السوق. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة