المغرب يتولى رئاسة "لجنة الأفضليات"    التخطيط: المغرب يقضي على الفقر المدقع ويحقق إنجازاً في التنمية البشرية    شواهد طبية مزورة مقابل المال تؤدي إلى توقيف طبيب ومساعدته    إيرلندا: علماء الفلك يرصدون ظاهرة قوية وغامضة في الكون        وفد نيابي برئاسة الطالبي العلمي في زيارة عمل لجمهورية فنلندا    حموني يراسل وزارة التجهيز بخصوص الخسائر الفادحة في البساتين الفلاحية ببولمان    بعد جدل طلاقها .. سكينة بنجلون تطلق نداء عاجلا لحسن الفذ    النائبة البرلمانية النزهة أباكريم من الفريق الاشتراكي توّجه سؤالا كتابيا للوزير حول الموضوع .. تردي الوضع الصحي بتيزنيت يصل إلى قبة البرلمان والساكنة تنظم وقفة احتجاجية صاخبة    حملة اعتقالات تطبع احتجاجات فرنسا    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    مجموعة بريد المغرب ومؤسسة البريد السعودي توقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتطوير التبادل ودعم نمو التجارة الإلكترونية    تعيينات في المصالح الاجتماعية للأمن‬    رغم استهداف سفينة جديدة .. "أسطول الصمود" يقرر الانطلاق نحو غزة    فرنسا تتأهب لاحتجاجات ضد التقشف    188 مليون طفل ومراهق يعانون السمنة .. والأمم المتحدة تحذر        المنتخب المغربي لألعاب القوى يراهن على البقالي للتألق في مونديال طوكيو    إيكمان يشكر الجماهير المغربية والعيناوي سعيد بظهوره الثاني    "صفقات على المقاس".. الفرقة الوطنية تفتح تحقيقا في اختلالات بصفقات عمومية    صيف استثنائي بفضل الجالية.. 4,6 ملايين سائح بالمغرب خلال يوليوز وغشت        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    فيدرالية اليسار الديمقراطي تدين العدوان الإسرائيلي على قطر وتطالب بوقف التطبيع    احتجاجات متصاعدة في فرنسا تحت شعار "لنغلق كل شيء"    "فيفا" يخطر جامعة الكرة بموعد إرسال اللائحة النهائية للمنتخب المغربي المشاركة في كأس العرب    آفاق ‬التعاون ‬المغربي ‬الموريتاني ‬تتسع ‬أكثر    ملف ‬الصحراء ‬المغربية ‬في ‬الأمتار ‬الأخيرة ‬من ‬الإغلاق ‬بقرار ‬أممي    المنتخب الإماراتي لكرة القدم يتأهل إلى نهائيات كأس آسيا لأقل من 23 سنة    منتخب الرأس الأخضر يقترب من أول تأهل إلى كأس العالم في تاريخه بعد انتصاره على نظيره الكاميروني    تعيينات جديدة في مناصب المسؤولية بمصالح العمل الاجتماعي للأمن الوطني    عبد النباوي: لا إذن بالتعدد إلا بعد التحقق من الوضعية المادية لطالبي الزواج    8 ‬ملايين ‬و271 ‬ألف ‬تلميذ ‬يلتحقون ‬بالمؤسسات ‬التعليمية    النجم كيليان مبابي يتخطى هنري ويلامس عرش الهداف التاريخي لفرنسا    الحزم السعودي يعلن رسميا تعاقده مع عبد المنعم بوطويل    قطر تتحرك دبلوماسيا وقانونيا لمواجهة الهجوم الإسرائيلي على الدوحة    توتر دبلوماسي يدفع ترامب لعدم حضور قمة العشرين    الرباط تحتضن ندوة رفيعة المستوى حول مستقبل العلاقات الأورو-متوسطية    اليونسيف: السمنة تهدد 188 مليون طفل ومراهق حول العالم    استعراض مؤهلات جهة الشمال على وفد فرنسي من تولوز    مع حضور في الطقوس والأمثال .. الخبز في حياة المغاربة: من قوت يومي إلى مقام وجودي ورمز أسطوري وسلم اجتماعي    مطارات الإمارات تتجاوز حاجز المليار مسافر خلال 10 سنوات    23 قتيلا و 2835 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع الماضي    هشام العلوي يدعو المغرب إلى قطع علاقاته مع حكومة نتنياهو مع الحفاظ على الروابط مع المجتمع والشعب الإسرائيلي    دراسة: أسماك الناظور ملوثة وتهدد صحة الأطفال    دراسة: أسماك الناظور ملوثة بعناصر سامة تهدد صحة الأطفال    باقبو الفنان الذي ولج الموسيقى العالمية على صهوة السنتير.. وداعا        تلميذ يرد الجميل بعد 22 سنة: رحلة عمرة هدية لمعلمه    1500 ممثل ومخرج سينمائي يقاطعون مؤسسات إسرائيلية دعما لغزة    أجواء روحانية عبر إفريقيا..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحيي المولد النبوي        نسرين الراضي تخطف جائزة أفضل ممثلة إفريقية        أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    المجلس العلمي الأعلى يعلن إعداد فتوى شاملة حول الزكاة بتعليمات من الملك محمد السادس    مبادرة ملكية لتبسيط فقه الزكاة وإطلاق بوابة رقمية للإجابة على تساؤلات المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرب الناعمة والاحتلال المُقنَّع
نشر في الصحيفة يوم 17 - 11 - 2022

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة
1. الرئيسية
2. آراء
الحرب الناعمة والاحتلال المُقنَّع
حماس سعيد عبدلي
الجمعة 21 مارس 2025 - 16:26
المقدمة:
في ظل التحولات الثورية التي يشهدها العالم اليوم، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، طرأت ظواهر وأفكار جديدة تهدد النُسُق الثقافية والفكرية والسياسية للدول، بل والأمن على الصعيد العالمي، من خلال التطورات الرقمية التي أنتجت لنا حروب الجيل الخامس أو الحرب الناعمة المنذرة بتفكيك الروابط الاجتماعية وتهشيم البنية الثقافية وتمزيق اللحمة الوطنية.
فهذه الحرب تعتمد على استبدال الإعلام بالدبابات، والعملاء بالجيوش، والاحتلال الفكري بالاحتلال العسكري، حيث يتم السيطرة على الذهن والوعي الجمعي للشعوب والجماعات. إذ تكرس هذه الحرب هزيمة الأفراد دون الحاجة إلى القوة العسكرية، مما يمهد الطريق لإخضاع الشعوب والدول.
فمنذ القدم، مارست الدول تأثيرها ونفوذها على غيرها لتحقيق أهداف ثقافية وسياسية وعسكرية واقتصادية معينة، سواء من خلال القنصليات والسفارات، أو عبر الوسائل الثقافية والإعلامية المتنوعة. وهذا النوع من التأثير يتم على مختلف الأصعدة، سواء من قبل الأحزاب والمنظمات والكيانات السياسية، أو من قبل الشركات العابرة للقطرية.
والمثير للاهتمام أنه لم تعترف أي دولة حتى الآن بممارستها هذا النوع من الحروب وانتهاجها له بشكل رسمي. كل هذه التطورات والتحولات الجيوستراتيجية تجعلنا نتساءل عن ماهية أو مفهوم هذا النوع من الحروب المختلف عن الحروب التقليدية التي عهدناها.
المفهوم:
يُعتبر مفهوم "الحرب الناعمة" من المفاهيم الحديثة التي ظهرت في عالم الحروب، وقد قدمه الأمريكي جوزيف ناي في كتابه "وثبة نحو القيادة" عام 1990، ثم جاء ليُعيد استخدامه في كتابه "مفارقة القوة الأميركية" عام 2002، قبل أن يطوره في كتابه الشهير "القوة الناعمة" عام 2004. ووفقًا لناي، فإن الحرب الناعمة تعني "استخدام كافة الوسائل المتاحة للتأثير على الآخرين بدون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية".
هذا التعريف يعكس التحول في المفهوم التقليدي للحروب، من اعتمادها على القوة المدمرة، إلى أساليب أكثر هدوءً وذات تأثير غير مباشر. ومن هنا نلاحظ أن مصطلح الحرب الناعمة يتناقض ظاهريًا مع تعريف الحرب التقليدي، حيث إن الحرب الكلاسيكية غالبًا ما ترتبط باستخدام الأسلحة الفتاكة ذات القدرة التدميرية الهائلة. كما أن نتائجها تكون غالبًا مصحوبة بسفك الدماء ونهب الثروات وتدمير البنية التحتية للدول، أي تحقيق سيطرة مباشرة على الدول الخاضعة. في المقابل، تشير الحرب الناعمة إلى استراتيجية تسويقية تم صياغتها من قبل الأدبيات "الإمبريالية الحديثة" التي استبدلت وسائلا أكثر جذبًا وإثارة بالأدوات العسكرية الخشنة، مثل التكنولوجيا الحديثة، الإنترنت، الإعلام، المال، الفن، الرياضة، السينما، والثقافة.
هذه الوسائل الجديدة تهدف إلى التأثير على عقول الشعوب المقهورة التي تعيش تحت نير الجهل والاستبداد والفقر، خاصة وأن هذا النوع الجديد من الحروب يتقنع تحت شعارات قد تجذب بعض الشعوب، فهو يتنكر تحت شعار التنمية والعولمة والتبادل الاقتصادي والفن والسينما والتي يصعب مقاومتها عكس الحرب التقليدية التي يمكن مواجهتا أو رفضها بسهولة من قبل الشعوب نظرا لوضوح أهدافها وسهولة تبينها.
وفي هذا السياق، يشير الباحث حرز الله محمد لخضر إلى أن جوهر الحرب الناعمة يكمن في الاستغناء عن الدبابات بالإعلام، والجيوش بالعملاء، والاحتلال المادي بالاحتلال الفكري. وبالتالي، تكمن قوة الحرب الناعمة في تكريس هزيمة الأفراد والجماعات في أي مكان دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية. كذلك نجد أن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد قدّم تعريفًا آخر للقوة الناعمة، حيث وصفها بأنها "إجبار غير مباشر وسجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام داخل الدولة وخارجها".
من جهة أخرى، أكد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غيتس، في عام 2007 أمام أعضاء الكونغرس، ضرورة تعزيز القوة الناعمة الأميركية من خلال "زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية في الأمن القومي مثل الدبلوماسية، والاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية ".
ومع مرور الوقت، شهدنا تحولًا لافتًا في استراتيجيات الحروب التقليدية، حيث تم استبدالها بما يُسمى "الحروب الصامتة"، التي تتميز بمدى ونفوذ وتأثير عالٍ جدًا. هذه الحروب تتبع منهجية دقيقة للتخطيط والإعداد، وتهدف إلى تفريغ المجتمعات من داخلها وإضعافها وصولًا إلى تغيير الأنظمة المعادية للدول التي تعتمد هذه الأنماط من الحروب. ومن بين هذه الدول، تأتي الولايات المتحدة الأميركية في صدارة الدول التي تعتمد على هذا النمط من الحروب.
فالتحول الذي شهده مفهوم الحرب الناعمة بدأ بعد الحربين في أفغانستان والعراق، حيث تكبدت الولايات المتحدة تكاليف باهظة على المستويين البشري والاقتصادي. لذلك توصل جوزيف ناي مع غيره من أعضاء المؤسسة الحاكمة إلى ضرورة تفعيل القوة الناعمة، مما يمثل انتقالًا استراتيجيًا من القوة الصلبة في ميدان المعركة العسكرية إلى القوة الناعمة في مجالات التفوق التكنولوجي، والثقافي، والإعلامي، والسياسي. وقد أصبح هذا الهدف الأساس لهذه الحرب الجديدة، رغم إيمان ناي بتفوق بلاده في المعدات والقدرات العسكرية.
استراتيجياتالحربالناعمة:
يرى العديد من المحللين أن خطورة الحرب الناعمة تكمن في اعتمادها على العديد من الاستراتيجيات: أولاً، تتميز هذه الحرب بسرّيتها؛ فهي لا تُعلن بشكل رسمي ولا تُظهر أهدافها التي تكمن في السيطرة على العقول وتوجيهها دون أن يشعر الأفراد بذلك. هذه السرية تساهم بشكل كبير في نجاح الحرب الناعمة لأنها تتيح لها التغلغل دون مقاومة تذكر. ثانيًا، تتسم أسلحة الحرب الناعمة بأنها غير مرفوضة في المجتمع، حيث تستخدم وسائل متعددة كالأدوات التنموية والأخلاقية والثقافية.
من أبرز هذه الأسلحة الفضائيات، ومواقع الإنترنت، والهواتف المحمولة، بالإضافة إلى بعض المدارس والجامعات التي ترتبط بالغرب، وكذلك منظمات المجتمع المدني غير الحكومية التي تساهم في نشر هذه الأفكار.
وأخيرًا، تقوم الحرب الناعمة على ترويج شعارات جذابة وواقعية، حيث تدعو إلى مفاهيم يرغب الناس في تحقيقها. بحيث يتم خداع الأفراد وتحفيزهم على تبني هذه الشعارات، التي تبدأ في الانتشار بين الجماهير والنخب. ومن ثمة تنتقل هذه الأفكار من خلال وسائل الإعلام مثل الفضائيات والإنترنت، لتغزو فكر النخب والناشطين، وتكتسب قبولًا واسعًا ومطلبًا عامًا، مثل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أهدافها:
تسعى الحرب الناعمة إلى التأثير على العقول والأفكار والقيم والأخلاق والهويات والأديان وإعادة تشكيلها وفقا لأجندات الدول التي تقوم بشن هذا النوع من الحروب، وذلك من خلال التحريف والتزييف والتجريف، دون الحاجة إلى استخدام أي سلاح مادي عنيف. وتتجلى نتائجها في إحلال الفتن الطائفية بدل الهوية الوطنية الجامعة، وتشجيع تكوين جماعات من الخونة والمتعاونين الذين يخوضون حروبا بالوكالة، بالإضافة إلى تحطيم القيم الأخلاقية لدى مختلف فئات المجتمع من شباب ونساء ورجال. من جانب آخر، تستهدف حروب الجيل الخامس المنظومة الفكرية والثقافية للأفراد والمجتمعات.
ورغم أن أدوات هذه الحرب قد تبدو ناعمة، إلا أنها أشد ضراوة وفتكًا، حيث تسعى إلى اختراق الكيان المجتمعي من داخله لا من خارجه عكس الحروب التقليدية. تستخدم هذه الحروب تقنيات اتصال فائقة التأثير بهدف غسل الأدمغة وإعادة تشكيل أفكار الأفراد وسلوكهم، ما يساهم في تنميط هذه الأفكار والسلوكيات.
وتأكيدا على ذلك، فقد وصف أحد الصحفيين في مقدمة برنامجه "الحرب الناعمة وطرائق الغزو الجديدة" تأثيرات هذه الحرب، خاصة على دول العالم الثالث، قائلاً إنها تؤدي إلى تهشيم الهوية الوطنية، وتفكيك البنية الفكرية والثقافية لهذه المجتمعات، كما تزرع الشكوك في قدرتها على النهوض. ونتيجة لذلك، تصبح هذه المجتمعات في موقع المغلوب الذي يخدم الغالب في مختلف الاتجاهات. كل هذه الأهداف تدفعنا للتساؤل عن الأدوات أو المطايا التي يتم استخدامها من أجل تحقيق الأهداف سابقة الذكر؟
الأدوات:
تمثل وسائل الإعلام والاتصال، بالإضافة إلى الفن والسينما والرياضة، الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الحروب الناعمة لتحقيق أهدافها. وتتخذ هذه الحروب من الاختلافات الفكرية، الإثنيات، الطوائف، التنوع اللغوي والعرقي، والأيديولوجيات محاور للعمل على تأجيج النعرات وخلق الانقسامات بين المجتمعات. كما تهدف إلى نشر انحلال أخلاقي وزرع ثقافات مناوئة للقيم المحلية تمهيدًا لإخضاع الأجيال القادمة لرؤى القوى الإمبريالية، مما يؤدي في النهاية إلى تخريب أوطانهم وتنفيذ مخططات أعدائهم. لتنفيذ هذه الأهداف بنجاح، تتطلب الحرب الناعمة أدوات تقنية ومعرفية متقدمة، فضلاً عن جهود بشرية ضخمة في التخطيط والتحليل السياسي، إلى جانب أجهزة استخبارات متخصصة توفر المعلومات الأساسية. كما تتطلب تقنيات اتصال وإعلام قوية لتنفيذ استراتيجية دائمة التأثير.
ومن أبرز أدوات هذا النوع من الحروب، الحرب النفسية أو البروباغندا التي تهدف إلى التأثير على العقول والمشاعر عبر أساليب نفسية محكمة تهدف إلى استثارة ردود فعل محددة في الطرف الآخر. إذ تُستخدم هذه الأساليب لتعزيز مواقف أو رؤى بعينها على حساب رؤى أخرى. وعلى عكس الحرب النفسية التقليدية، التي كانت تعتمد على أدوات محدودة مثل الإذاعات والجرائد، فإن الحرب الناعمة اليوم تستخدم أساليب أكثر تطورًا، مثل نشر الأخبار الزائفة وإغراء الناس بالشعارات المغرية التي تتبنى أسلوب الحياة الغربية الذي قد يتعارض مع القيم الجمعية للمجتمعات التي تستهدفها.
كما لا يمكن إغفال الغزو الثقافي كأداة أخرى من أدوات الحرب الناعمة الذي يتم عبر زرع الشك في القيم والمفاهيم الاجتماعية والترويج لخطابات معينة مثل خطاب "التجديد الديني" و"مراجعة التراث" وغيرها والتي تكون مدعومة من مراكز بحثية غربية هدفها تنفيذ استراتيجيات الحرب الناعمة لحساب الدول الغربية التي تمولها. كل هذا يؤدي إلى تحول تدريجي في التقاليد والاعتقادات. وفي هذا السياق، تروج القوى المعادية لمجتمع عالمي مفتوح بلا ضوابط تحت شعار العولمة، حيث تسعى إلى تعميم النموذج الأمريكي القائم على الاستهلاك والهيمنة السياسية والثقافية.
أما الإنترنت، فقد أصبحت من أبرز الجبهات في هذه الحروب، حيث يعمد إلى غزو الفكر من خلال محركات البحث التي توجه نتائجها وفقًا لأجندات محددة، مما يعكس التأثير العميق لهذه الأدوات الرقمية على الثقافة والهويات المحلية. ومع الانغماس الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل نشر مفاهيم وأيديولوجيات تخدم مصالح القوى الكبرى.
فيما يتعلق بالوسائل الإعلامية والفضائية، فقد أصبحت أداة أساسية للتضليل، بل وتحولت غرف الأخبار في القنوات إلى غرف قيادة عسكرية، حيث تستخدم الأخبار الكاذبة والدعاية الموجهة لتشويه الحقائق وتوجيه الجمهور. كما تسهم البرامج التلفزيونية والمسلسلات في تعزيز حضور النموذج الغربي. فكيف كان تأثير الحرب الناعمة على العالم العربي الإسلامي؟
تأثيرات الحرب الناعمة على العالم العربي والإسلامي:
يمكن تلخيص الحرب الناعمة في الجملة الآتية "سَتَفْعَلُ ما أُريد بإرادَتِكَ"، فهي تدفع الشعوب أو الدول إلى القيام بأجندات دول أخرى وذلك بمحض ارادتها. ففي مقدمة برنامجه "الحرب الناعمة وطرائق الغزو الجديدة"، وصف أحد الصحفيين تأثيرات الحرب الناعمة على العالم الثالث بشكل دقيق، حيث أشار إلى أنها تؤدي إلى تهشيم الهوية الوطنية وتفكيك البنية الفكرية والثقافية، فضلاً عن التشكيك في قدرة المجتمعات على النهوض، مما يؤدي في النهاية إلى جعل هذه المجتمعات في خدمة الغالب، بحيث يصبح المغلوب دائماً خاضعاً للهيمنة في مختلف الاتجاهات. هذا الذي يفسر خضوع دول الجنوب أو العالم الثالث لدول الشمال باعتبارها محلا للهيمنة وهدفا لحروب الجيل الخامس.
ويعتبر العالم العربي الإسلامي جزءا من دول الجنوب، وعلى مدار العقود الأخيرة، كان هذا الجزء من العالم مفتوحا لعمليات تفكيكية دقيقة ومدروسة. وقد نتجت عن هذه العمليات تهديدات طالت النظام الفكري والقيمي للمجتمعات. لكن، وقبل الحديث عن أي تدخلات خارجية، لا بد من الإشارة إلى أن السبب الرئيسي لهذا الوضع المزري يعود إلى الهشاشة الفكرية التي تعاني منها مجتمعاتنا، إضافة إلى انخفاض مستويات التعليم والبحث العلمي وانتشار الأمية والمرض والجهل، الأمر الذي يجعل العالم العربي والإسلامي من أكثر الشعوب القابلة للاستعمار على حد قول المفكر الجزائري مالك بن نبي.
كما أن استحكام النظم الاستبدادية المنغلقة ساهم في جعل عناصر الهوية العربية والإسلامية عرضة للتحديات الناتجة عن العولمة و"التثاقف". هذا الوضع أسفر عن مظاهر الاغتراب الهوياتي، والاستلاب الثقافي، فضلاً عن الجمود الفكري، مما انعكس سلباً على بنية المجتمعات. وفي هذا السياق، تجلت هذه التهديدات في صورة العديد من الفتن المتجانسة التي طالت مختلف جوانب الحياة، متجاوزة في خطرها الأمن المجتمعي والفكري إلى تهديد الاستقرار السياسي.
ولا يمكننا المرور دونما ذكر المثال الإيراني، إذ قامت إيران منذ اندلاع الثورة الإسلامية فيها سنة 1979 إلى اعتماد سياسة "تصدير الثروة" من خلال ترويج خطاب ولاية الفقيه وإنشاء قنوات إعلامية تروج للمشروع الإيراني في المنطقة العربية، الأمر الذي يفسر النفوذ الإيراني الآن على العديد من العواصم العربية. من جهة أخرى، فإن التوترات الإثنية التي تفاقمت بسبب التطرف الديني والإرهاب، والصراع بين الثنائيات اللغوية والعرقية (وهنا نستحضر النموذج العراقي والسوري)، والتعصب المذهبي، والتجاذبات الأيديولوجية الحادة، أصبحت تشكل تهديدا مباشرا للاستقرار الداخلي.
قصارى القول، إن الحرب الناعمة تمثل أداة استراتيجية معقدة وفعّالة في الصراعات الدولية الحديثة، حيث تسعى الدول والمجموعات الكبرى إلى تحقيق أهدافها من خلال التأثير على الثقافة والسياسة والاقتصاد بدلاً من استخدام القوة العسكرية المباشرة. ومع تزايد أهمية هذه الأدوات في عصر العولمة، من الضروري أن تتبنى الدول استراتيجيات مرنة لمواكبة تحديات الحرب الناعمة واحتواء تأثيراتها. كما يجب أن تُفهم الحرب الناعمة ليس فقط كأداة تأثير سياسي، ولكن كعملية مستمرة تشكل جزءًا من الصراع الشامل في النظام الدولي. وتبقى الإشكالية الأهم هي كيفية تطوير آليات دفاعية ونوافذ مبتكرة للرد على هذه الأنماط الحديثة من الصراع بما يتلاءم مع تطورات عالم اليوم الذي يتسم بالانفتاح والترابط بين الدول والثقافات.
باحثة تونسية في العلوم القانونية والسياسية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.