من سنن حركة التاريخ (أن لا نهضة شاملة، بدون صفوة عالمة، وشبيبة عاملة) فأدوات الإنتاج الحضاري الكبرى خمس هي: الدولة والأمة و الوطن واللسان والرسالة. فرسالة النهضة صناعة بالغة التعقيد، فهي عمل جليل اختصت به الصفوة العالمة، فأمة العروبة اليوم، بعاطفتها الحارة، فجرت فينا طاقة العزة، وسلمت المشعل للصفوة لتنجز هي الأخرى مهمتها التاريخية في بناء النظرية العامة في الانتقال من(عصر الصحوة إلى عصر النهضة). مهم جداً تفسير العالم، والأهم تغيير العالم. فمهمة العالم الرسالي تفسير الواقع الحي وتغييره، فالربيع الديمقراطي يلزمه عالماً رسالياً بالضرورة. يلزمه ميلاد الفيلسوف الفقيه.الذي هو حالة فكرية ومعرفية يغلب عليها إبداع النظريات والأفكار الفلسفية البانية للنهضة، من خلال رواحل فرادى، وعمل علمي و فكري مؤسساتي. فما هي مداخل الميلاد؟ إنها خمسة.أولها إصلاح معرفي في مفهوم العلم الإسلامي ،ثانياً:إصلاح العلاقة بين مبدأ السببية ومبدأ التوَلُّد في تفسير الظواهر الإنسانية، ثالثاً: تغليب المنهج الاستكشافي عن المنهج الاستدلالي في التفكر والبحث. رابعاً: تحديد هدفنا التاريخي لما بعد الربيع الديمقراطي المبارك. أولاً: إصلاح مفهوم العلم الإسلامي: إن الجواب العامي السائد عن ما هو العلم الإسلامي أو من هو العالم الإسلامي هو الفقيه أو العالم الشرعي، في حين أن العلم الإسلامي أبواب ثلاثة لا انفصام بينها هي: باب العلوم الشرعية، وباب العلوم الإنسانية، وباب العلوم المادية. فكل العلوم التي تساعدنا على فقه الوحي هي علوم شرعية. كعلم التفسير وعلم الحديث وعلم الأصول وعلم الفقه وعلم المقاصد وعلم اللغة وغيرها، وكل العلوم التي تساعدنا على فهم نشاط الإنسان العمراني وسننه، من علم تاريخ وجغرافيا وسياسة واقتصاد واجتماع وعلم نفس وغيرها تدخل في باب العلم الإنساني. وكل العلوم المساعدة على فقه سنن المادة الكونية في الذرة والمجرة والخلية، كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والإلكترونيات والفلك والبيولوجية وغيرها تدخل في باب علم المادة. فاختزال العلم الإسلامي في العلم الشرعي هي علمنة ضمنية له. وهو خلل إبستيمولوجي بالغ الخطورة على الإنتاج العلمي والمعرفي الراشد عند صفوتنا العالمة اليوم. فكيف يتأتى لعالم متبحر في العلم الشرعي، لكنه جاهل بعلوم الإنسان الحديثة والخلاصات الفلسفية لعلم المادة أن يقود الأمة نحو الرقي؟ الجواب طبعاً مستحيل. فلابد للصفوة أن تمتلك الحد الأدنى من المعرفة بأصول وقواعد العلم الشرعي و أصول وقواعد العلم الإنساني والخلاصات الفلسفية الكبرى لتطور العلوم المادية. فهذا جوهر هذا الإصلاح المعرفي للتخلص من العلمنة الضمنية فيه. وهو المدخل للإبداع الفكري عند المثقف الرسالي. وهذا لا يتعارض إطلاقاً مع منطق التخصص، فالبحث عن الكليات الجامعة لكل التخصصات هو تخصص الفيلسوف الفقيه. ثانياً:إصلاح العلاقة بين مبدأ السببية ومبدأ التولٌّد: إن سؤال: هل الإنسان في نشاطه العام مخير أم مسير سؤال قديم، والجواب الطاغي مدرستان سواء عند المتدينين قديماً وحديثاً أو عند الوضعيين الماديين اليوم. فجواب المدرسة الجبرية عند المسلمين وعند المدرسة الوضعانية عند الغربيين اليوم يقر بكون الإنسان مجبرا على أفعاله ونشاطه الحضاري. الأولى تفسره بالقضاء والقدر الإلهي، والثانية تفسره بالأسباب المادية الصارمة المتحكمة في نشاط الإنسان، وخلاصة القول عندهما التفريط المطلق في الحرية الإنسانية، وقدرته على الفعل التاريخي الحر والمسؤول. بعكس المدرسة التاريخانية التي تعطي للحرية الإنسانية المساحة الأوسع في نشاط الإنسان. وبالتالي تفرِّط في مبدأ السببية التي تتحكم في الظواهر المادية والتاريخية للشعوب. فهي مدرسة تؤمن بمبدأ التولُّد لا مبدأ النتيجة الحتمية للأسباب، فالزيادة في السعار لا تنتهي حتماً إلى الثورة، بل قد يولد أفعالا متعددة. فالوضعانية تؤمن بقوة بفلسفة الحتم، والتاريخانية تؤمن بقوة بفلسفة الإمكان. أما المدرسة الوسطية في البحث فهي توليف أو تركيب للنظريتين: فلا تعارض بين الجبرية الحتمية. فشرط الحرية حضور الجبرية، وغياب القوانين الجبرية في حركة المادة والحضارة يعني غياب حرية وقدرة الإنسان على التسخير. والتسخير هو جوهر الفعل الإنساني الحر، فعالم الذرة ما كان له أن يتصرف بحرية في طاقة الذرة في العمران أو العدوان لولا معرفته بالسنن الجبرية التي تحكم نشاط الذرة. ولولا جبريتها لما امتلك حريته في تسخيرها، فصناعة تاريخ أمتنا بحرية مستقبلاً يتطلب من صفوتنا معرفة السنن التاريخية الجبرية التي تتحكم في تاريخ العالم اليوم. لكن السنن التاريخية في الأصل ضوابط صنعها الإنسان بمحض إرادته، لكن بعد الصياغة تصبح متحكمة في صانعها نفسه لمرحلة تاريخية كاملة. والخلاصة لابد من الجمع بين مبدأ السببية ومبدأ التولد وهي من خصائص منهج التفكير الوسطي. ثالثاً: تغليب المنهج الاستكشافي عن المنهج الاستدلالي في التفكر و البحث: يعرف العصر الحديث ثورة علمية وتكنولوجية متوالية الموجات بلا انقطاع، فما السر في ذلك؟ السر أن الحداثة الغربية تبنت المنهج الاستكشافي، بدل الاستدلالي، طريقة للتفكر والتفقه في الظواهر المادية والبشرية معاً، فأصحاب المنهج الاستدلالي غالباً ما ينطلقون في البحث والتفكير في ظاهرة ما من فرضية مغلقة الأبواب والنوافذ، فيتصيدون لها كل القرائن والبيانات والدلائل التي تؤكد الفرضية. فتتحول في نهاية البحث إلى نظرية. لا جديد يكتشف في نتائج المنهج الاستدلالي في نهاية المطاف. وأصحابه يسمون في الغرب بالبحاثة. فهم يعيدون تحقيق وترتيب التراث المكتشف من طرف الأجيال السابقة. فهو بحث وتفكر في الحقائق المعرفية المعلومة. أما أصحاب المنهج الاستكشافي فينطلقون من فرضيات في البحث والتفكر مشرعة الأبواب والنوافذ، غايتهم اكتشاف الحقائق المعرفية المجهولة، حقائق جديدة و نظريات جديدة في العلم بكل أبوابه المادية والإنسانية والشرعية. ففرضيات المنهج الاستكشافي قابلة للتحقق أو التعديل أو النقض في خاتمة البحث. ففي المنهج الاستدلالي يغلب النمط التعليلي على البحث والتفكر. و النمط التعليلي هو نظرية صحيحة لبحث علمي سابق يتم إسقاطها على ظواهر مشابهة لا غير وليست مطابقة. في حين هم البحث الاستكشافي اكتشاف نظرية جديدة للظاهرة الجديدة، وهو منهج مصدق للمنهج الاستدلالي ومهيمن عليه. فنحن نحتاج باستمرار للمنهج الاستدلالي في تحقيق وترتيب تراثنا وتراث الغرب الزاخران بالمعارف والعلوم المكتشفة سابقاً، ونحن لا يمكن لنا الانطلاق من الصفر في بناء الجيل الثاني من العلم الإسلامي اليوم. مع العلم أن التحقيق والترتيب للتراث يجب أن ينصب على التراث النوعي والمنهجي في تراثنا وتراث الغرب الحديث. لكن تحت إمرة المنهج الاستكشافي الذي يجب تسليطه بقوة اليوم على العلم الشرعي والإنساني والمادي. فالمنهج الاستكشافي ضرورة تاريخية وحضارية لنا في بناء حالة الفيلسوف الفقيه المالك لقواعد العلم الإسلامي في أبوابه الثلاثة والمالك للمخيال الحضاري، والمبدع لفكرٍ ونظرياتٍ في حل مغاليق معضلات الحضارة اليوم الضامن لتوالي الثورات الفكرية والعلمية بين ظهرانينا لما بعد الربيع، ولهدف تاريخي عظيم هو تحقيق الشهود الحضاري الثاني لأمة الإسلام.