أعلن قصر الإليزيه عن التقطيع الترابي الجديد في فرنسا، مقلصا الجهات من 26 جهة إلى 14 فقط. تقطيع لم يحمل معه فقط تقليص عدد الجهات، وإنما عرض حذف المجالس العامة في أفق 2020، وحذف مجالس المقاطعات وإن لم يحدد تاريخ ذلك، بل الأكثر من ذلك، هو أن رئيس الوزراء مانويل فالس أعلن في لقاء مع البرلمانيين الفرنسيين أن حكومته منفتحة لمزيد من تقليص عدد الجهات بهدف إعادة التوازن في الثقل الديمغرافي والاقتصادي لجهات فرنسا. المثير في هذا الإصلاح أنه لم يأت من فراغ، وإنما حاول أن يستثمر التقارير المنجزة التي قيمت إرث التقطيع الانتخابي الذي اعتمدته فرنسا منذ سنة 1960، إذ تم الإفادة من تقرير موروي 2000، وتقرير بلادير 2009، وتقرير رافاران كراتنغر 2013 . وبغض النظر عن سياق إعداد هذا الإصلاح ومرتكزاته وخلفياته، فثمة منهجية ما في الإصلاح، تنطلق من مرجعية تقارير منجزة داخل المؤسسة المنتخبة، وهناك معايير غير مختلف بشأنها يتم الاحتكام إليها في عملية التقطيع، وهناك إجماع فرنسي من مختلف الطيف السياسي بضرورة إجراء هذا الإصلاح. نعم، هناك في المقابل انتقادات كثيرة لهذا التقطيع، مست في جانب منه منهجية الإعداد، وهاجس ترشيد النفقات العمومية الذي يحكمه، وحدود قدرته على تحقيق التوازن والانسجام في أبعاده المجالية والاقتصادية والديمغرافية، بل هناك أيضا بعض الانتقادات حول خلفيات التقطيع الانتخابية، كما أن هناك أسئلة ومفتوحة عن البياضات التي تركها هذا الإصلاح لاسيما ما يتعلق بتوقيت حذف مجالس المقاطعات وعدد الناخبين في كل جهة وغيرها. ما يهمنا في هذا الإصلاح ليس تفاصيله، ففرنسا بمختلف طيفها السياسي تبحث عن إعادة توازن مجالها الترابي والديمغرافي والاقتصادي، كما تبحث عن الطريقة الأفضل للالتحاق بالمعايير الأوربية في التقطيع الترابي، إنما الذي يهمنا هو وجه المفارقة بين الإصلاح هناك والإصلاح هنا. نعم لا ينبغي أن ننكر أن الفصل 71 من دستور المملكة أناط بالبرلمان مهمة التشريع في نظام الجماعات الترابية ومبادئ تحديد دوائرها الانتخابية، وكذا النظام الانتخابي للجماعات الترابية ومبادئ تقطيع الدوائر الانتخابية، وبالفعل تم مناقشة وإقرار قانون 12.131 المتعلق بمبادئ تحديد الدوائر الترابية للجماعات الترابية، لكن المشكلة ليست في المعايير، وإنما في المسافة البعيدة التي يمكن أن تكون بين هذه المعايير المصادق عليها وبين واقع التقطيع كما تقدمه وزارة الداخلية. أي، أنه ما دام التقطيع يصدر بمقتضى قرار وزاري من الداخلية، وليس بمقتضى مرسوم يناقش داخل المجلس الحكومي، أو بمقتضى قانون يناقش داخل المؤسسة التشريعية، فإن شروط تحقيق التقطيع الانتخابي العادل والمنصف تبقى بعيدة. في فرنسا دائما، يصدر التقطيع الانتخابي بمقتضى قانون، وتحدث لجنة مستقلة تبدي رأيها في مشاريع ومقترحات القوانين الرامية تحديد الدوائر التشريعية أو تغيير توزيع مقاعد النواب أو الشيوخ، ويرتكز التقطيع الانتخابي المنبثق عن قانون 24 نونبر 1986 على ضرورة أن تتوفر كل محافظة على نائبين مع إمكانية إضافة نائب ثالث عن 108 نسمة زائدة من السكان. لا ندري بالضبط ما الذي يجعل المغرب الذي قطع أشواطا في الإصلاحات، يتعثر دائما في الإصلاحات السياسية المرتبطة بالعملية الانتخابية، إذ لا يزال ملف التقطيع الانتخابي بعيدا عن النقاش العمومي، إذ يصدر بمقتضى قرار وزارة الداخلية، وحتى ولو أثار جدلا حول درجة انسجامه مع المعايير المعتمدة في القانون، أو أثار نقاشا حول درجة العدل والإنصاف فيه، أو خلفياته الانتخابية والسياسية، فإن ذلك لا يكون له أي أثر في تعديل هذا التقطيع أو تجويده أو سحبه. نتمنى أن يكون الدرس الفرنسي كفيلا بإعادة التفكير في هذا الموضوع، بما يرفع الشكوك والهواجس بخصوص عودة التحكم في العملية الانتخابية، لأن القاعدة تقول بأن النتائج تظهر في المقدمات، وما دام التغيير لم يحصل على مستوى أهم آلية من آليات صنع الخارطة الانتخابية، فإن الشكوك ستتعاظم، والثقة في حصول التغيير ستقل إلى أدنى مستوياتها مما سيضر بصورة تقدم المسار الإصلاحي في المغرب. التقطيع العادل لا يكفي فيه أن يحاول تنزيل المعايير المعتمدة في القانون، وإنما يتطلب أولا مرجعية تعتمد تقارير تقييمية صادرة عن المؤسسة المنتخبة، كما يتطلب أن يكون مفتوحا للنقاش العمومي، تملك فيه المؤسسة التشريعية حق التعديل والمراجعة والسحب أيضا.