كتاب '' الأسس الفكرية لثقافة حقوق الإنسان'' الذي صدر مؤخرا يستحق القراءة، لأن مؤلفه الدكتور محمد سبيلا قام بعملية حفر في الخلفيات والأصول الفكرية لحقوق الإنسان، وقدم تصورا موسعا لمدلول حقوق الإنسان، وضمن كتابه آراء نقدية وقفت عند مظاهر القصور النظري والعملي في منظومة حقوق الإنسان من خلال طرحه لثمان إشكالات حاول أن يناقشها بنفس نقدي صارم. من حيث الإجمال، يمكن أن نتفق مع الدكتور محمد سبيلا في العديد من الأفكار التي طرحها لاسيما ما يتعلق بجذور منظومة حقوق الإنسان وأصولها الفلسفية، فقد بذل جهدا مقدرا في وصل هذه الحقوق بمصادرها الفكرية والفلسفية، ويمكن أيضا أن نتقاسمه العديد من النظرات النقدية لاسيما ما يتعلق بمأزق منظومة حقوق الإنسان وعدم قدرتها أن تحقق دولة الحق والقانون، إذ تبرز النماذج الواقعية للدولة في كل بلدان العالم بما في ذلك الدول المتقدمة حجم الهيمنة والسيطرة في مقابل صورية الحقوق الاجتماعية، ثم ما يتعلق بنظراته العميقة لحق الاختلاف بين ضمان الحقوق الثقافية وبين تحول هذا الحق إلى أداة للتخريب والتدمير . فهذه النظرات النقدية وغيرها تكشف من جهة مأزق التباعد بين المنظومة نظريا وبين واقعها في الممارسة، كما تكشف من جهة أخرى وجود اختلال عميق يصعب أن ننزه عنده المنظومة نظريا وننسبه فقط إلى الممارسة.لن نقف طويلا عند هذه النقطة، وما يتعلق بالإطار الفسلفي لمنظومة حقوق الإنسان وجوانب الاختلال فيه، فهذا محله نقاش آخر، لكن سنقف فقط عند أحد إفرازاته، وسنناقش من خلال ذلك وجهة نظر محمد سبيلا بخصوص الخصوصية والكونية. ملخص رأي الدكتور سبيلا أن حقوق الإنسان منظومة كونية، وأنها تستمد هذه الصفة من شمولية مضمونها بحكم أنها تنادي بمجموعة من القيم المثالية الشاملة، كما تستمدها من مقصد الخطاب الحقوقي الإنساني باعتبار أن هذه الحقوق موجهة إلى الناس جميعا، وتستمدها ثالثا من الصبغة العالمية التي اتخذها خطاب حقوق الإنسان إذ تداعت كل دول العالم إلى المصادقة عليه. يثير الدكتور سبيلا جملة من الانتقادات التي توجهت لخطاب الكونية وخلفياته الإيديولوجية والسياسية، ويعرض في المقابل إلى الخلفيات السياسية التي يختفي وراءها المدافعون عن الخصوصية ويخلص إلى أن '' الأمر ليس مجرد مجادلة في الطابع الكوني لهذه الحقوق بقدر ما هو كشف عن الاستعمال الإيديولوجي والسياسي لمنظومة حقوق الإنسان، مما يجعل الكونية أمرا لا جدال فيه ولا غبار عليه حتى وإن كان استعمالها محط نزاع وموطن خلاف'' الذي يثير النقاش هو لغة الحسم التي تحدث بها الدكتور محمد سبيلا، والتي تستدعي وضع ''إيرادات'' خ بالمفهوم الأصولي- على مقدماته: - ولنبدأ بمقدمة كونية القيم: فالتسليم بشمولية القيم لا يعني التسليم بكونية التفسير الذي يقدم لها، إذ لا خلاف في هذه القيم من حيث هي قيم، وإنما الخلاف الذي عليه غبار كثير هو في المفاهيم التي تضفى على هذه القيم مما للمرجعية الفكرية دور حاسم فيه. ويكفي في هذا السياق أن نستدل بحق الحياة، الذي يبدو متفقا عليه من حيث الإجمال، لكن عند التفاصيل تتباعد المفاهيم وتتدخل المرجعية لتكييف الحق بحسب نسقها الداخلي، والأمر هنا لا يتعلق بخلاف بين المرجعيات فقط، أي بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الغربية كما هو التمثيل عادة، بل الخلاف داخل المرجعية الغربية ذاتها، أي بين التفسيرات التي تحتضنها هذه المرجعية ذاتها، مما يقتضي التمييز بين القيم وبين المفاهيم التي تضفى عليها. وما يوضح هذه الفكرة ويسندها أن جميع البلدان التي يكون لها رأي في مادة من المواد في المواثيق الدولية، سواء عن طريق إعمال مبدأ البيان أو التفسير أو التصريح أو التحفظ، تنطلق في ذلك من مرجعيتها التي تحدد لها مفهوم القيمة أو الحق على النحو الذي يجعلها ملزمة به، أي أنها تصادق على الفهم والتفسير الذي تلزم به نفسها عند قراءته لهذه المادة أو تلك. وهو ملحظ عميق يجدر أخذه بعين الاعتبار. - أما مقدمة مقصد الخطاب، فلا يمكن بحال أن يرتفع إلى درجة المقوم المسند للصفة الكونية، إذ كل الخطابات بما في ذلك الإيديولوجية منها تستهدف جميع البشر، بل وتزاوج بين شمولية الخطاب وحتمية المصير إليه، لا يستثنى في ذلك الخطاب الماركسي ولا حتى الخطاب الإسلامي، ومن ثمة لا يمكن أن تقوم بهذا ''المقوم'' الحجة على الكونية. - أما تداعي الأمم إلى المصادقة على هذه الحقوق، فالإيراد عليه من وجهين: 7 أن الشرعية الدولية قائمة اليوم بمنطق القهر والتغلب، ولا يملك أحد أن يخرج عن أسرها، ورغم ازدواجيتها ومعاييرها المتناقضة والمضطربة في التعامل مع الدول لاسيما منها الدول العربية والإسلامية، فلا يجرؤ أحد على الخروج من أسرها لاعتبار الجزاءات والعقوبات والحصار الذي ترتبه على هذه الدول. ومن ثمة، فالأمر لا يتعلق بالتداعي، لأن ذلك يشترط الاختيار، في حين أن الأمر يتعلق بالاضطرار والقبول بشروط التغلب ومقتضياته، والذي لا يبرز فقط من خلال ضغط الدول المهيمنة، بل أيضا من خلال الضغط الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني دولية كانت أم محلية، والذي يجتمع ليمثل حالة من سلب الاختيار بالنسبة إلى الدول التي تتوجه مضطرة إلى المصادقة على هذه الاتفاقية أو تلك. ولعل في مثال الإكراه والضغط الذي يمارس على المغرب من أجل المصادقة على إلغاء عقوبة الإعدام دليل على ذلك، بل إن امتناع المغرب عن تنفيذ عقوبة الإعدام رغم الحكم به، ليقوم دليلا إضافيا على أن الأمر يتعلق بسياسة توقي الضغط والإكراه الممارس على الدول. 7 - إن تداعي هذه الأمم لا يعني بالضرورة التسليم بكونية هذه الحقوق، إذ يبقى حق الدول في البيان والتفسير والتصريح والتحفظ دليلا على عدم شمول هذه الحقوق لمعاني ومفاهيم كونية، إذ لو كانت كذلك لما كان للتحفظ ولا للتفسير محل. أما النقطة الثانية المتعلقة بالحسم في كونية حقوق الإنسان وكون الخلاف حولها لا يعدو أن يكون حول الاستعمال الإيديولوجي لها، فهو مما يحتاج لنقاش مستفيض، ليس هذا مجال التفصيل فيه، فنكتفي فيه بإيرادين: - إن الانتقادات التي توجه إلى منظومة حقوق الإنسان لا تتعلق فقط بالاستعمال الإيديولوجي لها من قبل دول الهيمنة، أو برفضها الإيديولوجي من قبل دول الاستبداد، وإنما هناك وجوها أخرى للتناقض مرجعها لا إلى هذا ولا إلى ذاك مما له علاقة بالمرجعية والسيادة الوطنية واللحام المجتمعي، وقد بسط الدكتور سبيلا بعض الأمثلة والنماذج دون أن يلتزم بالتوفيق بينها كما اشترط في كتابه، وهي أمثلة نزرة لا تكشف عمق التناقض بين المرجعيات في تمثل حقوق الإنسان. فهناك أمثلة أخرى تتعلق بالحقوق الاقتصادية من قبيل الربا الذي يعتبر من داخل المرجعية الإسلامية جريمة اقتصادية تضر بحقوق الأفراد والمجتمعات، في حين تنسلك ضمن النظام الاقتصادي الغربي دون أن يثار حولها أي جعجعة حقوقية، وهناك الكرامة والعفة التي يثار حولها نقاش مرجعي وقيمي يصعب أن نجد له توفيقا بحكم الاختلاف المفصلي في المرجعيات، فالإسلام يحرم الزنا والاغتصاب، والمنظومة المرجعية الغربية لا تعتد بالزنا، وتعتد فقط بالحرية وحماية القاصرين، فتشدد من العقوبة على الاغتصاب وعلى ممارسة الجنس على الأطفال، وتجيز العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج شرط السن القانوني، وهو تناقض كبير بين المرجعيتين لا سبيل إلى دفعه إلا بممارسة الضغط على العالم الإسلامي من أجل ''استصدار'' أفهام ''شرعية'' تستجيز الزنا أو ممارسة القهر العولمي الرمزي لتغيير العقليات والتمثلات، أو بالإبقاء على حالة التغاير بين المرجعيتين، أو بالتدافع لإقناع الآخر بكونية خطاب القرآن وأنه الأنسب للفطرة من المرجعية الغربية. والأمثلة تثرى في هذا المجال، فنكتفي بما وضح به المقصود. - إن النقاش الذي يثور في الغرب ذاته عن الإجهاض والشذوذ الجنسي وغيره من الموضوعات يؤشر على أن منظومة حقوق الإنسان لم تحسم الخلاف المرجعي، بل زادت في تأجيجه لاسيما بعد بروز لوبيات تضغط لتقوية هذا الفهم على ذاك كما يحدث في لجنة المرأة في الأممالمتحدة. خلاصة هذه المناقشة السريعة، أن كونية حقوق الإنسان ليس محسوما فيها، والخلاف حولها قائم، في تفسيرها وتأويلها، بل والاعتراض عليها ليس فقط من قبل الدول بخلفية التملص من الالتزام بهذه الحقوق، ولكن أيضا من المجتمعات وقواها الحية التي ليس لها تعهدات مع الدول، ولكن لها مرجعيتها التي منها تنطلق للحكم على هذه المنظومة أو تلك.