منذ انطلاق الحكومة الجديدة وهي تواجه العديد من العقبات, الاجتماعية والسياسية, وعلى رأسها الاحتجاجات والإضرابات في قطاعات متعددة, كالعدالة والجماعات المحلية وغيرها. ولهذه الإضرابات العديد من الخسائر المباشرة والغير المباشرة, المادية وغير المادية. على أنه غالبا ما ننتبه للخسائر الأولى, ونغفل عن الثانية, مع العلم أن هذه الخسائر في بعض الأحيان يكون وقعها أكثر جسامة. وفي إطار الحديث عن آثار هذه الإضرابات, يجب الأحد بهذه النظرة الشمولية, لكونها الكفيلة بالتقييم الحقيقي لآثاره. وهنا يجب تحليل هذه الآثار في إطار السلسلة الاقتصادية الشاملة التي ينخرط فيها الطرف المضرب. حيث إذا أضرب طرف في السلسلة, تضررت باقي أطرافها, نظرا لتكامل أنشطتها, واعتماد بعضها على بعض. وهنا تكون الخسائر قسمين, الأولى هي الخسارة الناتجة عن تفويت فرصة في الربح كان من الإمكان استخلاصه, كعدم تمكن منتج معين من إيصال منتوجه إلى السوق جراء إضراب أرباب النقل, والثانية هي الخسارة التي يجب تحملها جراء الإضراب, وفي نفس المثال الذي قدمناه, فإنها تكمن مثلا في الإتلاف الذي قد يلحق بالمنتوج, أو التكاليف التي يجب تحملها من أجل الحفاظ عليه. وفي إطار إعطاء بعض الأمثلة عن الآثار الاقتصادية للإضراب, رغم صعوبة تقييمها بدقة, نذكر هنا الإضرابات التي عاشتها شركة الخطوط الملكية المغربية حيث كانت خسارتها تقدر يوميا بخمسمائة مليون سنتيمم (500.000.000 سنتيم) كنفقات زائدة تحملتها الشركة لأجل احترام التزاماتها مع زبنائها بكراء طائرات بديلة عن طائراتها المضربة عن الطيران. أما فيما يخص القطاع العام, فإن الاضرابات التي تتوالى في مختلق قطاعات الدولة, كالعدالة, والصحة, والنقل تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها, للدولة والمجتمع, بشكل مباشر أو غير مباشر. وكمثال في هذا الإطار, الإضراب في مصالح الجماعات المحلية, الذي تتوقف إثره كل معاملات البيع والشراء التي تستلزم التوثيق على مستوى الوطن, مما يسبب خسارة كبيرة في إنتاجية البلاد. ومن وجهة نظر مقارنة, وعلى سبيل فتح النافذة على النماذج والثقافات الدولية التي من شأنها أن تعطينا إشارات في اتجاه تقييم سلوكياتنا الثقافية والمهنية, من المفيد أن نستلهم التجربة اليابانية من خلال ما سمي بالجودة الكاملة,(Qualité Totale), أو بالتويوتيسم (Toyotisme), والتي ما هي إلا ترجمة للقيم الثقافية والاجتماعية لليابان. وتتعدد خصائص هذا النموذج الإنتاجي الفريد, الذي تمكنت من خلاله الشركات اليابانية, خاصة شركة طويوتا Toyota من التفوق على الشركات الغربية في العديد من معايير الجودة والإنتاجية, حيث تمكنت من تحقيق تكلفة إنتاج منخفضة, نجحت من خلالها في غزو الأسواق الغربية على أساس سياسة الجودة الزائدة, حيث أنتجت سيارات بقيمة زائدة من حيث خصائصها التقنية ولكن بأثمنة منخفضة. وقد أكدت الدراسات المقارنة في هذا المجال أن تفوق الشركات اليابانية يرجع بالأساس إلى الخصائص الثقافية والاجتماعية لليابان, والتي تتبلور بشكل واضح في القيم الموجهة للعمل والإنتاج وفي العلاقات المهنية داخل الشركات ومؤسسات الدولة والمجتمع. وفي هذا الإطار, نستلهم قيمتين أساسيتين, وهما إعطاء الأولوية للمصلحة العامة من خلال الضمير الجماعي الغالب على الأفراد من جهة, ومنهجية التوافق في حل المشاكل والعقبات وتفادي الصراع من جهة أخرى. وتترجم هذه القيمتين من خلال غياب ثقافة الإضراب داخل المجتمع الياباني, وتغليب منهجية الحوار والتوافق في حل المشاكل المهنية, مما يمكن من الحفاظ على التماسك الاجتماعي والمصلحة العامة لجميع الأطراف. هذه الخصائص هي نفسها التي نجدها في النموذج الألماني في إدارة الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية بين الحكومة والنقابات, حيث تكاد تنعدم ظاهرة الإضرابات, في مجتمع تترسخ فيه منهجية الحوار والتوافق كقيم أساسية. ولقد أتبث هذا النموذج تفوقه في إدارة الأزمات والقيام بالإصلاحات اللازمة, في الوقت الللازم, بدون صراعات أو إضرابات منهكة, وهو ما مكن ألمانيا من الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية الحالية التي عصفت بجل الدول الغربية. ما أحوجنا أن نستلهم مثل هذه النماذج, من أجل تضافر الجهود لإنجاح التجربة الديمقراطية الهشة التي يعيشها بلدنا منذ خطاب 9 مارس, والتي للجميع مصلحة عليا في إنجاحها وترسيخها. وعوضا عن ذلك, نلاحظ تكالب المصالح الخاصة وهيجان اللوبيات المستفيدة وانتهازية الخصوم السياسيين من أجل إجهاض هذه التجربة ووأدها, باستغلال وسائل عدة, كالإضراب, وإشعال الفتن والمواجهات مع الدولة, واحتلال المؤسسات والمرافق العمومية وغيرها. فالمطلوب حقيقة هو حماية هذه التجربة من الانتكاسة والدفاع عنها والعمل من أجل إنجاحها, مع الاجتهاد من كل طرف على الرفع من مستوى التدافع الاجتماعي وجعل المصلحة العليا هدفا للتغيير في هذا البلد وقاعدة للعمل السياسي. إن هذه المقاربة هي الوحيدة التي من شأنها أن تضمن للجميع في هذا الوطن تحقيق المكتسبات الجماعية الذي احترقت الأغلبية الساحقة من غيابها في بلدنا, وهي الديمقراطية والتنمية, حيث يجب توجيه كافة قدراتنا نحو البناء والتشييد, مع القدرة على حل اختلافاتنا من خلال الحوار والمنهج التشاركي الذي عملت هذه الحكومة لأول مرة في تاريخ المغرب على إعماله في إدارة الشأن العام. وإن في تبني هذا المنهج من جميع الأطراف والقوى العاملة لمن شأنه أن يمكن من صناعة المعجزات هذا الوطن, في وقت وبتكاليف أقل, بما سيمكن من تحقيق آمال أبناءه في الشموخ بين الأمم.