الخط : إستمع للمقال لم تكن العبارة التي نُسبت إلى نائبة أخنوش بجماعة أكادير، والتي تُفهم منها دعوة غير مباشرة لتجميع المال لأجل من يريد "يخوّي البلاد"، مجرد زلة لسان عابرة أو انفعالاً فردياً يمكن تجاوزه بصيغة التبرير السياسي المعتاد. بل إنها، في عمقها، تكشف البنية الذهنية والسياسية لمنظومة كاملة أصبحت ترى في تدبير الشأن العام امتيازاً شخصياً، وفي الوطن مجرد محطة يمكن مغادرتها إذا انتفت المصالح أو تعكرت الشروط. لذلك فإن "يخوّي البلاد" ليست فقط عبارة مثقلة بالدلالة، بل هي مفتاح لفهم اختلالات أعمق على مستوى تصور المسؤولية والانتماء الوطني في ظل مناخ سياسي يزداد فيه التفاوت، وتتسع فيه المسافة بين الخطاب والواقع. حين تصدر مثل هذه العبارات من أشخاص يتحدثون باسم الجماعة، وتُقرن بموقع سياسي حساس يجمع بين رئاسة المجلس الجماعي لأكادير ورئاسة الحكومة، فإنها تأخذ بعداً أخطر مما يبدو في ظاهره. فالأمر لا يتعلق فقط بتصريح عابر، بل بمؤشر على نوع من الثقافة السياسية التي ترسخ منطق الزبونية والامتياز وتُضمر احتقاراً مستتراً للمواطنين. إن منطق "لي بغا يخوي نعاونوه" يُفهم منه أن الوطن لم يعد حاضناً مشتركاً، بل أصبح قابلاً للتفويت، يُتفاوض عليه على قاعدة المصالح لا المبادئ، ويُختزل في معادلة الربح والخسارة. هذا الانزياح في التمثلات، الذي يسمح لنائبة منتخبة أن تنطق بمثل هذا الكلام، يعكس فقداناً خطيراً للبوصلة الأخلاقية والسياسية. إذ كيف لمن أوكلت له مهمة تدبير الشأن المحلي، وتحمل المسؤولية التمثيلية، أن يطرح للمختلفين معه فكرة مغادرة المركب عوض البحث عن سبل إنقاذه؟ وكيف يتحول الوطن في خطاب ممثل سياسي إلى مجرد وجهة استثمارية قابلة للهجر حين تقل مردوديتها؟ ثم إن هذا التحول من الانتماء إلى "المشروع الوطني" إلى الانخراط في "مقاولة السلطة" يطرح أسئلة مقلقة عن جوهر العلاقة التي أصبحت تربط بعض النخب الحاكمة بهذا الوطن. لا يمكن فصل هذا الخطاب عن السياسات العمومية التي جعلت من الاستثمار في السياسة امتداداً للاستثمار في الاقتصاد، وخلطت بين المال والسلطة في ما يشبه الزواج الكاثوليكي. فحين يُترك المجال مفتوحاً أمام التموقع المزدوج — حيث يُدبر رئيس الحكومة في ذات الوقت مصالحه الاقتصادية ويرأس مجلساً جماعياً استراتيجياً — فإننا نكون إزاء تداخل خطير بين السلطة والمال يُنتج أعطاباً في الخطاب والممارسة، ويُفرغ المؤسسات من معناها. وهو ما يجعل عبارة مثل "نعاونوه يخوي البلاد" منسجمة تماماً مع هذا المنطق، بل تكشف منتهاه المأساوي: تلاشي الوطنية في مقابل تصاعد منطق الربح الفردي. هذا التصريح، مهما كانت دوافعه، يضرب في العمق كل قيم التضامن والمشترك الوطني. فالهجرة في سياق الأزمة ليست خياراً شخصياً فحسب، بل باتت مؤشراً على فشل الدولة في توفير شروط الكرامة لمواطنيها. أما حين تصبح مغادرة البلاد مطروحة كتفاوض مالي، أو يُقترح ضمنياً جمع التبرعات لمن أراد "الرحيل"، فذلك يعني أننا وصلنا إلى لحظة انكسار رمزي في علاقة المواطن بوطنه. والأسوأ أن هذه اللحظة تجد تعبيرها لا في الاحتجاج الشعبي أو في الخطاب النقدي، بل في لسان من يُفترض فيهم الدفاع عن الأرض ومن فيها. إننا اليوم أمام منعطف يقتضي إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المواطنة لا المنفعة. فالوطن ليس شركة قابلة للتصفية، ولا هو فندق يُقيم فيه من شاء ويرحل متى شاء، بل هو فضاء للانتماء المشترك، يتطلب من الجميع التضحية لا الاستقالة. ومهمة النخب الحاكمة ليست تيسير الخروج من الوطن، بل صناعة الأمل داخله. أما أن تتحول هذه النخب إلى وسطاء في مشاريع "الهروب" الجماعي، فذلك يعني أن شيئاً ما قد انكسر في منظومة القيم السياسية التي يفترض أن تؤطر العمل العام. ولذلك فإن العبارة التي استُعملت، وإن بدت ساخرة أو انفعالية، تختزل مأزقاً أعمق: أزمة في التصور السياسي، في الحس الوطني، وفي معنى تحمل المسؤولية. وهي أزمة لا يمكن مواجهتها بالشعارات الفارغة أو بتلميع الخطاب، بل تحتاج إلى مساءلة حقيقية للسياسات التي جعلت المواطن يشعر بالغربة في وطنه، وإلى جرأة في إعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة العدالة والمساواة والكرامة. إن من يريد "يخوّي البلاد" لا يحتاج إلى من يجمع له المال، بل يحتاج إلى من يعيد له الثقة، ويُشعره أنه ليس مجرد رقم في سوق الاستهلاك، بل هو مواطن في وطن يستحق الحياة. أما إن ظلت السلطة تُدار كغنيمة، والخطاب السياسي ينطق به تجار الامتيازات، فإن النزيف لن يتوقف، وستتحول "الهجرة" من سلوك فردي إلى عقيدة جماعية. وعندها لن يكون جمع المال هو المشكل، بل بقاء الوطن نفسه هو ما سيكون على المحك. الوسوم أخنوش عزيز أكادير التسيير الجماعي