الخط : إستمع للمقال يأتي عيد الشباب هذه السنة ليجدد في الذاكرة الوطنية رمزية عميقة ارتبطت دائما بمسار المغرب الحديث، ذلك المسار الذي تتشابك فيه ملامح التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مع طموحات الأجيال الصاعدة التي ترى في هذا العيد محطة تأمل وتقييم للمنجزات الكبرى التي تحققت تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس. فمنذ اعتلائه العرش سنة 1999، رُسم المغرب طريق جديد في التنمية، أُطلق عليه في كثير من الأدبيات "العهد الجديد"، وهو عهد اتسم برؤية استراتيجية استباقية تحاول دوما المزاوجة بين استمرارية الدولة المغربية، وضرورة القطع مع أنماط التدبير التقليدي التي كانت تعيق النمو وتحد من قدرة البلاد على مواجهة التحديات. هذا العيد الوطني الذي نتكشف من خلاله في كل سنة، مدى ارتباط المؤسسة الملكية بقوة المجتمع، وخاصة فئته الشابة التي تعتبر العمود الفقري لأي نهضة مرجوة، خاصة أن الشباب المغربي في هذه المرحلة أصبح يعيش في ظل بنية تحتية متجددة، وخدمات اجتماعية متطورة نسبيا مقارنة مع الماضي القريب، وفي ظل افتتاح أوراش كبرى غيّرت وجه المغرب برمته، من توسيع الطرق السيارة والموانئ والمطارات، إلى مشاريع الطاقات المتجددة والمبادرات الاجتماعية، ما جعل من عيد الشباب مناسبة لمراجعة هذه التحولات بعيون نقدية تتساءل: إلى أي مدى نجح المغرب في استثمار هذه الإنجازات في ترسيخ العدالة الاجتماعية والديمقراطية؟ إن استعراض الأوراش الكبرى التي دشنها جلالة الملك محمد السادس يكشف عن حجم الطموح الذي حمله المشروع الملكي منذ البداية. فقد انطلق بإطلاق إصلاحات كبرى شملت تحديث مدونة الأسرة سنة 2004، وإطلاق ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، التي شكلت منعطفا حاسما في السياسات الاجتماعية المغربية، حيث وُضعت كآلية مؤسساتية لمكافحة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي. هذه المبادرة التي لم تقتصر على الجانب المادي فقط، لكنها حاولت في الأصل تعزيز روح التضامن الوطني وخلق فرص للشغل والاندماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب والنساء. إلى جانب ذلك، برزت العديد من مشاريع البنيات التحتية الكبرى التي جعلت المغرب يتبوأ موقعا رياديا على الصعيد الإفريقي والمتوسطي، مثل ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح اليوم واحدا من أكبر الموانئ في العالم وأكثرها تنافسية، وشبكة الطرق السيارة والسكك الحديدية التي شملت القطار فائق السرعة "البراق" الرابط بين طنجة والدار البيضاء. هذه الإنجازات لا يمكن فصلها عن الرؤية الملكية التي أكدت على ضرورة تسريع عجلة التنمية. إن المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس تميز أيضا بفتحه لملفات شائكة وحساسة، من قبيل إصلاح الحقل الديني، الذي جاء بعد الأحداث الإرهابية المؤلمة سنة 2003، حيث كان الهدف بناء نموذج مغربي خاص في تدبير الشأن الديني قائم على الوسطية والاعتدال ومواجهة التطرف. كما نستحضر في ذات السياق، أن العهد الجديد شهد تطورات سياسية بارزة، تجلت في خطاب 9 مارس 2011 الذي أطلق ورش الإصلاح الدستوري والذي جاء استجابة لنبض الشارع، وأدى إلى دستور 2011 المتقدم الذي وسع من صلاحيات الحكومة والبرلمان وعزز الحقوق والحريات. في هذا المقام، يبقى عيد الشباب مناسبة للتساؤل حول ما إذا كانت هذه التحولات السياسية قد انعكست فعلا على إدماج الشباب في القرار العمومي أم أنها ظلت مجرد شعارات لم تتجاوز عتبة النصوص الدستورية. وأن التحدي الأكبر اليوم هو كيف نجعل من هذه الفئة الواسعة طاقة حقيقية للتنمية، خصوصا أن الشباب يشكل أكثر من ثلث سكان المغرب، بينما لا يزالون يعانون من نسب بطالة مرتفعة وهشاشة اجتماعية واقتصادية. وبالرغم من أن المغرب قد قطع خطوات هامة في عصرنة بنيته الاقتصادية عموما، وذلك عبر تنويع الشراكات الدولية والانفتاح على الفضاء الإفريقي باعتباره عمقا استراتيجيا وجب الاستثمار فيه، نجد أن المغرب قد تبنى سياسة استثمارية نشطة في القارة السمراء، وحقق عودة قوية إلى الاتحاد الإفريقي، فضلا عن كونه فاعلا أساسيا اليوم في المشاريع الإفريقية الكبرى خاصة في مجالات الطاقة والبنية التحتية. بالإضافة إلى أوراش الطاقات المتجددة مثل مركب "نور" بورزازات التي جعلت من المغرب رائدا عالميا في هذا المجال، مع طموح لتأمين جزء كبير من حاجياته الطاقية عبر مصادر نظيفة. هذه المشاريع كلها ساهمت لا محالة في تعزيز صورة المغرب كبلد إصلاحي نموذجي يسعى إلى مواكبة التحولات البيئية العالمية لكن في المقابل، تظل مسألة العدالة المجالية مطروحة بإلحاح، إذ أن بعض المناطق الجبلية والقروية لا تزال تعيش في عزلة نسبية عن ثمار هذه الأوراش. لذلك فإن عيد الشباب يشكل أيضا محطة نقدية للتفكير في كيفية جعل هذه الأوراش شاملة ومتكافئة من حيث توزيع عائداتها على جميع أبناء الوطن بدون تمييز مجالي ضيق. القضية الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية، عرفت بدورها منعطفات استراتيجية في عهد الملك محمد السادس. فمنذ توليه الحكم، جعل جلالة الملك هذه القضية في صدارة أولوياته الدبلوماسية، معتمدا في ذلك على مقاربة مزدوجة: تعزيز التنمية في الأقاليم الجنوبية من جهة، وتكثيف العمل الدبلوماسي من جهة أخرى. النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية الذي أُطلق سنة 2015، يمثل أحد أهم المشاريع الملكية، حيث رُصدت له ميزانيات ضخمة لإعادة هيكلة البنيات التحتية وتعزيز الاستثمار المحلي، مما أعطى إشارة قوية على أن المغرب لا يكتفي بالخطاب السياسي بل يترجمه إلى مشاريع ملموسة على أرض الواقع. وبالموازاة مع ذلك، واصلت الدبلوماسية المغربية حشد الدعم الدولي لدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وهو ما تُوج بالاعتراف الأمريكي سنة 2020 بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وبفتح قنصليات عامة لعدد من الدول الإفريقية والعربية بمدينة العيون والداخلة. هذا التحول الاستراتيجي جعل من القضية الوطنية الأولى ورقة رابحة في أجندة السياسة الخارجية المغربية، وأكد على أن مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب سنة 2007 يحظى اليوم باعتراف دولي متزايد باعتباره حلا واقعيا وذا مصداقية. كل الإنجازات التي تحققت في ملف الصحراء المغربية تعود بالأساس لحكمة الرؤية الملكية المتبصرة والواعية التي استثمرت في عنصر الزمن لصالح المغرب من خلال تعزيز البنية التحتية وربط الأقاليم الجنوبية بباقي التراب الوطني عبر الطرق والمطارات، وإقامة مشاريع اقتصادية كبرى، إذ تم خلق دينامية جديدة تُظهر أن الصحراء ليست منطقة نزاع بقدر ما هي فضاء استراتيجي للتنمية والانفتاح على العمق الإفريقي. هذه الرؤية الملكية السديدة لم تقتصر على البعد الداخلي فقط، وإنما امتدت إلى العمل على تقوية موقع المغرب في المنظمات الدولية والإقليمية، واستثمار علاقاته مع القوى الكبرى، سواء الاتحاد الأوروبي أو الولاياتالمتحدة أو الصين وروسيا. ويظل التحدي الحقيقي أمام المغرب هو كيفية الانتقال من منطق الأوراش المهيكلة الكبرى إلى منطق السياسات المندمجة التي تراعي البعد الاجتماعي والإنساني. إن النموذج التنموي الجديد الذي قدم سنة 2021 يشكل خطوة في هذا الاتجاه، لكن تفعيله يظل رهينا بإرادة سياسية حقيقية قادرة على مواجهة مقاومة البيروقراطية والمصالح الضيقة.