د. عبد الغني السلماني - مكون وباحث أكاديمي السياق : جاءت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كمشروع تنموي من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للمغاربة ، بعدما احتل المغرب لسنوات عدة مواقع جد متخلفة في مؤشر التنمية البشرية ،حيث يتعلق مؤشر التنمية البشرية بقياس متوسط العمر المتوقع للمواطن ومستوى التعليم والأمية والمستوى المعيشي في مختلف أنحاء العالم ، يجعل المجتمعات معرضة لأخطار دائمة تهدد التنمية ، مما يفرض على الحكومات أن تواجه هذه الأخطار بسياسات منهجية ومعايير اجتماعية فاعلة من أجل تقديم اقتراحات لبناء مقومات المناعة. حسب مقاييس مستوى الدخل عند الأفراد والجماعات . حيث هناك أخطاراً عديدة تعوق هذا التقدم، منها ما هو مرتبط بأزمات اقتصادية وتقلبات في أسعار المواد الغذائية و آخر بالكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة …. ،وبهذا يبقى مؤشر التنمية البشرية هو قياس موجز لتقييم التقدم الطويل الأمد في أبعاد أساسية في التنمية البشرية ترتبط بحياة الأشخاص ، وصحتهم ، ثم قدراتهم المعرفية ومستواهم المعيشي . وعلى هذا الأساس انطلق هذا مشروع الوطني الواعد رسمياً بعد خطاب الملكي بتاريخ 18 ماي 2005. حيث ا ترتكزت فلسفة المبادرة على ثلاث محاور هامة : التصدي للعجز الاجتماعي بالأحياء الحضرية الفقيرة والجماعات القروية الأشد خصاصا، تشجيع الأنشطة المدرة للدخل ، والمتيحة لفرص الشغل ،العمل على الاستجابة للحاجيات الضرورية للأشخاص في وضعية صعبة. المبادرة الوطنية وأسئلة التنمية المحلية : قبل عشر سنوات من الآن، قرر ملك البلاد توسيع قاعدة المتدخلين في العملية التنموية، بإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي تركزت فلسفتها على إطلاق مشاريع جديدة بعيدا عن الحكومة والمصالح الأخرى، وراهن على المجتمع المدني وأناط به بلورة فلسفة المبادرة التي تعتبر شكلا متقدما من المقاربة التشاركية بين المجتمع المدني، السلطات المحلية، المنتخبين، وباقي المتدخلين حيث "تندرج هذه المبادرة ضمن رؤية شمولية، تشكل قوام مشروعنا المجتمعي، المرتكز على مبادئ الديمقراطية السياسية، والفعالية الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، والعمل والاجتهاد، وتمكين كل مواطن من الاستثمار الأمثل لمؤهلاته وقدراته" كما نص على ذلك الخطاب الملكي الأول .. اليوم، وفي الذكرى العاشرة للإطلاق المبادرة، تقفز إلى الواجهة المشاريع النوعية التي أبصرت النور بفضل هذه المبادرة الخلاقة ، فقد تم رصد ملايير الدراهم لتنفيذ مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي شملت مستويات هامة من حيث الأهداف والفاعلين ،فقد أشركت المبادرة مئات الجمعيات في تركيب عدد من المشاريع وإنجازها، ومكنت نسبة كبيرة من الفعاليات الجمعوية من تحسين قدراتها، والارتقاء بأدائها بفعل برامج التكوين والدعم . وإذا كان من أهداف المبادرة محاربة الهشاشة، وتمكين الفئات الأقل دخلا من الولوج إلى الخدمات الضرورية في مجال الصحة والتعليم، والمشاريع المدرة للدخل، فقد مكنت المبادرة عدة فئات اجتماعية من الاستفادة من الخدمات الأساسية سيما في مجال الصحة والتعليم، مع الرهان على تحسين نسبة المتمدرس بالعالم القروي، بتوفير عدد كبير من الأقسام الداخلية، ودور الطلبة لإيواء التلاميذ الذين يقطنون بعيدا عن المؤسسات التعليمية مع تقديم خدمات الإيواء والإطعام، والأنشطة الموازية، وهو ما مكن من رفع عدد المتمدرسين،خاصة في العالم القروي والمساهمة في تنميته والحد من الهدر المدرسي ومساعدة شباب عاطل ومعطل في البحث عن مخارج لمواجهة أزمة البطالة. واقع التنمية على ضوء المبادرة الوطنية للتنمية البشرية : إن البحث عن نموذج للتدبير المحلي وإخراجه في قوالب تنظيمية وإجرائية ، تتغيا استحداث نمط تسييري و تدبيري يقوم على معطى تشاركي بين المجتمع المدني ، كقوة اقتراحية في علاقة بالمؤسسات المحلية ، بغية تكسير وتقويض كل مثالب السياسات التي تبنى من موقع واحد ، أو ما يمكن أن يصطلح عليه ب"التدبير البيروقراطي "، والتي أثبتت عدم فعاليتها وأدت إلى إحداث العديد من الاختلالات والفوارق على مستويات التنمية ، وإحلال محلها "التدبير المشارك أو المساهم " الذي يستجيب لمقدرات وإرادات النخب المحلية بأشكالها ، ويتكيف مع أي إكراهات أو موانع قد تحول دون بلوغ سقف الرهانات المحددة سلفا،وبالتالي يجب التفكير مليا في إيجاد بنية علائقية ناظمة ومترابطة ومتراصة بين التدبير المحلي وسياسة القرب، فالتجارب المقارنة أكدت تحت وقع التجريب والممارسة أهميتها وبرهنت بالملموس على أنها ثنائية تشكل معادلة من الصعب المحيد عنها في سياقات التفكير في أي تنمية محلية بديلة بأبعادها الشمولية. وحتى لا تظل المؤسسات الحلية والوحدات الترابية المنتخبة تعمل خارج الزمن الاجتماعي وفي انعزالية عن المواطن ، حيث تنطلق التنمية منه وإليه، فإن وجوبية اعتماد سياسة القرب لا مناص منها لإعطاء الفعل الحلي القدرة في الجواب والإجابة عن كل الإكراهات ، باعتبارها تمتلك الدعامات الأساسية للوصول إلى التطلعات التنموية المنشودة والمرجوة، بعيدا عن المنهجية البيروقراطية في عملية صنع القرار بمنأى عن ركام القواعد الإجرائية التعقيدية. لاشك أن بناء أي إستراتيجية لتدبير الشأن المحلي لن يتأتى دون التوظيف الجيد لمرتكزات سياسة القرب، لتكون جل مؤسسات اتخاذ القرار على المستوى المحلي تشتغل عن قرب مع المواطنين، ويمكنها تشخيص وتحديد احتياجاته والاستجابة السريعة لمتطلباته في سياق تفاعلي ذي منحى إيجابي دائم. وتعتبر سياسة القرب منهجية في التدبير العمومي تعتمد على المقاربة التشاركية، وذلك بهدف التغلب على إكراهات وعوائق التنمية، هدف لا يمكن تحققه إلا من خلال قيادات سياسية منتخبة قريبة من مواطنيها، الذي تحظى برضاهم عبر مشاركتهم ودعمهم، وجمعيات تنموية منخرطة تمتلك قدرات ووسئل ومقترحات ومشاريع . المقاربة التشاركية إذن تهدف إلى توفير فضاءات مختلفة للتشاور والاستشارة المباشرة والتي تعرف نوعا من الانتظامية والديمومة تمكن المواطنين من الانخراط الإيجابي في بلورة السياسات التنموية من خلال التتبع والمراقبة والمشاركة الفعلية غير الشكلانية، فلكون هذه "الضرورة التشاركية" ترتكز على دور وسلطة جديدة تمنح للمواطنين. أي قيام نمط توزيعي جديد من سلطة اتخاذ القرار وهي كلها تفيد في نهاية المطاف بحيوية الفعل المحلي وتقنينه بما يخدم المصلحة العليا للمواطن. وتبقى أيضا أحد المقومات الأساسية الموظفة والمعتمدة في سياسة القرب هي مسألة المقاربة الترابية التي يمكن أن تشكل المجال الحيوي لتجسيد وتكريس تطبيقات اللامركزية حقيقية ، فهناك علاقة تكاملية بين الإدارة المحلية كسياسة والتراب كمجال خاضع لها، لذلك فإن التحول من السياسة المحلية في بعدها الإداري الصرف إلى سياسة محلية تنموية تتوفر على امكانية التقرير ومقومات الإقتراح ، هذا يستند بالدرجة الأولى إلى اعتماد مبادئ الحكامة الترابية، لأنها أكدت فعاليتها في سياسة معالجة الاختلالات ومحاربة التفاوتات في خلق مجالات ترابية محلية وجهوية متطورة من خلال تبني إستراتيجية وطنية للخروج بمشروع وطني يستند إلى مقاربة تجعل من الجماعات الترابية مجالا تنمويا للتكامل والتضامن لما لسياسة القرب من إجرائية في تنفيذها ومتابعتها وتقويمها، كما أن المقاربة الترابية هي الأسلوب الناجع والقيم بتمكين المؤسسات المحلية من عوامل التكيف مع متغيرات محيطها وتحديد سلم الأولويات بالنسبة إلى حاجيات المواطنين والجماعات الترابية . وعلى الرغم مما تتيمز به المقاربة الترابية في بناءاتها من مركزية التخطيط وتكون ذات أهداف عامة وذات بعد وطني تحت متطلب تحقيق نوع من التكامل والتضامن بين مختلف الجهات وتحقيق توازنات مجاليةو ترابية فإنها لا تكون فعالة إلا من خلال إقرار مبادئ سياسة القرب ومنهجية التدبير التشاركي كمرجعية محورية لإعداد السياسات العامة والقطاعية، وإنجاز مختلف التصاميم والبرامج المديرية على المستوى الجهوي، وفق آليات وأدوات تمنح المواطنين كل منافذ المشاركة والإشراك. الرهان : ولعل أهم الخلاصات المرتبطة بهذه المبادرة الفريدة، هي أنها نجحت في تغيير حياة عدد من البسطاء، ونقلت واقع بعض التجمعات من الحرمان والبؤس، إلى عالم المواطنة، ووفرت لفئات عديدة الحد الأدنى من الخدمات الأساسية، وغيرت حياة آلاف النساء بفضل المشاريع التعاونية المدرة للدخل بفضل سخاء التمويلات التي وفرتها المبادرة والمصاحبة والتكوين والتأهيل الذي أنجح عددا من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وللإستمرار في هذا النفس لابد من تجديد آلية الفعل والعمل حتى تكون المؤسسات المعنية بأجرأة أهداف المبادرة تحتضن طاقات لها من العلم والدراية ما يؤهلها أن تكون في مستوى الرهانات الكبرى التي وضعتها المبادرة ، مما يفرض منهج جديد لأقسام العمل الإجتماعي في العمالات والأقاليم أن تتوفر على الطاقات والقدرات لتأطير المشاريع وأجرأة الأهداف . فالتدبير بمفهومه العام يقتضي تكامل البنيات المؤسساتية من أجل تلبية رغبات المستفيدين والزبناء بأقل تكلفة وفي احترام تام للتنظيمات والتشريعات المعمول بها. وبما أن الرهان العالمي والكوني، يبدأ من أسفل درجات سلم أو هرم الحكامة، ألا وهو الرهان المحلي والجهوي، فالفاعل التنموي كيف ماكانت طبيعته ملزم الآن ، بإنتاج معرفة سوسيولوجية جديدة حول مجالاتنا الترابية المحلية والمتحولة، باعتبارها مجالات إعتمال أو إشتغال الإجتماعي في علاقاته، المتشعبة والمتداخلة، بإستراتيجيات السلطة والتنمية ، أي بأساليب التخطيط والتدبير التنموي ، وأدوات الإنتاج والإستهلاك الإقتصادي. في هذا الإطار، يتطلب إنتاج مقاربات مونوغرافية تشخيصية، ترابية وظيفية وتشاركية، لمجالات تدخل الفاعل الإجتماعي كان الدولة أو المجنمع المدني ، إنها الرغبة في رصد مسارات التنمية في المغرب وطبيعة المخططات التي اعتمدتها الدولة في محاربة الفقر والهشاشة وخلفيات التدخل ، وتجديد المقاربات في الإقتراب من الواقع المجتمعي المعقد ، من خلال مقاربات تنبني على منهجية تركيبية تجمع بين رصد ووصف أو مسح معطيات الواقع الترابي، في إمتداداته الجغرافية والسكانية، والعمرانية والبيئية، والسوسيوإقتصادية والثقافية، وبين تحليل مختلف العلاقات والمتغيرات الموجودة بين معطيات المجال الترابي المدروس، في أفق طرح تصورات أو بدائل أو إعداد إستراتيجيات ومخططات مستقبلية للتأهيل والتنمية المحلية الشاملة. من خلال التصور الذي تراهن عليه الدولة والآن إنها المبادرة الوطنية للتنمية الوطنية .