ونحن على بعد أيام عدة من موسم تعلات السنوي، ملتقى فقهاء و حملة القرآن من مختلف ربوع الوطن في سوس العالمة .لا بد لنا من تسليط الضوء على واقع ومستقبل المؤسسات التي نسهر على تكوين هؤلاء لتاطير الحقل الديني أن تذكيرا بدورها الطلائعي من إسهامات، ومايتهددها من مخططات لإنهاء دورها الريادي. تعتبر المدارس العتيقة من أكبر تجليات الازدهار الفكري والديني للمجتمع الأمازيغي بمناطق سوس و درعة . التي قلما نجد قبيلة بالسهل أو الجبل أو الواحة بدون هاته المعلمة الدينية والعلمية التي يولونها عنايتهم بتخصيص نصيب من محصولاتهم الزراعية لها ، والاهتمام بشوونها . و من الأسر من تنذر طفلا أو أكثر من أبناءها بعد استكماله مرحلة الكتاب القرآني لإستكمال تكوينه في إحداها . تكوينا يعتمد منهاجا أساسه الصرامة في حسن السلوك ،والترفع عن الخوض في أمور الحياة العامة ،حفظا للقرآن وتفسيره، وتعلما للفقه وأصوله، والنحو وتشعباته، وعلم الحديث حفظا وتفسيرا لصحيحه وحسنه وضعيفه..... ومن نتاج هذه المؤسسات التاريخية أنك لن تجد أحدا يعلو منبرا ، أو يؤم مصلين بمسجد من مساجد المغرب الفسيح ، أو قاض شرعي يحكم في شؤون الناس في محكمة شرعية ، أو عدل من العدول يوثق معاملات المغاربة ،إلا وهو متخرج من إحداها ، مجاز من مشايخها. قاومت الإستعمار وظهيره البربري، حافظت على وسطية اسلام المغاربة واعتدالهم،لم يفلح المد التغريبي من تقزيمها،و لم تستطع شعب الدراسات الإسلامية في الجامعات من تكوين بديل في مستوى خريجيها . هي سر خصوصية المغرب التي بدأ يهددها المد الوهابي الآتي من الشرق، الذي نجح في اختراق خصوصية الإسلام المغربي بحيث جعل له عرابين يخدمون توجهاته، يؤسسون مؤسسات يسمونها دور القرآن كبديل يستقطب طلبة العلوم الشرعية بدلا منها، يتكفلون بمصادر تمويلها ، و يلقنون فيها مناهج تنهل من مرجعيات علماء وفقهاء السعودية ، وينشرون نمط لباس وعادات غريبة عما ألفه المغاربة . لقد كان الدين و مازال موطرا لحياة المغاربة في تناغم تام مع خصوصية المغرب من لباس وعادات و تقاليد بين مختلف قبائله ومناطقه المختلفة ، من الزي النسائي والرجالي، إلى اللسان والمطبخ. ليطل علينا نمط وهابي موحد فى الزي والهندام ، وما هو في الحقيقة إلا مظهر من تمظهرات غزو فكري إيديولوجي شمولي جديد بعد موجة المد الإخواني. غزو يحب مبشورة أن ينعت بالسلفية لا يؤمن بالخصوصيات المحلية، ولا يعترف للمدارس العتيقة مهد الوسطية والاعتدال ،بدورها المحوري التاريخي في تنزيل الدين ،وملائمة شرائعه مع خصوصيات المجتمع، بل يشن حملات تشويه ضدها متهما إياها بترويج البدع والشعوذة و القبورية ولكم أن تطالعوا الحملات التي يشنها معتنقو هذا المذهب على فقهاء المدارس العتيقة في كتاباتهم، و بمواقع اليوتوب ، لتعرفوا مخططاتهم لنسف آخر قلعة من قلاع الإسلام المغربي المعتدل. اسلام اعتنقه الآباء والأجداد محافظين على هويتهم الأمازيغية و العربية، متعايشين مع اليهود كمكون من مكونات المجتمع . نمط تدين وافد علينا ، ظاهره اتباع اهل السنة و الجماعة ،وباطنه إنهاء زمن حفظة القرآن المغاربة، و استقلالية الاجتهاد الفقهي والفقهاء المغربيين، و إعادة تبعيتهم الروحية لمشايخ الجزيرة العربية. موجة غسيل للأدمغة والعقول ، استعملت فيه تقنيات التواصل في زمن الأنترنيت والفضائيات ، و كتب ومطبوعات ، تخصص لها ميزانيات ضخمة من العملة الآتية من أبارالبترول، و بأساليب خطابية بسيطة ، بعيدا عن صرامة الفقيه المغربي وتحفظاته المعقدة ، تهيبا وتعظيما لمكانة الفتوى في حياة المسلم. هذه التعقيدات التي لم تمنع جهابدة الفقه في المغرب من إقرار حق المرأة في الكد والسعاية في الميراث منذ عقود خلت ، بينما مازال المبشرون الجدد من شيوخ الخليج ينكرون حق المرأة في السياقة والسياسة. إن المتتبع الحقل الديني في المغرب لا ينكر أنه باستمرار هذا المد الوهابي بدون دعم للمؤسسات العتيقة و رموزها ، سينتهي زمن الخصوصية المغربية التي طالما تغنى بها الخطاب الرسمي ، وجعل منها سرا من أسرار تحصين الشأن الذات الوطنية من الغلو والتطرف، وستصبح الساحة ميدانا للتطاحن بين شيوخ الخليج ، من أمثال ربيع بن هادي المدخلي وخصومه ، يتكلف عرابون من أمثال الشيخ المغراوي وأبو النعيم ببقاءها مشتعلة ، ويكون حطبها مريدون حديثي السن من شباب المغرب ، يحدث ذلك أمام أعين العقل الأمني الذي لا ينام ، و هو يتابع بحيادية ما يجري طالما أنهم يرفعون شعار "أهل الطاعة" حتى وإن وقعت انزلاقات شاذة للبعض نحو الغلو. إن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تبقى وزارة بدون معنى مالم تجعل من المدارس العتيقة عمود التكوين والتاطير في مؤسساتها ، و تجعل منها قاطرة لتاطير المجتمع ، وذلك بمدها بالوسائل المادية واللوجيستيكية ، وادماجها كمؤسسة إجبارية لمن يرغب في الاشتغال في الحقل الديني، وتسهيل انفتاحها على المجتمع. بدلا من تهميشها و تقزيم دورها لصالح مؤسسات فشلت في تحقيق وجودها ، رغم مايرصد لها من ميزانيات و إمكانيات تسنزفها بدون أثر.