كشفت اكتشافات أثرية حديثة في شبه جزيرة طنجة عن مقابر غامضة يعود تاريخها إلى آلاف السنين، مما يسلط الضوء على ماضٍ جنائزي غني ومعقد في شمال المغرب، بعيدًا عن السرديات التقليدية التي همّشت دور المنطقة في تاريخ الحضارات القديمة. الدراسة، التي نشرت في مجلة African Archaeological Review وأشرف عليها فريق من الباحثين المغاربة والدوليين، ركزت على ثلاثة مواقع جنائزية تضم قبورًا ميغاليثية من نوع "سيستا"، إضافة إلى نقوش صخرية وأعمدة حجرية "مينهير"، يعود تاريخها إلى ما بين 3000 و500 قبل الميلاد، أي إلى فترتي العصر البرونزي والحديدي. ومن أبرز الاكتشافات التي وثّقها الفريق، مقبرة فريدة من نوعها في منطقة دروة زيدان، وُصفت بأنها أول قبر من نوع "سيستا" يتم تأريخه بدقة عبر الكربون المشع في شمال غرب إفريقيا، حيث بيّنت النتائج أن القبر استُخدم ما بين سنتي 2119 و1890 قبل الميلاد، وهو معطى يُعدّ بالغ الأهمية لفهم تطور الممارسات الجنائزية في المنطقة. ما يلفت الانتباه في هذه المواقع هو تنوع أشكال الدفن، التي تراوحت بين كهوف طبيعية وحفر أرضية بسيطة إلى قبور محاطة بألواح حجرية مرصوفة بدقة، بالإضافة إلى وجود قبور خالية تمامًا من الرفات، يُرجّح أن تكون "قبورًا رمزية" أو "سينوتافات"، ما يعكس مفاهيم رمزية وروحية كانت حاضرة بقوة في معتقدات السكان القدماء. كما عثر الباحثون في نفس الموقع على أدوات حجرية وبقايا عظمية متناثرة خارج الهياكل الجنائزية، ما يرجح فرضية تعرض بعض المقابر للنهب في عصور لاحقة. وتعزز النقوش الصخرية المتناثرة واصطفافات الأعمدة الحجرية التي تم توثيقها، الفرضية القائلة بأن المنطقة كانت مركزًا طقوسيًا بارزًا، متصلًا بمسارات تجارية وربما دينية، ما يجعل من شمال المغرب أرضًا نابضة بالتاريخ وفاعلة في شبكات تفاعل ثقافي أوسع. وتؤكد هذه الاكتشافات، وفقًا للباحثين، أن شمال إفريقيا لم يكن مجرد منطقة هامشية في العصور القديمة، بل كان مهدًا لحضارات محلية غنية، ساهمت في إنتاج وتداول رموز ومعارف معقدة، في استقلال عن أي تأثيرات استعمارية لاحقة.