أخنوش يتتبّع تقدم المنشآت الرياضية    ارتفاع قياسي للذهب وصعود الفضة    السكتيوي: نهائي كأس العرب يحسم بالتركيز والانضباط لا بالأسماء    المنتخب المغربي ثاني أعلى المنتخبات المشاركة في "الكان" قيمة سوقية    رفع درجة التأهب للجنة اليقظة بعمالة شفشاون ووضع كافة الموارد في حالة تعبئة قصوى لمواجهة التقلبات الجوية المرتقبة    حكومة أخنوش..أثقل فاتورة خسائر في تاريخ المغرب مقابل أرقام قياسية في المهرجانات    مدرب جزر القمر: المغرب الأوفر حظا والضغط سيكون عليه في افتتاح "الكان"    حصاد 2025 | الأمن الوطني يرفع الكفاءة الأمنية ويعزز الرقمنة ويحقق نتائج قياسية في مكافحة الجريمة    بنسعيد : الأخبار الزائفة تهدد الذاكرة الجماعية والثقة المجتمعية    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء إيجابي    الحوض المائي اللوكوس .. الأمطار الأخيرة عززت المخزون المائي بالسدود بأكثر من 26 مليون متر مكعب    سلامي: الأردن بحاجة للفوز بلقب كأس العرب أكثر من المغرب    الوكالة المغربية للأدوية تخطط لتعزيز الرقابة الاستباقية والتدقيق الداخلي لضمان استقرار السوق    كأس العرب (قطر 2025)..المنتخب المغربي على مرمى حجر من معانقة لقبه الثاني عند مواجهة نظيره الأردني    مونديال 2026.. "فيفا" سيوزع 727 مليون دولار على المنتخبات المشاركة    مقاييس التساقطات الثلجية المسجلة بالمملكة    أمطار رعدية وثلوج وطقس بارد من الأربعاء إلى السبت بعدد من مناطق المغرب    ترامب يعلن رسمياً تصنيف نوع من المخدرات "سلاح دمار شامل"    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الصين تسجل رقماً قياسياً في رحلات السكك الحديدية خلال 11 شهراً من 2025    انتخاب الاستاذ بدر الدين الإدريسي نائبا لرئيس الاتحاد العربي للصحافة الرياضية    فرحات مهني يكتب: الحق في تقرير مصير شعب القبائل    لماذا تراهن بكين على أبوظبي؟ الإمارات شريك الثقة في شرق أوسط يعاد تشكيله    ماجد شرقي يفوز بجائزة نوابغ العرب    حريق يسلب حياة الفنانة نيفين مندور        تشابي ألونسو يحذر من مفاجآت الكأس أمام تالافيرا    البنك الألماني للتنمية يقرض المغرب 450 مليون أورو لدعم مشاريع المناخ    مطالب بتدخل أخنوش لإنقاذ حياة معطلين مضربين عن الطعام منذ شهر ونصف    الملك محمد السادس يبارك عيد بوتان    أكادير تحتضن الدورة العشرين لمهرجان تيميتار الدولي بمشاركة فنانين مغاربة وأجانب    وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور عن 53 عاما إثر حريق داخل منزلها بالإسكندرية    هجومان للمتمردين يقتلان 4 أمنيين كولومبيين    "ترامواي الرباط سلا" يصلح الأعطاب    مديرية التجهيز تتدخل لفتح عدد من المحاور الطرقية التي أغلقتها التساقطات الثلجية    في حفل فني بالرباط.. السفيرة الكرواتية تشيد بالتعايش الديني بالمغرب    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن مقاطعة انتخابات ممثلي المهنيين في مجموعة صحية جهوية    واشنطن توسّع حظر السفر ليشمل عددا من الدول بينها سوريا وفلسطين    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط تدين عملية الهدم في حي المحيط والتهجير "القسري" للمهاجرين    تمارين في التخلي (1)    الفدرالية المغربية لمقاولات الخدمات الصحية.. انتخاب رشدي طالب رئيسا ورضوان السملالي نائبا له    منفذ "اعتداء بونداي" يتهم بالإرهاب    خلف "الأبواب المغلقة" .. ترامب يتهم نتنياهو بإفشال السلام في غزة    "بنك المغرب" يراجع فوائد القروض ويحضّر لتغيير طريقة التحكم في الأسعار ابتداء من 2026    إسبانيا تعتمد مسيّرة بحرية متطورة لتعزيز مراقبة مضيق جبل طارق    الدوزي ينسحب من أغنية كأس إفريقيا    تماثل للشفاء    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهبي يكتب.. الفصل 47 مرة أخرى
نشر في فبراير يوم 11 - 06 - 2019

ارتفعت الأصوات من جديد، مطالبة بتعديل الفصل 47 من الدستور، بعضها صدر عن نقاش سياسي، وبعضها « رغم قلته » عن نقاش دستوري، والحقيقة أنه لا يمكن أن نجعل الدستور في خدمة السياسة، لأن هذه الأخيرة موضوع مصالح فئوية، بينما الدستور فهو أساس بناء الدولة برمتها.
وإذا كان من المشروعية أن نفكر في تعديل الدستور، فإنه من غير المشروع أن نحول الدستور إلى آلية لخدمة نزعات سياسية، أو مصالح آنية، فالدساتير لا تتغير كما تتغير الثقافة السياسية، وفي جميع الأحوال تبقى هذه الدساتير مجموعة من الأفكار غير المكتملة، فهي تتناول جماعة سياسية من أساسها كمجتمع له حكامه وسلطاته يعيش كثيرا من التحول.
فالدستور في آخر المطاف هو مجموعة نصوص مسطرة، محددة المضامين، وكلماته ذات دلالة معينة، ولا يمكن قراءته على شكل مجزوءات، ولكن كوحدة متكاملة يكمل بعضها البعض، لذلك ينفصل بشكل أو بآخر عن واضعيه وعن خلفياتهم، وحتى عن من يستعمله أو يشتغل به، لأنه قانون يحكم ويسود كمكونات وحدود وقواعد، أو كما يقول الفقهاء، « إن واضعي الدساتير يموتون تشريعيا فور صدور القانون »، والأموات كما يقول طوماس جيفرسون « ليست لهم سلطة ولا حقوق »، علما أنه لا يمكن أن نغيب أن لواضعي الدستور « رغم وفاتهم تشريعيا » نية وثقافة وخلفية تحكمت فيهم عند القيام بمهامهم، وهي مجموع كلمات ودلالات كان لها حضور في الفكر السياسي وقت وضع تلك الدساتير لحظة صياغة الأعمال التحضيرية.
وهنا يطرح السؤال الذي يعصف بالنقاش السياسي، هل نحن أمام نصوص دستورية صلبة محددة الكلمات والجمل، تستند على نية واضعيها وطبيعة دلالات لغة مرحلتها؟ أم أننا أمام نصوص مرنة قابلة لتغيير الدلالة، مرتبطة بالواقع وتحولاته وبمظاهر التطبيق العملي؟
إن تفسير الدساتير يختلف حسب تطور المجتمعات وليس حسب الأهواء، كما يفعل البعض حين يحولها إلى شعار يتعسف في استعمال ما يدعى بالتأويل الديمقراطي للدستور، وقد يقصد به تحديد المعطى الموضوعي للنص لحظة تطبيقه.
قد أكون محافظا إذا قلت بأن هذا المنحى يخالف طبيعة الدستور نفسه، الذي هو تلك النصوص الجامدة في مضمونها، العنيفة في غموضها، المحافظة في دلالتها، خاصة وأنه ليس بمقدور أي كان أن يتوقع ويتبنى كل الوقائع السياسية المستقبلية والمحتملة ليضع لها دستورا، مما يجعل أحد الفقهاء يقول « إن عدم القدرة على التنبؤ بالوقائع السياسية المستقبلية اللامحدودة، يستحيل معه الحيلولة دون أن يتسرب الشك والغموض إلى الوثيقة الدستورية »، فوقائع الحياة السياسية وتحركها وتموجها، يجعلها في كثير من الأحيان تصطدم بالنص الدستوري.
لكل ذلك، علينا أن ندرك في المقابل أن الدساتير توضع لكي يكون لها عمرا طويلا، وأن تبقى ممتدة في الحياة السياسية، لأنها تنشئ وتنظم الأسس التي يستند عليها النظام القانوني، وتضع القواعد والأصول، وترسم خريطة الحكم، علما أن كل هذه المواضيع سياسية، وتتسم في طبيعتها بنوع من الديناميكية والتحول، وتحكمها المصالح، كما أن طبيعة تطور المجتمعات تجعل المطالب متباينة، مما ينتج عنه تبني تصورات وأنساق متناقضة.
إن الطبيعة الشاملة للدستور تجعل موضوعه يتقاطع بين السياسي والاجتماعي، لأنه بقدر ما يكون الدستور جامدا، بقدر ما تكون بالمقابل التحولات الاجتماعية تتسم بنوع كثيف من الديناميكية، لذلك نطرح سؤالا حول مدى قدرة المشرعين (وهم يضعون الدستور) في استيعاب كل التحركات الاجتماعية والسياسية؟ أم أنهم (لحظة وضع الدستور) عليهم فقط أن يجيبوا على أسئلة آنية ومحرجة؟
إن مناقشة الفصول الدستورية بشكل منفصل، لن تكون سوى « نصوص هائمة في الفراغ، لا تتعامل مع القيم وغير مرتبطة بالواقع الاجتماعي » كما يذهب إلى ذلك أحد الفقهاء، وهذا ما يجعل البعض (خاصة السياسيين) ينادون بضرورة زرع روح في الوثيقة الدستورية، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، كيف سيتم ذلك؟ هل عن طريق نوع من المصالحة بين النص والوقائع السياسية؟ أي بين النص الثابت والواقع المتغير؟
إن هذه المعطيات كلها تجعلنا نتعامل مع النص الدستوري بكثير من الحذر، لأنه ليس مجالا للمغامرة أو متعة للكتابة، بل هو تعامل مسؤول اتجاه قضية اسمها الدستور، يهمنا بشكل جماعي كوسيلة لضمان الحقوق، ويهمنا كذلك بشكل سياسي كإطار للتعايش وأساس لبناء الدولة، ومن تم لا يجوز لنا القيام بتغييرات قد تجعلنا نحمل النصوص غير حقيقتها وغير أهدافها، أو « نحاول تفسيرها بشكل اعتباطي » كما يقول أحد القضاة.
وبعودتنا إلى دستورنا من خلال كل هذه المنطلقات، يمكننا أن نؤكد على ما يلي:
أولا: علينا أن نكون واضحين وتاريخانيين لنقول، إن دستور 2011 لم يكن وليد تلك اللحظة، بل جاء نتيجة تطورات سياسية عرفها الشعب المغربي، وتراكمات لنقاشات ومواجهات بين قوى مختلفة في المجتمع، تارة تبلغ درجة العنف والتضحيات، وتارة أخرى تشتد حول طبيعة استحقاق الديمقراطية كوسيلة لإدارة الحكم، وبقدر ما كانت المطالب منذ الاستقلال إلى الآن تعرف تصاعدا اجتماعيا ومجتمعيا، بالقدر نفسه كانت السلطة الحاكمة تديرها بنوع من الصرامة الممزوجة بالتنازلات المحسوبة، فتارة تضع الدساتير، وتارة أخرى توظف الدخول في الانتخابات، تم تدير نتائجها، وقد كانت سياسة المذكرات المرفوعة من القوى السياسية أو المدنية، إلى الملك وبعد ذلك إلى اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة الدستور، تجسد كل تلك التراكمات وتعبر عنها، وتعكس ذلك الامتداد التاريخي للقضية الدستورية، وهكذا حتى وصلنا إلى دستور 2011 بكل مكوناته.
وبالموازاة مع ذلك، فإن التطور الذي عرفه الرأسمال الوطني من خلال طفرة اقتصادية عرفها العقد الأول من وصول جلالة الملك إلى الحكم، أدى إلى خلق طبقة وسطى تبحث عن حضور سياسي، لكن في ظل فكر « محافظ »، تقوى أكثر مع غياب الفكر اليساري الناتج عن سقوط حائط برلين، وانهيار الفكر الشيوعي، علما أن هذه الطبقة المتوسطة هي من سيؤدي ثمن فاتورة اختيارات القوى المحافظة خلال 2011.
وفي ظل سياق هذه التطورات، عرف العالم العربي سنة 2011 موجة من الحركات الاحتجاجية الشبابية التي تم السطو عليها « انتخابيا » أو « سلطويا » من طرف القوى المحافظة أو الجيش، مما جعل البعض يطرح السؤال التالي: هل يمكن أن نزاوج بين الديمقراطية والفكر المحافظ المستند على الدين والحدود والضوابط الشرعية في مجتمع أصبح مفتوحا، وغير خاضع بشكل مطلق لسلطة واحدة؟ وهل يمكن تطوير الاقتصاد الوطني بفكر محافظ يعتمد الخطاب الاجتماعي كوسيلة للتدبير السياسي؟ فكر اقتصادي لا يستند على الاستثمار بل على الصدقة، مع ما لكل ذلك من انعكاس على مفهوم التنافس وخلق مناصب الشغل وبناء الإنسان؟
إنه بقدر ما كانت القوى السياسية تسعى إلى وضع دستور ذا بعد ديمقراطي، بقدر ما كانت الحركات المحافظة تراقب بحدر براغماتي، لكونها كانت مدركة أنه في آخر المطاف وفي ظل الظروف السياسية، ستكون هي المستفيد الأول من الدستور الجديد، وهنا لا يجوز لي ولا لغيري أن يصدر أحكاما بديمقراطية أو لا ديمقراطية هذه الحركات، مادامت ملتزمة بالدستور وبالثوابت، فالعلاقة بين الأحزاب لا تبني على الأحكام المسبقة، بل تبنى على قبول التعايش المشترك في ظل دستور متفق ومتوافق عليه، ونعتقد أن نتيجة الاستفتاء على دستور 2011 تعد تعبيرا واضحا عن هذا التوافق وعن المؤسسات الدستورية كمجال لتأطير الصراع السياسي.
ثانيا: هل علينا أن نفسر الدستور المغربي وفصوله داخل الوضع السياسي وما عرفه من تموجات سياسية سنة 2011؟ أم نفسره وفقا للوضع الحالي وما نعيشه من استقرار وتوافق حتى ولو كان يبدو لنا في بعض الأحيان ملغوما؟
في جميع الأحوال، دعونا نختزل هذا النقاش في الفصل 47 الذي يسيل لعاب كثير من السياسيين، ربما لأنه المنفذ إلى السلطة، وإلى رئاسة الحكومة، ومنه إلى الحكومة بذاتها.
إن التعامل مع هذا الفصل انطلق أساسا من خلاف سياسي، حيث بقدر ما كان مكسبا في 2011 أصبح عبئا في سنة 2016، ربما نتيجة العجز السياسي والانتخابي للبعض، أو ربما بسبب الخوف من الهيمنة السياسية للبعض الآخر.
غير أن الحقيقة هي أن مضمون هذا الفصل يثير بعض التساؤلات والإشكالات، لكونه فصل تناول قضية تعيين رئيس الحكومة بشكل مطلق، ولم يضع التدابير التنظيمية في حالة وقوع أزمة سياسية مثل طبيعة الأزمة التي عشناها عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2016 والتي لم تكن في حقيقتها سوى أزمة « مفتعلة » في فترة زمنية كان للدولة حضورا، كما كان للائتلاف الحكومي وجودا سياسيا.
وبقدر ما اعتبر الكثيرون أنها حالة فراغ، فإنه كان توصيفا متحايل به، لكون هذا الفراغ لا يمكن أن يقوم بوجود الدولة وحكومة « تصريف الأعمال »، وكنا ننتظر أن ينصب النقاش حول وضعية البرلمان اتجاه حكومة « تصريف الأعمال » حتى يقوم بدوره، لكون الحكومة كانت عادية أو غير عادية، يبقى دورها في آخر المطاف هو « تصريف الأعمال ».
ثالثا: إن الفصل 47 لا يجب أن نحمله على غير مقاصده، ولا يمكن أن نفسره خارج معناه، وحتى أن صيغته المطلقة لا يجوز لنا أن نقيدها أو نحرفها على دلالتها، وأن تقييم الخلاف السياسي حول هذا الفصل يدخل في صميم أهم دور لرئيس الدولة، وهو فصل مرجعي وليس أداة لخدمة نزاع سياسي لفائدة هذا الطرف أو ضد ذاك، بل يعد أحد أهم أدوات الاختيار الديمقراطي كثابت من الثوابت الدستورية، علما أن لرئيس الدولة سلطة التعامل مع النص باعتباره كغيره من النصوص الدستورية الأخرى نصا غير مكتمل، بحكم عجز النص عن تدبير الضغط السياسي والتحولات غير المتوقعة، لذلك فلرئيس الدولة مهمة ومشروعية تفسير هذا النص، حتى يواكب التطورات السياسية المعلنة أو غير المتوقعة.
رابعا: إذا كانت المحكمة الدستورية نفسها لا تملك اختصاصا مباشرا في تفسير النص الدستوري، فمن له حق تفسيره إذا؟ خاصة وأن تطبيق فصوله يعود إلى سلطات متعددة ومختلفة؟ بحيث كل نص يخاطب وينظم سلطة معينة، يمكنها من المساطر لممارسة دورها؟
إن شرعية تفسير الفصل الدستوري تعود في الواقع إلى السلطة التي يخاطبها، فالنصوص مثلا التي تنظم البرلمان، يعود لهذا الأخير من خلال ممارساته أن يفسر عمليا الفصل الذي يهمه تحت رقابة جميع السلط الأخرى، ونفس الشيء بالنسبة للحكومة، حيث تفسر الفصول التي تعنيها، كما أن هناك عدة وسائل لدفع المحكمة الدستورية إلى تفسير النصوص الدستورية من خلال البث في النزاعات الدستورية المعروضة عليها، وهو ما قد يكون في بعض الحالات ليا لعنق المساطر، وقد سبق لنا مثلا أن دفعنا المحكمة الدستورية بطريقة غير مباشرة، إلى تفسير مفهوم التنصيب البرلماني للحكومة، بمناسبة تشكيل حكومة بنكيران الثانية، وذلك في مسطرة ترمي إلى الطعن في عدم دستورية القانون المالي، و الذي من خلاله اعتبرناه أن هذا الأخير صادر عن حكومة تفتقد لشرعية التنصيب البرلماني، ومن تم يفتقد للشرعية الدستورية.
خامسا: إن الفصل 47 باعتباره فصلا يخاطب جلالة الملك وهو يقوم بممارسة أحد وظائفه الدستورية والتي تكمن في سلطة تعيين رئيس الحكومة مما يمنح له الحق وهو يمارس هذه الوظيفة في تفسيره عمليا وبالشكل الذي يرتئي فيه ذلك الانسجام الدستوري، وهذا التفسير يبقى محفوفا بعدة عناصر أخرى أهمها:
أ) أنه ليس هناك تفسير موحد ومنفرد لهذا الفصل الدستوري، بل يحتمل « خيارات متعددة »، علما أن هذه الخيارات تطرح إشكالية مصدرها، بين ما هو فقهي، أو ما هو سياسي، أم واقعي، مما يوحي بمدى مطاطية دلالاته وتداخل وظيفته.
ب) إن أي مراجعة للفصل 47 من الدستور لا يجب أن تثم إلا وفق أحكام الاختيار الديمقراطي للأمة كما ينص على ذلك الفصل 175 من الدستور، الذي يعتبر من المبادئ الفوق دستورية لعدم القدرة التشريعية على تعديله، علما أن الفصل 47 سار من صميم الخيار الديمقراطي، لذلك فالحزب الأول يبقى له الحق المبدئي في رئاسة الحكومة، وتفسيره لا يجوز أن يمس بالاختيار الديمقراطي الذي هو « حق الأولوية في رئاسة الحكومة »، وبعدها انتقال ذلك الحق نحو الأغلبية، أي بلورة ثقافة التحالفات، أو الحل الثالث وهو التراتبية في النتائج الانتخابية، خاصة وأن الفصل 47 يتكون من جزئين، جزء أول مبدئي يتعلق ب « حق الأولوية »، وجزء ثان مرتبط بالمساطر الخاصة بتفعيل هذا الحق، وهنا تترتب « خيارات متعددة » لم ندرك منها حاليا سوى اختيار واحد هو « تعيين رئيس الحكومة من شخصية ثانية بنفس الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات ».
ج) إن إعمال الفصل 47 لا يقوم فقط على التفسير الحرفي للنص، بل يتعين قراءته من خلال قراءة الدستور كوحدة متكاملة، وكدلالة قانونية، لكون السياسي يسعى إلى تكوين حكومة أشخاص، بينما رئيس الدولة فيسعى إلى « تكوين حكومة قوانين » كما يقول أحد القضاة، وبقدر ما يسعى السياسي إلى تفسير هذا الفصل لمصلحته، فإن رئيس الدولة تحكمه فكرة ما يجب أن يكون، ومن تم إذا كنا قد توافقنا على دستور وزع الاختصاصات ومنح السلط، فهل يجوز لنا بعد ذلك أن نضحي به، تارة بدعوى التأويل الديمقراطي والتهديد بالعودة إلى الانتخابات؟ وتارة أخرى من خلال التضحية بالديمقراطية نفسها حين التراجع عن مضمون النص؟
د) إن الشرعية في تفسير الفصل 47 من الدستور الذي يعود للملك بحكم أنه فصل يخاطب جلالته، يجعلنا نقف بالضرورة عند عدة منطلقات تحكم التركيبة السياسية في المغرب، ذلك أن تفسيرات جلالة الملك للدستور ليست كمثلها من التفسيرات التي تقوم بها باقي المؤسسات كالبرلمان والحكومة فيما يهم ممارسة سلطاتهما واختصاصاتهما، وتفسير هذين الأخيرين يبقى قابلا للطعن وللتجاذب السياسي، بينما تفسيرات وقرارات جلالة الملك فهي تعتبر من أعمال السيادة كمبدأ دستوري لا يمكن الطعن فيها أمام أي جهة مؤسساتية أو دستورية.
لذلك يرى كثيرون أن قيام جلالة الملك عند تعيين السيد سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة باستعمال عبارة « من ضمن عدة خيارات » لها دلالات متعددة، أي أن لجلالته عدة تفسيرات أو خيارات دستورية يمكن إعمالها حسب طبيعة كل أزمة وظروفها ومكوناتها، مما يجعل هؤلاء يقولون بأن الديمقراطية المغربية لا تجد ضمانة وجودها إلا إذا كانت ديمقراطية ناتجة عن نوع من التوافق بين الوثيقة الدستورية والدور الملكي المتعدد الأوجه.
ه) إن الحركية السياسية « تعيين رؤساء الحكومات » التي ينظمها الفصل 47 من الدستور، تمنح لرئيس الدولة حق التأويل الذي قد يعالج أوضاعا سياسية خلقت نتيجة تطورنا السياسي، أو نتجت عن تعدديتنا السياسية، أو ربما حتى عن طبيعية دستورنا الذي يضم في بعض الأحيان توجهات قد تبدو متناقضة، من الملكية الدستورية إلى الملكية البرلمانية، ونهاية بالملكية التيوقراطية، ويبدو كأن جمع ما لا يمكن جمعه سيؤدي بالنتيجة والفعل إلى أوضاع سياسية غير منتظرة، مما يملي علينا إعمال نوع من الذكاء السياسي لإيجاد الحلول، ولتجاوز المطبات السياسية، فهل سنفسر الفصل 47 من خلال الدور التحكيمي لرئيس الدولة ونكتفي؟ أم سنفسره من خلال السلطات التيوقراطية لرئيس الدولة بصفته أمير للمؤمنين؟ أو من خلال جعل ملك البلاد يسود ولا يحكم في إطار ملكية برلمانية مادام تم التنصيص عليها في الفصل الأول من الدستور؟ أو من خلال ملكية دستورية يسود فيها الملك ويحكم؟ أو عبر الاجتهاد لإيجاد حلول آنية، لوضعية سياسية آنية، تحافظ على حسن سير المؤسسات الدستورية والدولة؟
إن الفصل 47 على حالته يعد مكسبا ديمقراطيا، ونصا دستوريا، والاحترام الواجب للدستور يقتضي أن نقبله كليا، كما قبله الاستفتاء، ومن تم علينا أن نتحمل تبعات صدامه بالمتغير السياسي، أما الحديث عن أي تعديل لهذا الفصل الدستوري، فسيفتح الأبواب على تعديلات أخرى، وإلا بأي حق سنغير فصلا دون آخر؟ ولماذا نرضي القوى السياسية ولا نرضي القوى الاجتماعية؟ أو بعض قوى النوع في بعض مطالبها؟ أو حتى لماذا لا نضع دستورا جديدا ومن تم نضرب استقرار المؤسسات، فقط لأننا عجزنا انتخابيا في الانتصار على هذه القوى أو تلك؟
إن للديمقراطية تبعاتها ومخاطرها وتكلفتها، وحتى تنازلاتها، وعلينا أن نكون مستعدين لتحمل عبئ ذلك، لأن إذا كانت الديمقراطية ليست بالمجان، فإن التكلفة السياسية والتنظيمية في غيابها قد تكون باهظة جدا، لكون الشعب المغربي أصبح مهووسا بالديمقراطية والتي لا يمكن بنائها إلا استنادا على تراكمات وإيجاد حلول مثلى لنصوص جامدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.