قال مختار بوبا الزكزاو، أستاذ الأصلانية والدراسات الثقافية بجامعة دارتموث بالولايات المتحدةالأمريكية، إن "الوقت حان لنعيد ترتيب الصورة التي ننظر بها إلى أنفسنا"، مضيفا أنه "في انتظار أن تتفطّن الجامعة المغربية إلى أھمية المناهج الأصلانية وتعمل على تدريسها وتفعيلها، فإن الأكاديميين الأمازيغ خصوصا ملزمون، الآن، بالانفتاح والتصالح مع هذه المعارف، التي سهر أجدادهم على إنتاجها واستعمالها والحفاظ عليها قرونا عديدة". وأوضح بوبا، خلال محاضرة نظمها نادي الدراسات الأمازيغية التابع للشبكة الوطنية من أجل المواطنة أزطا، مساء أمس الثلاثاء، أن "هذا لا يعني أن أكاديميّي إيمازيغن لا صلة لهم بتراثهم، فعلى العكس من ذلك هم تفانوا عقودا في البحث والتنقيب لتقديم معارف الأجداد، غير أنهم كانوا يفضلون دخول هذه البحوث من بوابات برّانية ومناهج غريبة عن الجسد الأمازيغي، الذي يتوفر على مسارات ومناهج خاصة، فما كان ينقص هو النظر بعمق إلى معارف الأمازيغ الأصلية للتعرف على مناهجها وتفعيلها من داخل الجامعة". وأبرز الزكزاو، الذي يعدّ أحد أبرز الباحثين المغاربة المدافعين عن الأصلانية، والذي حاول توظيف مقولات هذا المفهوم للبحث في "تمازيغت"، أن "التصالح مع المناهج الأمازيغية لا يعني التخلي عن كل ما هو أوروبي بالخصوص، بل يعني التفاوض معه وإنتاج مسارات ترافق المعتاد في البحث بناءً على علاقته وانضباطه لفلسفة الأخلاق والوعي الثقافي"، مضيفا: "بعد ذلك يمكننا أن نرى تصالحاً قد ينتج عن إعادة الاعتبار للميتودولوجيا الأمازيغية الرافعة الأولى للهوية والمعرفة". ولفت المتحدث الانتباه في محاضرته، التي حوّلها إلى "ورشة عائلية"، إلى أنه "عادة ما يُنظر إلى مناهج البحث على أنها لا يمكن أن تنتج عن المجتمعات الأصلية، بل يجب استيرادها من أوروبا؛ تماماً كما نستورد أي منتوج صناعي أو تكنولوجي"، مردفاً أن "هذا الاعتراف بعدم قدرة المفكر الأمازيغي على إنتاج مناهج أصلانية لا تناقض الإبستمولوجيا الموازية لها يتسبب في توليد نفس المراجع ونفس المقاييس لتحديد مساحة الموضوعية التي على الباحث الاشتغال داخلها". وتكريساً لدعوته لتحرير المناهج من ربقة التوقيع الكولونيالي القديم، قال الزكزاو إن "الباحث الأمازيغي، بالخصوص، لديه إمكانات متعددة لتحرير مناهجه وتفعيل صيغ ومنهجيات أصلانية متميزة ومجربة، ولكن "ضغط المناهج" لا يوفر له الفرصة للاختيار، رغم أنه في معظم الأحيان يطبق هذه المناهج عندما يكون وسط المجموعة أو القبيلة أو القرية التي ينتمي إليها، مما يخلق ازدواجية غير عادلة يعاني منها الباحث، الذي يغدو 'مهاجراً' في الهوية كلما خرج من مجتمعه وكلما دخل إلى الجامعةP لأن ھذين العالمين لا يتفاعلان". وتابع الزكزاو قائلا: "على الرغم من أن هذا، الباحث هو نفسه أفضل وسيلة لربط ھذين العالمين بحكم إمكانياته العقلية والمهنية والتواصلية لضمان نجاح هذا الربط، فمع الأسف؛ قليلا ما يحدث هذا الاتصال على المستوى المناهجي بالخصوص"، مبرزاً أن "لائحة المنشورات في الدراسات الأمازيغية غنية عن التعريف، وأسماء الباحثين في هذا الحقل لا يحتاجون إلى تعريف، غير أن عقدة المنهج لا تزال كبيرة وحاضرة، وما لم يتمكن الباحث من التغلب عليها فإننا لن نرى مناهج متحررة (Decolonized) في مسالك البحث الأمازيغي في قريب الآجال أو متوسطها". وأوضح أستاذ الأصلانية بالولايات المتحدةالأمريكية أن "ما يلاحظ الآن ھو ظهور بوادر أزمة في التطبيق والتحليل والتوصيل، الذي يعتمد أساسا على ترجمة مبادئ ومفاهيم خاصة بمناهج بحثية لا تنطبق على الظواهر المحلية"، مشيرا إلى أن "تطبيق هذه المناهج كان في بعض الأحيان قسريا، لا يراعي الفرضيات الثقافية والهوياتية المغربية، فأصبح الاتكاء على المناهج الوضعية يشكل تباعدا جليا عن إمكانية سبر هذه العوالم والبحث فيها". وأردف الزكزاو قائلاً: "رغم أن الباحثين كثيرا ما يتكلمون اللغات المحلية، وقد تكون هذه القرى والواحات هي فضاء المنشأ، فإن هذه المناهج تجعلهم (أوروبيين جددا)"، مضيفاً أنهم "يعون الهوة التي تحفرها مناھج التعليم ومناهج البحث بينهم وبين أهاليهم، وكثيرا ما تسيطر الغيرية (Otherness) على هذه العلاقات، خاصة من وجهة نظر الأعيان والكبار، الذين يعتبر الكثيرون منهم أن المدرسة لا تدرس المعارف الأصلانية المحلية، مما يربك العلاقة بين المتعلمين ومحيطهم". وأبرز الخبير أن "يذا الوضع يؤثر بشكل سلبي على مستقبل المثقف الأمازيغي بالخصوص، ويتطلب منه جهداً كبيرا لاستعادة المعارف الأصلانية التي لا أثر لها في المناھج والبرامج التعليمية"، قبل أن يضيف: "للخروج من هذه الأزمة عمل أكاديميون أصلانيون في دول أخرى على دراسة إمكانيات فك الارتباط بمناهج البحث الغربية، وإعادة تعلم مناهج أصلانية محلية يكون فيها المركز هو المجتمعات التي يتناولها البحث". وأوضح بوبا أنه "للوصول إلى هذه المرحلة لا بد للباحث الأمازيغي أن يخرج من دائرة المناهج الغربية كما خرج بنجاح من سجالات سياسية وإيديولوجية كانت لا تعنيه"، لافتا الانتباه إلى أن "هذه مرحلة أخرى من مراحل التحرر، وقد تتطلب جهدا كبيرا لفهم إمكانياتها وتحديد مقدراتها لإخراج البحث الأكاديمي الأصلاني الأمازيغي إلى فضاء رحب، يقوم فيه الباحث باحترام الأجداد والجدات". ونبه الزكزاو إلى أنه "لتنزيل هذه المسارات النظرية وتدبير تداولية صحيحة لها وجب الاعتراف أولا بأن الجامعة الأوروبية احتكرت أساليب البحث، ولتفعيل مناهج البحث الأمازيغية لا بد من الاعتراف بوجوديا والخروج من حيز الانغلاق، وتحرير هذه المناهج من هيمنة الوضعية والوضعية الجديدة، بل تحرير هذه الأخيرة من الطوق الذي وضعته لنفسها". وزاد المتحدث أن "البحث الأكاديمي في صيغه المنهجية ليس وليد اللقاء بين أوروبا وبلاد الأمازيغ، بل هو أقدم من ذلك؛ غير أنه ظل خارج أسوار الجامعة؛ وبالتالي فقد اسمه"، مبرزاً أن "المناطق الصحراوية الجنوبية الشرقية بالمغرب عرفت فترات زخم كبير في نهاية القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وهو زخم معرفي كبير أنتجت خلاله معارف أصلانية خاصة بالرحل ونمط حياتھم وطرق فهمهم وتفاعلهم مع الطبيعة والأرض". وسجل الزكزاو أن "هذه المعارف لا تزال حية ومرتبطة في حيويتها باللغة المتداولة يوميا، وكذا بالعادات وأنساق التفكير والتدبير اليومي منها والفلسفي"، مضيفا: "عندما يصل وقت الرحيل، وقبل اتخاذ أي قرار، يتم إرسال بعثة يحدد عملها في إيجاد مكان مناسب فيه كفاية من الماء والكلأ، فتنطلق البعثة على أمل أن تجيب عن سؤال واحد: ما هي المنطقة الأمثل التي يمكن اقتراحها على القبيلة، والتي تستوفي شروط الإقامة والعيش. وهذه مسؤولية كبيرة تتعلق بحياة القبيلة وأمنها المائي والغذائي".