في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا الرقمية رفيقا ملازما للإنسان، لم يعد حضور الشاشات مقتصرا على الترفيه أو التواصل، بل صار عنصرا مركزيا في تفاصيل الحياة اليومية، من العمل والتعليم إلى الخدمات البنكية والإدارية. غير أن هذا الحضور المكثف أفرز ظاهرة جديدة تعرف ب"التوتر الرقمي"، وهو شعور متزايد بالقلق والإنهاك النفسي نتيجة الارتباط المستمر بالعالم الافتراضي، حيث يتعذر على الفرد الانفصال عن إشعاراته ورسائله وكأنها باتت امتدادا لذاته. الأبحاث الأخيرة حذرت من أن قضاء ساعات طويلة أمام الشاشات يزيد من معدلات القلق والاكتئاب ويضعف جودة النوم، كما أن الكثيرين يشعرون بالذنب أو النقص حين يحاولون الانفصال عن هواتفهم أو أجهزتهم. أكد فيصل الطهاري، ، أخصائي نفسي كلينيكي ومعالج نفساني، أن الهاتف الذكي لم يعد مجرد وسيلة اتصال، بل أصبح أداة أساسية لتسيير الحياة اليومية، وأوضح أن التطبيقات الرقمية تسهل العمليات البنكية، دفع الفواتير، حجز الفنادق، تذاكر القطار والطائرة، بالإضافة إلى متابعة المستحقات الجامعية أو التأمينية، ما يجعل الهاتف جزءا لا يتجزأ من الروتين اليومي ليس فقط في المغرب بل على المستوى العالمي. أوضح الطهاري أن الهاتف الذكي أصبح أيضا وسيلة للترفيه وقضاء الوقت، من خلال الألعاب الرقمية، التي يستخدمها الشباب والبالغون في الانتظار أو أثناء تنقلاتهم. وأشار إلى أن الهاتف أصبح اليوم لا غنى عنه، بل إن البعض قد ينسى محفظته، لكنه نادرا ما ينسى هاتفه لما توفره التطبيقات من خدمات دقيقة وربط دائم بالمكان والزمان. لكن الطهاري نبه إلى أن الاستخدام المكثف للتطبيقات والشاشات يؤدي إلى ما يعرف بالإدمان الرقمي، الذي يعد من الإدمانات السلوكية الحديثة. وأوضح أن بعض الأشخاص يقضون أكثر من 12 ساعة يوميا أمام الهاتف ما يمثل نصف يومهم، وهو ما يترتب عليه أضرار جسدية، مثل مشاكل الرقبة والعينين، وضعف البصر نتيجة الأشعة الزرقاء، إلى جانب تأثيرات على الدماغ مشابهة لتأثير المخدرات حيث يصبح الشخص في حاجة مستمرة للتفاعل مع التطبيقات بشكل شبه لا إرادي. وأشار الطهاري إلى أن الإفراط في استخدام الهاتف يؤثر على الجانب الاجتماعي والنفسي، حيث يؤدي إلى انسحاب الفرد من العلاقات الاجتماعية، وزيادة القلق الاجتماعي والرهاب إضافة إلى ظهور أعراض وسواسية وقهرية. وأكد أن الحل يكمن في تنظيم الاستهلاك من خلال تخصيص أوقات محددة للنشاطات اليومية، مثل الدراسة، الرياضة، القراءة، الطعام، والنوم. وأوضح أن النوم الكافي يضمن نموا سليما للأطفال وينصح بالالتزام من 6 إلى 8 ساعات للبالغين، ومن 7 إلى 10 ساعات للأطفال. ختم الطهاري بالتأكيد على أن الرهان الحقيقي للأهل اليوم هو تربية الأبناء على احترام مسافة أمام الشاشة، واستعمال التطبيقات بشكل عقلاني وراشد، بحيث يستفيدون من التكنولوجيا دون أن تضر بأجسادهم أو عقولهم، ويصبح الهاتف أداة مساعدة لا مصدر إدمان. وفي سياق متصل، عمقت أحدث الدراسات العالمية هذا التشخيص، فقد أظهرت دراسة نشرت في BMC Medicine سنة 2025 أن تقليص وقت الشاشة بشكل مدروس أدى إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات الصحة النفسية لدى الشباب، بينما أكدت دراسة أخرى في BMC Nursing أن الاستخدام المفرط للتطبيقات الرقمية يخلق "عبئا معرفيا" يضاعف الشعور بالضغط النفسي، كما ربطت أبحاث حديثة بين الإفراط في استعمال الإنترنت ومظاهر "الاحتراق الرقمي"، بما في ذلك الأرق، ضعف التركيز، والانسحاب الاجتماعي. وإلى جانب لغة الأرقام، تتجسد الظاهرة في قصص شخصية مؤثرة. ف"ليلى، موظفة، لا تنفصل عن بريدها الإلكتروني حتى في ساعات متأخرة من الليل، تقول إنها تستيقظ فزعة عند سماع أي إشعار وتشعر بأنها مجبرة على الرد الفوري، ما جعلها تعاني من أرق مزمن وتراجع ملحوظ في أدائها المهني. أما سامي، طالب جامعي بالرباط، فقد تحول شغفه بالألعاب الإلكترونية ومواقع التواصل إلى إدمان حقيقي، إذ يقضي أكثر من عشر ساعات يوميا أمام الشاشة ما تسبب له في مشاكل بصرية وآلام في الرقبة، إلى جانب انطوائه وتراجع نتائجه الدراسية. وتضيف هند، أم لطفلين من الدارالبيضاء، أن أبناءها يقضون معظم وقتهم أمام الأجهزة اللوحية، ما جعلهم أكثر عصبية وأقل تواصلا مع العائلة لتعلق بحسرة: "أشعر أن التكنولوجيا سرقت طفولتهم، لكنني عاجزة عن إبعادهم عنها بشكل كامل"*. هذه الشهادات تسلط الضوء على الأبعاد الإنسانية للتوتر الرقمي، الذي لم يعد قضية فردية، بل ظاهرة اجتماعية متنامية تهدد التوازن النفسي والجسدي للأفراد. وهنا يشدد الخبراء على ضرورة ترشيد الاستعمال الرقمي من خلال تخصيص أوقات للأنشطة البديلة مثل الرياضة والقراءة والتفاعل الأسري، وضمان ساعات كافية من النوم، خصوصًا لدى الأطفال، حتى لا يتحول العالم الافتراضي من أداة للتيسير إلى مصدر للاحتراق النفسي والعزلة.