في زحمة التهليل الذي عمّ بعض الأوساط الإعلامية عقب المباراتين الوديتين اللتين احتضنهما المركز الرياضي بفاس بين المنتخب الوطني المغربي ونظيريه التونسي والبنيني، برز مجددًا صوت المفكر المغربي المهدي المنجرة كنداء يقظ يعيد ترتيب الأولويات ويقلب الطاولة على من جعل من الكرة المستديرة معبود الجماهير ومصدرًا زائفًا للكرامة الوطنية. كانت رسائل المنجرة واضحة وصريحة، لكنها -كعادتها– مؤجلة التفعيل في بيئة تطرب للهتاف وتنفُر من التفكير. فالكرة في رأيه ليست أكثر من أداة للتمويه وصناعة الوهم، في مجتمعات لم تحسم بعد موقعها من أسئلة التنمية، ولا تزال تصارع أبجديات الدولة الحديثة: تعليمًا، صحة، حريات، وعدالة اجتماعية. من هذا المنطلق، تصبح المقابلتان الوديتان مناسبة ملائمة لتحليل البنية الثقافية والسياسية التي تحيط بالحدث الرياضي، لا كمجرد مباراة على المستطيل الأخضر، بل كعلامة ضمن نسيج أوسع من الرموز والإشارات التي تُنتج وتُستهلك في زمن الأزمة. المشهد لم يكن بريئًا. جمهور غفير، بث إعلامي مكثف، فرح هستيري بانتصارات لا تترتب عنها أية تبعات في التصنيفات الدولية أو الألقاب القارية. فما الذي نحتفي به إذن؟ أهي النتيجة الرقمية، أم مجرد الشعور العابر بالنشوة الجمعية؟ وأي مغزى لهذا الاحتفاء حين يتزامن مع تراجع جودة التعليم العمومي، واكتظاظ المستشفيات، وتراكم ديون الدولة، وارتفاع نسب البطالة في صفوف الشباب؟ تلك هي الأسئلة التي طرحها المنجرة من قبل، وما تزال تحتفظ براهنية مخيفة. التحليل النقدي الذي يمكن أن نستند إليه هنا لا يتوقف عند نفي القيمة التنموية للكرة فحسب، بل يتعداها إلى تفكيك البنية الإيديولوجية التي تجعل من الرياضة بديلا عن السياسة، ومن الانتصار الكروي بديلا عن النصر الحضاري. فالمقاربة النقدية تكشف كيف تُستثمر الرياضة في إنتاج "رضى مزيف" لدى الجماهير، عبر خلق لحظة من التوحد الجماعي الهوسي تُلهي الناس عن الصراعات الاجتماعية الحقيقية. هذا ما سماه الفيلسوف الفرنسي غي ديبور ب"مجتمع الفرجة"، حيث تُستبدل الحياة الواقعية بسيل من الصور والاحتفالات الرمزية، ويغدو الفوز في مباراة كرة قدم تعويضًا جماعيًا عن الإحساس بالفشل العام في قطاعات مصيرية. إن مباراة كرة القدم بين المغرب وتونس – بكل ما رافقها من تمجيد وطني مفرط – لا يمكن فصلها عن هذا السياق. فمن العبث أن يُقدّم الفوز الودي كمؤشر على التقدم أو كمصدر للفخر القومي، في وقت تُعمق فيه السياسات العمومية الفوارق الاجتماعية وتُجهز على ما تبقى من مكتسبات الحركة الوطنية. والحق أن المنجرة لم يكن ضد الرياضة، بل ضد تضخيمها وتقديسها في بيئات تُدار بمنطق التبعية والولاء، لا بمنطق الكفاءة والمساءلة. كان يرى أن الشعوب التي تقدّس الكرة غالبًا ما تكون هي ذاتها التي تُهمل العقل والعلم والعمل. ولعل المشهد الإعلامي المرافق للمقابلتين خير دليل على ما ذهب إليه الرجل. فقد غابت التحليلات التقنية الرصينة، وحل محلها خطاب شعبوي يُغدق المديح على اللاعبين ويُطلق أوصاف البطولة والعبقرية بسخاء فج. الإعلام الذي يفترض فيه أن يمارس دور المراقب والمحلل، تحوّل إلى أبواق للتهليل، وبهذا تمّت خيانة واحدة من أعز وظائفه: مساءلة المعنى والواقع. هكذا تُنتج الكرة الودّية معنى وطنيًا زائفًا، يُستهلك بسرعة الضوء ويُنسى بعد حين، دون أن يترك وراءه سوى أصداء ضجيج فارغ، وذاكرة مشوشة على الممكنات الفعلية للنهوض الجماعي. النقد الذي يوجهه المنجرة – والذي ينبغي استحضاره اليوم – لا يوجه للكرة كرياضة بل كظاهرة اجتماعية تُستخدم للهروب من مواجهة الذات. فحين تتحول نتائج ودّية إلى مناسبة لمدح الذات وطمس التناقضات الاجتماعية والسياسية، فنحن لا نكون أمام رياضة بل أمام طقس تعويضي، نلجأ إليه حين تعجز المؤسسات عن إنتاج الأمل، وحين يتآكل المعنى في العمل والمدرسة والشارع والبيت. من هنا يصبح تحليل مباريات المنتخب الوطني من داخل منطق التحليل الثقافي والسياسي ضرورة، لا ترفًا فكريًا. فكرة "الكرة لا شيء في الأصل" التي يرددها المنجرة تُفهم فقط حين نربطها بنقده العميق لبنية التخلف. في مجتمع يفتقد إلى سياسات ثقافية تحررية، وتربية نقدية، ومؤسسات تمثيلية حقيقية، تُصبح الكرة وسيلة للترويض أكثر من كونها رياضة للتربية والتكوين. وهذا ما يجعل الفرح المبالغ فيه عقب مقابلات لا أثر تنموي لها، شكلاً من أشكال فقدان البوصلة، وعودة إلى زمن دائري، لا تعرف فيه المجتمعات كيف تخرج من التكرار الممل للفشل ذاته، وإن غلفته بمساحيق النصر الكاذب. خلاصة القول إن استحضار المهدي المنجرة في هذا السياق لا يُعد ترفًا ثقافيًا، بل هو محاولة لاستعادة البعد العقلاني في فهم القضايا التي تشغل الرأي العام. فتقديس الكرة هو وجه من وجوه العطالة الثقافية، حين تُستبدل أسئلة البناء بأسئلة الترفيه، وحين يتوقف المشروع الوطني عند حدود مرمى المستطيل الأخضر. لقد آن الأوان أن نعترف بأن لا بطولة حقيقية بدون بناء المؤسسات، ولا فخر حقيقي بدون علم ومعرفة وكرامة مواطِنية. أما كرة القدم، فيجب أن تعود إلى حجمها الطبيعي: رياضة ممتعة، لا أكثر.