في زمنٍ تتسابق فيه الأمم إلى ترسيخ هويّاتها الثقافية واللغوية، تبرز الحاجة الملحّة في المغرب إلى العمل الجاد والطموح من أجل تطوير اللغة الأمازيغية، خصوصًا من خلال تعزيز حضورها المكتوب بحرف "تيفيناغ" الذي اختارته الدولة المغربية لكتابتها. فعلى الرغم من الاعتراف الرسمي بهذه اللغة، ورغم ما تحقق من خطوات على مستوى الدستور والتعليم، فإن الأمازيغية لا تزال تعاني من هشاشة واضحة في البنية الثقافية والمعرفية المكتوبة، وهو ما يهدد قدرتها على البقاء كلغة حية قابلة للنمو، لا فقط بوصفها تراثًا عاطفيًا، بل كلغة مستقبل قابلة للتطور والمنافسة. إن اللغة لا تعيش في الأغاني واللافتات والجداريات وحدها، بل تعيش وتزدهر حين تُنتج بها المعرفة. تعيش في الكتب، في المناهج، في البحوث، في المقالات، في العلوم الدقيقة والإنسانية، في القانون، في التربية، في الفلسفة، في أدب الأطفال، وفي الأدب الأكاديمي. اللغة التي لا تُنتج بها المعرفة محكوم عليها بالبقاء في الهامش، تُستخدم رمزيًا وتُستحضر عاطفيًا، ولكنها لا تكون جزءًا من الحياة اليومية الحقيقية ولا من البناء الحضاري. ولهذا فإن تطوير الأمازيغية لا يحتاج فقط إلى نضال هوياتي أو شعارات ترفع في المناسبات، بل إلى مشروع معرفي طويل يجعلها مصدرا للعلم والإنتاج الفكري. إن جزءًا كبيرًا من الجهود المبذولة اليوم في الدفاع عن الأمازيغية يذهب في اتجاه تكرار الخطاب التاريخي نفسه، والمبالغة في اجترار الماضي، وتحميل التاريخ كامل المسؤولية عن الواقع اللغوي الراهن. لا شك أن للسياسات التاريخية دورًا كبيرًا في تهميش الأمازيغية، لكن البقاء في جلد الذات أو في لوم التاريخ إلى ما لا نهاية لن يغيّر الواقع شيئًا. التاريخ لا يتغير، والماضي لا يمكن إصلاحه، لكن المستقبل لا يزال في متناول اليد. بدلًا من البكاء على الأطلال، آن الأوان ليتحول الحماس الهوياتي إلى فعل معرفي، وإلى مجهود جماعي لبناء محتوى علمي مكتوب بالأمازيغية. وإذا كان لا بد من الاهتمام بالتاريخ، فالأجدر أن يُوجَّه هذا الاهتمام نحو دراسة تاريخ اللغة الأمازيغية نفسها، وأصولها، وتطور بنياتها، وانتقالها عبر العصور، كما يفعل باحثون جادّون من أمثال الدكتور عبد الله الحلوي وآخرين. فهذا النوع من البحث لا يكتفي بإثارة العاطفة، بل يبني معرفة لغوية وتاريخية رصينة، تُسهم في إغناء الوعي بالذات وتدعم جهود تطوير اللغة على أسس علمية. وبدلًا من تضييع الوقت في اجترار التاريخ أو الانشغال بالمظلومية اللغوية، ينبغي تحويل هذا الوعي الهوياتي إلى مطالب ملموسة على أرض الواقع. أولى هذه المطالب هي الضغط من أجل التسريع بتنزيل وتفعيل القانون التنظيمي المتعلق بالأمازيغية، الذي ظل حبيس الأدراج رغم مرور سنوات على صدوره. كما ينبغي النضال من أجل تعميم تدريس اللغة الأمازيغية في جميع مستويات التعليم، بشكل فعلي وجاد، لا شكلي ورمزي. فبدون تعليم منظم وشامل، لن تنمو قاعدة المتحدثين بها، ولن يكون هناك جيل قادر على الإنتاج المعرفي بهذه اللغة. ويجب الوعي بأن تكوين جيل من المغاربة قادر على قراءة وفهم أي إنتاج معرفي مكتوب بالأمازيغية لن يحصل غدا أو بعد غد، بل يحتاج إلى بضعة عقود بعد تعميم اللغة الأمازيغية في كل الأسلاك المدرسية. يمكن تفهم حماسة بعض النشطاء الأمازيغ الذين يعتقدون أن الأمازيغية، بصيغتها الحالية، جاهزة لأن تكون لغة تدريس في التعليم الثانوي أو حتى العالي. هذه قفزة غير واقعية وخطيرة في آن. تطوير اللغة عملية طويلة الأمد تتطلب عقودًا، بل حتى قرونًا، من التراكم المعرفي، ومن الترجمة والتأليف والتطوير المنهجي للمصطلحات والقواعد. لا يمكن أن تكون اللغة أداة تعليم في الجامعات إن لم تكن قادرة على التعبير عن المفاهيم العلمية والفلسفية والقانونية المعقدة. وهنا لا تكفي النوايا الطيبة، ولا الحماسة، بل نحتاج إلى عمل مؤسساتي منظم ومتواصل، وإلى جيش من الباحثين والمترجمين والكتّاب الذين يضعون اللبنات المعرفية التي تحتاجها الأمازيغية لتنتقل من كونها لغة ثقافة شعبية إلى لغة معرفة أكاديمية. إن الأمر لا يتعلق فقط بإنقاذ اللغة من الانقراض أو الاندثار، بل بجعلها جذابة أيضًا لغير الناطقين بها. فلو تم إنتاج محتوى علمي وفكري وأدبي رصين بالأمازيغية، فقد يثير ذلك اهتمام الباحثين والطلاب من خارج المنطقة، وسنرى يومًا من يدرسون الأمازيغية في الجامعات الأجنبية كما تُدرس اللغات الأخرى. لكن ذلك لن يحدث بالشعارات، بل بالكتب. المعرفة المكتوبة وحدها هي التي تمنح اللغة هيبتها ووزنها وتفتح لها أبواب العالم. إن مسؤولية الحفاظ على الأمازيغية ليست مسؤولية الدولة وحدها، ولا مسؤولية النشطاء الثقافيين فقط، بل مسؤولية جماعية تتطلب رؤية طويلة النفس، تتجاوز العاطفة، وتنتقل إلى الممارسة الفعلية للإنتاج المعرفي الجاد. حان الوقت لأن نسأل أنفسنا: كم كتابًا علميًا أُنتج بالأمازيغية؟ كم قاموسًا دقيقًا صدر؟ كم مجلة علمية بالأمازيغية نُشرت؟ الجواب عن هذه الأسئلة هو الذي سيحدد مستقبل هذه اللغة، لا الشعارات ولا القصائد. ختامًا، إذا أردنا للأمازيغية أن تكون لغة يحترمها الآخرون ويتعلمونها، فلا يكفي أن نردد أنها "لغة عريقة". علينا أن نثبت ذلك بالعمل لا بالشعارات. فاللغة التي لا تُكتب بها المعرفة، لا تُقرأ... وإن لم تُقرأ، فلن تبقى... وإن بقيت فستبقى لغة شفوية في أحسن الأحوال.