في الآونة الأخيرة، تم طرح دعوة من إحدى الهيئات المغربية لعلم الاجتماع لمقاطعة السوسيولوجيا الإسرائيلية ومنع مشاركتها في المؤتمر الدولي للسوسيولوجيا المزمع تنظيمه في المغرب. وكباحث مغربي ينتمي إلى أسرة السوسيولوجيا أجدني معنيا بالإدلاء بدلوي في هذه القضية. لا شك أن هذه الدعوة تأتي في سياق موقف المغرب والمغاربة الثابت تجاه القضية الفلسطينية، الموقف الرافض للحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين واحتلال أراضيهم. وهو موقف مبدئي لا لبس فيه، ومع ذلك نحن بحاجة إلى التوقف عند بعض النقاط المهمة التي تتعلق بالجانب الأكاديمي والفكري لهذه الدعوة متسائلين: هل من الحكمة فعلا أن نغلق الباب أمام السوسيولوجيا الإسرائيلية؟ وهل المقاطعة هي الطريقة المثلى للتعبير عن مواقفنا؟ في البداية، من المهم أن نؤكد أن السوسيولوجيا ليست مجرد أداة لتبرير أو الدفاع عن أنظمة سياسية أو مواقف دولية، بل هي علم اجتماعي يهدف إلى دراسة وتحليل التفاعلات الاجتماعية والظواهر الثقافية داخل المجتمعات. فالسوسيولوجيا الإسرائيلية، مثل أي سوسيولوجيا أخرى، ليست محكومة فقط بالأجندات السياسية، بل تقدم أدوات لفهم صراعات داخل المجتمع نفسه، والتحديات الاجتماعية والثقافية التي يواجهها. على سبيل المثال، نجد أن الكاتب الإسرائيلي يهودا شنهاف في كتابه "اليهود العرب" يعيد تسليط الضوء على التهميش الذي تعرض له اليهود الشرقيون داخل إسرائيل من قبل المؤسسة الصهيونية. كما أن الكتاب يعارض فكرة أن المشروع الصهيوني كان حركة تحرر لليهود، بل يرى أنه كان مشروعا استعماريا قام باستغلال الأقليات، بما في ذلك اليهود الشرقيين الذين جلبوا إلى فلسطين وأُجبروا على التخلي عن هويتهم الثقافية العربية. من خلال هذا الكتاب، لا يقتصر شنهاف على تبرير أو الدفاع عن السياسات الإسرائيلية، بل يقدم نقدا داخليا للمجتمع الإسرائيلي ذاته، متناولا قضية الهوية والتعدد الثقافي داخل الدولة. هذا النوع من النقد العلمي لا يعكس فقط التنوع الداخلي في إسرائيل، بل يساهم أيضا في فتح النقاش حول قضايا هامة تتعلق بالتمييز والعدالة الاجتماعية. علاقة بدعوة المقاطعة، فهذا الكتاب يعكس رؤية نقدية للمجتمع الإسرائيلي، قد نشر من قبل عالم اجتماع إسرائيلي، فهل يجب علينا أن نرفضه لمجرد أنه صادر من شخص ينتمي إلى إسرائيل؟ إن المقاطعة، في هذه الحالة، تعني إغلاق الحوار مع أفكار ونظريات قد تكون مفيدة لفهم أعمق لقضايا اجتماعية هامة، ليس فقط في إسرائيل، بل في العالم العربي وفي مجتمعنا المحلي أيضا. من هنا، تطرح المقاطعة نفسها كأداة قد تبدو ظاهريا فعالة للضغط أو التعبير عن الرفض، لكنها في الحقيقة قد تؤدي إلى نتائج عكسية. قد نقاطع السوسيولوجيا الإسرائيلية اليوم، ولكن ماذا عن دول أخرى تعادي المغرب ووحدته الترابية وهي أم القضايا في المغرب؟ هل سنطبق نفس المعيار على الجميع؟ طبعا لا يمكننا ذلك، وإن فعلنا فإغلاق جامعاتنا أفضل وأسلم لنا. لهذا نحن بحاجة إلى فتح الأفق الفكري على مصراعيه. يمكننا أن نكون نقديين ونرفض بعض السياسات أو المواقف، لكن هذا لا يعني أننا نرفض الحوار مع المفكرين من تلك الدول. إن إغلاق الأبواب أمام السوسيولوجيا الإسرائيلية يعني أننا نغلق أيضا بابا هاما للنقد الفكري الأكاديمي. فبدلا من المقاطعة، يمكننا أن نستفيد من الحوار والنقد البناء. فالعلم لا يمكنه أن يتطور في بيئة مغلقة، بل في بيئة تتبادل فيها الأفكار وتنقد بعضها البعض. النقاش الأكاديمي هو الذي يساعدنا في تحديد الأفكار الجيدة من السيئة، والتوصل إلى حلول قابلة للتطبيق. في النهاية، لا يمكننا أن نغلق الباب على العلم والفكر لمجرد أننا نختلف سياسيا مع بعض الأطراف. المقاطعة قد تكون وسيلة سريعة للتعبير عن الرفض، لكن الأفق الأكاديمي يجب أن يظل مفتوحا للتفاعل مع جميع الأفكار. نحن بحاجة إلى نقد علمي بدلا من التوقف عند الحدود السياسية. النقاش الأكاديمي وحده يمكن أن يساعدنا في أن نكون أكثر موضوعية ووعيا بما يحدث في العالم من حولنا.