في زخم الأحداث التي شهدتها بلادنا أخيرا، تصدرت قضية الناشطة التي نشرت صورة تتضمن إساءة صريحة للذات الإلهية وتدوينة تستهين بالدين الإسلامي، عناوين النقاش العمومي، وأثارت جدلا واسعا بين مؤيدين يطالبون بتطبيق القانون لحماية المقدسات، ومعارضين يرفعون راية حرية التعبير. هذه الواقعة، التي دفعت النيابة العامة بالرباط إلى فتح تحقيق وجعلت الجهات الأمنية تتدخل وتضع المعنية تحت الحراسة النظرية، تستحق الوقوف عندها بعين فاحصة وبمنظار متوازن يدرك حساسية الموضوع وأبعاده القانونية والاجتماعية والنفسية. لا يمكن الحديث عن حرية التعبير بمعزل عن المسؤولية الاجتماعية والقانونية التي تفرضها على كل فرد في مجتمع يحترم نفسه وقيمه. ففي الدول التي تنتصر للحق والعدل، هناك خطوط حمراء واضحة لا يجوز تجاوزها، ومن بينها احترام الأديان والمقدسات، لأنها تشكل لبّ الهوية الثقافية والروحية للشعوب، وركيزة تماسكها الاجتماعي. فالدين في المغرب ليس مجرد معتقد شخصي، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي والتاريخي والثقافي، وأي انتهاك له لا يقتصر على إيذاء مشاعر فردية، بل يمس عمق الروح الوطنية ويهدد الاستقرار المجتمعي. من جهة أخرى، يستحيل النظر إلى هذه القضية بمنظار أحادي، فلا يمكن تجاهل أن هناك فئة من الأشخاص، خاصة من اللادينيين أو الملحدين، قد يكونون مقتنعين شخصيا بعدم وجود دين أو إله، وهذا حقهم في الحرية الفكرية التي يكفلها الدستور. ولكن هذه القناعة، مهما بلغت من قوة في النفس الفردية، يجب أن تبقى منحصرة في إطار الذات، لا تفرض على الآخرين، ولا تتحول إلى أداة لهدم معتقداتهم أو استفزاز مشاعرهم. فالإنسان المتزن نفسيا لا يحتاج إلى هدم بيوت الآخرين ليؤكد وجوده، بل يعيش أفكاره وقناعاته في احترام تام للآخرين. في هذه الحالة، الهجوم المباشر على الدين والمقدسات، خصوصا بأسلوب استفزازي يحمل رسائل مسيئة واضحة، ليس مجرد تعبير عن رأي أو نقد، بل هو تجاوز للحدود، ومصدر لانقسام قد يهدد السلم الاجتماعي، ويغذي الصراعات والاحتقان بين مكونات المجتمع. إن القانون المغربي الذي تدخل لحماية الدين الإسلامي هو تعبير عن إرادة شعبية ترفض السماح باستباحة رموزها ومعتقداتها، وهذا ما يفسر سرعة تدخل النيابة العامة والجهات الأمنية لوضع حد لهذه التجاوزات. يجب أن ننظر إلى هذه الحادثة أيضا من زاوية أعمق ترتبط بالجانب النفسي والاجتماعي. فعندما يكرس البعض وقتهم للطعن في الدين بأساليب عدائية، فهذا يعكس أحيانا صراعات داخلية ومحاولات مستمرة للبحث عن تبرير لقناعاتهم، وربما اضطرابات في التعامل مع فكرة المعتقد والهوية. في المقابل، يحمل هذا السلوك بعدا استبداديا، إذ أن فرض الأفكار وفرض "اللا إيمان" بقوة من خلال هدم معتقدات الآخرين هو نسخة أخرى من الاستبداد الذي يدّعون محاربته، وهو استبداد يستبدل فيه اللباس ولكنه لا يختلف في جوهره. التوازن في التعامل مع هذه القضايا يتطلب حكمة وإدراكا دقيقا للخطوط الفاصلة بين حرية التعبير التي يحميها القانون، والاحترام الواجب لمعتقدات الغالبية، وبين دور الدولة في الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي وسلامته. تجاوز هذه الحدود لا يخدم لا حرية التعبير ولا التطور الفكري، بل يهدد الأمن والاستقرار، ويفتح أبواب الفتنة والفرقة. في النهاية، فإن وقائع كهذه تستدعي من الجميع وقفة تأمل، وحوارا وطنيا صادقا حول مفهوم الحرية في مجتمع متعدد القناعات، وحول آليات حماية المعتقدات الدينية دون المساس بحرية التفكير، مع الحرص على تعزيز قيم الاحترام المتبادل والتعايش السلمي كأساس لأي مجتمع حضاري. فلا يمكن أن تتحقق الحرية الحقيقة إلا ضمن إطار يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، بما في ذلك حقه في الحفاظ على هويته الروحية والثقافية.