يحفر الزمن عميقا، وهو يملي ثنائية العدالة والإعلام، نصا مكتوبا بكل لغات البشرية، دون تأويل أو إقصاء متعمد لرافعة هذه المبدئية الفلسفية، التي لا تحيد الظروف ولا التراجيديات المتدافعة عن ترسيخها في النسيج الحضاري والثقافي لوجودنا. ولأن تاريخ العدالة والإعلام، عبر قطائع وصيرورات متباعدة، ظل كنظام جزائي تفتيشيً مغلق، تم احتكاره من قبل الدولة كسلطة اتهام مفترضة، فإن ثمة قضايا وإشكاليات جوهرية لازالت تحوم حول انتهاكات العدالة للصحافة والإعلام والعكس صحيح. فبينما اعترفت السلطة عامة بالحقوق الفردية ضمن نسق العدالة بشكل تدريجي، فإن انتقائيات ضمن تشكل الرافد إياه، باتت تجابه تيارات الردة بتحويلها إلى فرن لحرق مخلفات ما ضاع من هوامش الشرعية والقانون، تغييبا قسريا وإبطاءا مقصودا بغرض التعويم والتهجين وإعادة التدوير المرحلي والمتباعد أحيانا. ولطالما عملت الانتقالات الزمنية وتطورات وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وتسارع وامتداد نشر الأخبار، باعتبارها ناقلات للتعبير الحر واللامركزي، على توسيع علامات الكراهية والحقد والنصب واستهداف الحياة الخاصة للناس. الشيء الذي أسهم في تشبيك أرضية للعلاقة بين الإعلام والعدالة، تنحو إلى تبرير القوالب المعولمة الجديدة واستقطاب عوامل التنميط القيمي في المجال العام، وهو ما انعكس بشكل ظاهر على الحياة السياسية والمجتمعية من خلاله، كما أفضى إلى ترسيخ نفوذ العدالة لاعبًا استراتيجيا في العملية الديمقراطية، على الرغم من كونها تدخل لعبة تلعبها قواعد محايثة تتعارض مع قواعدها الأصيلة. هناك اعتبارات تاريخية وثقافية تجعل من العدالة في تحالفها مع وسائل الإعلام منطقة ائتمان متحاورة، لن تحول أساليب عملها المتعارضة أحيانا، دون تحقيق العائد من استرداد المفهوم اليوطوبي للعدالة المنشودة. حتى في رهان الإعلام على درجة من حلم "الاستيلاء على سلطة الاتهام على حساب مؤسسة جزائية تحاول التكيف مع وضع غير مسبوق لها"، بعبارة الباحث الفرنسي في التاريخ وعلوم القضاء (دينيس سالاس Denis Salas). إنه لمن البدهي أن يكون المتخيل الشعبي، منسجما مع مبدإ تفويض العدالة (القضاء) والإعلام لتمثيله، بما هو نظام واع يرمز إلى الحقوق الأساسية المكفولة قانونا ودستورا. ومع أنهما معا، يتمتعان بوشيجة أو خاصية التمتع بإمكانية الوصول إلى مصادر معلومات متعددة، في ظل اتساع نطاق شبكات التواصل الاجتماعي، فإن ما تتوقعه عملية تفكيك الاحتكار الذي يمنح الدولة سلطة الاتهام، قد تحيل في الغالب الأعم إلى ما نسميه "ثقافة الإلغاء"، خصوصا في مستوى حرية التعبير وآلياته، وما تُغذيه الروافع الاحتجاجية المتحولة، التي تعمد إلى تغليب أنانية الفرد وتأليب المتدخلين واستعار آثارهم في ساحة معقدة مُشتتة ومعرضة في أية لحظة للتدمير وتعميم الكذب ونشره. وبإزاء هذا التفكير، لم يكن من الإنصاف تحويل الأنظار عن طرف منسجم مع كل تقاطعات الثنائية المذكورة، إذ يتموقع المواطنون (عموم الشعب)، في صلب رهان العملية تلك، حيث يكون من الضروري، ترميم العلاقة الهشة بين الإعلام/العدالة والمواطنين، حيث يصير الانكشاف الشفاف في الجسر الممتد بين الطاقتين، متاخما لدرجة التشارك والايجاب والحضور المتكامل لقضايا المصير والمشترك. ولعلني أستحضر هنا مقولة للكاتب الكولومبي الشهير خوان غابرييل فاسكيز: "نحن المواطنون، مطالبون بمسؤوليات غير مسبوقة . أهمها وربما أسهلها: أن نُعلِم أنفسنا جيدا. لذا سيكون علينا بحث – ضمن شبكة فوضى من ديماغوجية اليمين وشعبوية اليسار – الموارد الشحيحة من الحقيقة والتقدير والسماحة. في الوقت الراهن، آمل أن نكون عند حسن ظن اللحظة، بما يحقق عدالة منصفة وحلما جائلا في أرض العيش الكريم والهانئ".