تُعدّ قصة أصحاب الفيل في الوعي الإسلامي محطة مركزية، إذ ورد ذكرها في سورة كاملة بالقرآن الكريم، لتقدّم صورة بليغة عن مصير الطغيان حين يتجرأ على المقدس، وتجعل من "عام الفيل" علامة فارقة في الذاكرة الدينية والتاريخية للعرب والمسلمين. ومع أن القصة وردت بإيجاز بالغ في سورة الفيل، إلا أن حضورها في الذاكرة التاريخية ظلّ مستفيضًا، مشحونًا بالتفصيلات في كتب السيرة والتفسير، فقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [سورة الفيل]. وبرغم اتساقها الكامل مع السياق العقدي للقرآن، فإن بعض الأصوات المعاصرة، أكاديمية وإعلامية، عادت لتشكك في أصل الحكاية، وتنسبها إلى الخيال والأسطورة، مستندة إلى قراءات جزئية لنقوش أثرية أو تأويلات لغوية مغرضة. تحت ستار "البحث التاريخي"، طُعن في قصة "عام الفيل" التي تُجمع كتب السيرة، ومنها سيرة ابن هشام، على أنها السنة التي وُلد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانت العرب تؤرّخ بالأحداث الكبرى، وجعلت عام الفيل فاصلاً زمنيًا بارزًا. وقد ذهب المشككون إلى أبعد من ذلك، فزعم بعضهم أن "الأبابيل" ترمز إلى طيور أسطورية أو أوبئة كالجدري، وأن "سِجِّيل" تشير إلى طين متحجّر، وأن "الفيل" لا يرمز إلى حيوان بل إلى آلة حرب، ما جعل القصة في نظرهم أقرب إلى الرمز أو الأسطورة منها إلى الحدث. كما ربط آخرون هذه القصة بحملة الملك الآشوري "سنحاريب" على أورشليم كما ورد في العهد القديم، لمجرد وجود طيور في السماء وهزيمة جيش، وكأن التشابه المجازي كافٍ لإقامة تطابق تاريخي. لكنها مقاربة تفتقر إلى النزاهة العلمية، وتعكس رغبة دفينة في علمنة النص وتفريغه من محتواه الإيماني والغَيبي. إن هذه القراءة، برغم ما تزعم من "نقد علمي"، تتجاهل ابتداءً أن القرآن الكريم لم يُنزّل كتقرير تاريخي، بل كنصٍّ إلهي هادٍ يُقدّم العبرة والمغزى، ويعلي من السنن الربانية في الوجود. فالغاية من القصة تتجاوز إثبات الحدث تفصيليًا، إلى بيان أن الله وحده هو الحافظ للبيت، وأن جبروت الممالك لا يصمد أمام إرادة الله. وقد جاءت سيرة ابن هشام لتكمل ما لم يُفصّله النص، فنقل عن ابن إسحاق أن الملك أبرهة بنى كنيسة "القُلَّيْس" بصنعاء ليصرف العرب عن الكعبة، فلما استمروا في حجهم إلى مكة، قرر غزوها وهدم الكعبة. فأعد جيشًا جرّارًا يتقدمه فيل ضخم، لكن الله ردّ كيده وأهلك جيشه بطير أبابيل تحمل حجارة من سِجِّيل. والمثير أن القرآن لم يذكر اسم أبرهة ولا موقع مكة، بل اكتفى بالإشارة إلى الفعل العدواني ضد البيت الحرام، والجزاء الرباني الذي حلّ بأصحابه، ما يرسّخ فكرة أن الحدث القرآني ليس متوقفًا على الأسماء بل على الدلالة. أما النقش الذي استند إليه بعض المشككين – وهو ما يُعرف ب"نقش مريجان" أو "نقش أبرهة الأول" (RY 506)، المكتشف عام 1951 – فلا علاقة له بالقصة. فقد دُوِّن بلهجة مسندية حميرية في موقع بئر مريجان بتثليث (جنوب السعودية)، ويتحدث عن حملة لأبرهة ضد قبائل معدّ في منطقة "حلبان"، ويؤرخ لسنة 552م، دون أي ذكر لمكة أو الكعبة أو الفيل. وقد دحض هذه القراءة الاستشراقية دراسة سعودية منهجية نُشرت عام 1990، أعدّها الدكتور عبد المنعم عبد الحليم السيد بجامعة الملك عبد العزيز. فقد انطلقت الدراسة من تحقيق ميداني مباشر للنقش، واكتشفت أخطاء فادحة في قراءة المستشرق رايكمانز، أبرزها السقوط في تحديد الأسماء الجغرافية، وتحريف بعض العبارات، مما أدى إلى استنتاج خاطئ مفاده أن النقش يوثّق لحملة أبرهة على مكة. كما اكتشف الباحث نقشًا صغيرًا ملاصقًا للنقش الأصلي، يتضمن اسم قائد ميداني يُدعى "منسي بن ذرانح"، وهو شخصية محلية معروفة في قبائل نجد، مما يثبت أن الحملة التي يوثقها النقش وقعت في وسط الجزيرة، لا في الحجاز. إن النقوش التي يُدوّنها الحكّام أو تُدوَّن بأمرهم، تُصاغ غالبًا لتخليد الانتصارات، وتتجاهل الوقائع التي لا تخدم صورتهم السياسية والدينية. فهل يُعقل أن يُخلّد أبرهة، وهو حاكم مسيحي على رأس حملة استعمارية، هزيمته أمام بيت لا يعترف أصلاً بقدسيته؟ سكون النقش لا ينفي وقوع الهزيمة، بل يؤكّدها من حيث أراد أن يُخفيها. أما المقارنة مع قصة "سنحاريب"، فهي قياس خاطئ، لا من حيث السياق، ولا من حيث اللغة، ولا من حيث المكان. فالقرآن لم يتقاطع مع التوراة في تصويره للحدث، ولم يستخدم مفردات مشتركة، بل انفرد برؤية رمزية روحية، وقدّم نموذجًا يتكرر في التاريخ: كل قوة تتطاول على المقدّس، مصيرها إلى الزوال. والحق أن نص سورة الفيل لا يتماهى مع نصوص التوراة ولا مع أدبيات الأسطورة، بل ينفرد برؤيته وبلاغته وعمقه. وما يثير الأسى أن أصواتًا عربية انساقت وراء هذه التأويلات بلا تمحيص، واستبطنت قراءة استشراقية تهدف إلى نزع القداسة عن النص، وتقديم الحجر على الوحي. هؤلاء لا يرون في القرآن مصدرًا معرفيًا، بل نصًا رمزيًا قابلًا للتفكيك والتأويل، فيسقطونه من منزلته، ويقرؤون التاريخ بعين المستعمر، لا بعين المتديّن الواعي.