تتعدد تعريفات التفكير نظرا لتعدد الباحثين فيه واختلاف اتجاهاتهم، ويكفي أن نستحضر هنا بعضا من هذه التعريفات للاقتراب من ماهية هذا المفهوم وبيان المقصود به تبعا لما يقتضيه الضبط المنهجي؛ فالتفكير عند ماير Mayer هو النشاط الذي يقوم به الدماغ عندما يحاول الفرد حل المشكلات. ويعرّفه دي بونو De Bono بأنه عملية واعية تحدث في العقل وتُخضِع المواقف للمحاكمة العقلانية للوصول إلى نتيجة، وأنه المهارة الفعالة التي تدفع بالذكاء الفطري للعمل، والرؤية الداخلية التي توجَّه نحو الخبرة للقيام بعملية تقصي مدروسة من أجل غرض ما، واستكشاف الخبرة من أجل الوصول إلى الهدف الذي قد يكون اتخاذ قرار أو حل مشكلة. وكيفما كان الحال، فإن "أي نشاط عقلي سواء في حل المشكلة أو اتخاذ قرار أو محاولة فهم لموضوع ما يتضمن تفكيرا. فالتفكير هو ذلك الشيء الذي يحدث في أثناء حل المشكلة، وهو الذي يجعل للحياة معنى. وهو أي التفكير عملية واعية يقوم بها الفرد عن وعي وإدراك، ولكنها لا تستثني اللاوعي؛ أي أن عملية التفكير يمكن أن تتم في اللاوعي أحيانا. ورغم أن التفكير عملية فردية، لكنها لا تتم بمعزل عن البيئة المحيطة؛ أي أن عملية التفكير تتأثر بالسياق الاجتماعي، والسياق الثقافي الذي تتم فيه"(إبراهيم الحارثي، 27:2009). ويقاس النجاح في عملية التفكير بالنجاح في ثلاث عمليات هي: أولا، اكتساب المعرفة (المدخلات)؛ ثانيا، استراتيجيات استخدام المعرفة وحل المشكلات (المخرجات)؛ ثالثا، ما وراء المعرفة واتخاذ القرارات (الضوابط التنفيذية) "(إبراهيم الحارثي، 33:2009). ومن ثم، يشير مصطلح "تعليم التفكير" إلى عملية منهجية تهدف إلى تزويد المتعلمين بالمهارات اللازمة لممارسة مختلف أنواع التفكير؛ مثل التفكير النقدي، والتفكير التحليلي، والتفكير التوليدي، بهدف مساعدتهم في معالجة المعلومات بشكل فعال، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات في مختلف جوانب الحياة. والتفكير بهذا المعنى مهارة مكتسبة يمكن تطويرها بالتدريب والممارسة لتحسين الذكاء وتنمية القدرة على التكيف مع عالم متغير. ومن هذا المنطلق، سأحاول إثارة موضوع تعليم التفكير في المدرسة المغربية من خلال الحديث عن مدى حضوره في بعض أدبيات المشروع الإصلاحي الحالي المتمثل في خارطة الطريق 2022-2026 التي بقي من عمرها سنة واحدة. ويأتي حصر الموضوع في المشروع المشار إليه لسببين اثنين: أولهما، صعوبة التطرق إلى هذا الموضوع في جميع مشاريع إصلاح التعليم منذ مرحلة ما قبل الحماية الفرنسية والإسبانية، مرورا بمرحلة الاستقلال، فمرحلة ما بعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وصولا إلى المرحلة الحالية. ولست أبالغ إذا قلت إن المشترك بين هذه الإصلاحات المتتالية هو الإخفاق في جعل التعليم بالمغرب يفلت من ذيل الترتيب في التصنيفات والتقارير الدولية التي تهتم بهذا المجال على المستوى الدولي، وذلك بناء على مؤشرات دقيقة تشمل جودة المؤسسات التعليمية، وضمان التعليم الأساس، ونسب الالتحاق بالمؤسسات التعليمية في المراحل المختلفة، ومهارات القراءة والرياضيات الأساسية التي يكتسبها التلاميذ، والإنفاق الحكومي على التعليم، والتعاون بين الجامعات والقطاع الصناعي في البحث والتطوير، وغيرها من المؤشرات التي تركز عليها بعض المنظمات مثل اليونسكو ومنظمة الخدمات العالمية للمواطن؛ ثانيهما، من المفترض والمفروض أن تستثمر خارطة الطريق المعتمدة حاليا التراكمات التي حققتها مشاريع إصلاح التعليم السابقة، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، لأنه لا شيء يبدأ من فراغ؛ فالنتائج والمؤشرات الإيجابية ينبغي العمل على تكريسها وتطويرها والرفع من نسبها، أما السلبية منها، فينبغي الحرص على تجاوزها وعدم تكرارها والاستفادة من الأخطاء التي أدت إليها. ومن ثم، فإن الحديث عن موضوع تعليم التفكير في أدبيات خارطة الطريق وما يرتبط بها؛ وأخص بالذكر مشروع مؤسسات الريادة، إنما هو تطرق في الوقت نفسه، وبشكل غير مباشر، لما قبلها. لذلك يسعى هذا المقال إلى الإجابة عن السؤالين التاليين: ما وضع تعليم التفكير في مشروع مؤسسات الريادة؟ ما أهمية تعليم التفكير ومزاياه؟ وضع تعليم التفكير في مشروع مؤسسات الريادة: تبنت الحكومة الحالية خارطة الطريق 2022-2026 تحت شعار "من أجل مدرسة عمومية ذات جودة"، وجعلت لها أهدافا استراتيجية يمكن تلخيصها فيما يلي: تعزيز جودة التعلمات الأساسية من خلال التركيز على إعداد أطر مرجعية للمستويات الدراسية، وتتبع التلاميذ بشكل منهجي ومواكبتهم؛ تكريس التفتح وقيم المواطنة من خلال الرفع من نسب التلاميذ المستفيدين من الأنشطة الموازية في المؤسسات التعليمية وتعزيز الأنشطة الرياضية والثقافية؛ تحقيق إلزامية التعليم وتقليص الهدر المدرسي عبر تعميم التعليم الأولي تدريجيا، وتوفير مسارات تربوية متنوعة، وإعطاء الأولوية لبدائل تجنب التكرار. أما محاور العمل لتحقيق هذه الأهداف، فهي: محور التلميذ، وذلك انطلاقا من الاهتمام بالتعليم الأولي، وتحسين التوجيه المدرسي، وتوفير الدعم الاجتماعي، وتوفير كتب ومقررات دراسية جيدة؛ محور الأستاذ، من خلال التركيز على التكوين الأساس والمستمر، وتحسين ظروف العمل، واعتماد نظام فعال لإدارة المسار المهني؛ محور المؤسسة التعليمية، من خلال تحسين البنيات التحتية، وتوفير بيئة مدرسية محفزة على التعلم والتفتح، وتعزيز الأنشطة الموازية والرياضية. ولقد اعتمدت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة "مشروع مؤسسات الريادة" بالسلكين الابتدائي والثانوي الإعدادي، من أجل تحقيق تحول شامل في أداء المؤسسات التعليمية من خلال الانخراط الطوعي للفرق التربوية العاملة بها وتوفير الظروف المادية والبيداغوجية والوسائل التكنولوجية اللازمة. هذا فضلا عن تحسين مستوى التعلم لدى التلاميذ، من خلال التركيز على تصحيح التعثرات الأساسية في القراءة والحساب، وتفعيل الممارسات الصفية الناجعة، وضمان استفادة التلاميذ من العملية التعليمية التعلمية. غير أن الملاحظ هو غياب أي إشارة إلى تعليم التفكير في مشروع مؤسسات الريادة، في حين تم التركيز على القراءة والحساب (الرياضيات)، كأنني بالوزارة تسعى إلى تحسين بعض المؤشرات التي تعتمد عليها بعض التقارير الدولية في تصنيف الدول على مستوى التعليم، كما أشرنا آنفا. ولا تكفي الرياضيات وحدها لتعليم التفكير، والشيء نفسه يقال عن المنطق. لا شك في أن الرياضيات نظام للتفكير يتميز بدرجة عالية من الفعالية، كما أصبحت أكثر فعالية باختراع الحاسوب، وبفضلها تم القيام بأعمال عظيمة لم تكن لتخطر على بال أحد؛ مثل هبوط الإنسان على القمر، وتسخير الطاقة النووية، غير أن الوصول إلى القمر أيسر من حل مشكلات الفقر في المدن، وجنوح الأحداث وأبسط الاضطرابات. فالأشياء تظل ثابتة في الفضاء، إذ يمكننا أن نترجم الموقف إلى رموز محددة، وعلاقات نتعامل معها بعد ذلك بسلاسة. أما ما يقع على الأرض، فإن معظم المواقف غامضة ومتداخلة ومتحولة القيمة، كما تعتمد على نزوات الإنسان. ومن الندرة بمكان أن نحصل على نصف المعلومات التي نحتاجها لحل المشكلة، ولو بمقدورنا ترجمة كل المواقف إلى رموز محددة وعلاقات، فإن تفكيرنا لن يكون بحاجة إلى غير الرياضيات. إن أي مشكلة تتضمن إدراكا وقيما إنسانية تتضمن على الدوام قدرا كبيرا من المجاهيل، وما لا سبيل لمعرفته. ومن المؤسف أن الواقع يختلف كليا عن المسائل الرياضية المدرسية، التي تتوافر فيها كل المعلومات الضرورية، ويكفي تطبيق العملية الصحيحة لاستخلاص النتائج (دي بونو، ترجمة: عادل عبد الكريم ياسين، 24:1989). وجدير بالذكر أن التعليم في المغرب ينبني على التحصيل المعرفي، وهناك اعتقاد بأن هذا التحصيل يعلم التفكير بشكل تلقائي، والحق إن المعرفة ليست بديلا عن التفكير، كما أنها لن تكون كاملة في معظم المواقف العملية في الحياة. ويتضح هذا على الأقل في كون التعامل مع كثير من المواقف له امتداد في المستقبل، مما يفرض الحاجة إلى التفكير. إن المدارس تعلم مواضيع المعرفة، وتفترض أن مهارات التفكير ستتطور خلال تعاملنا مع المعرفة، لكن إذا لم تكن مهارات التفكير هدفا، فإن الحصيلة الثانوية للمنطلق لن تكون طريقة فاعلة تماما، لأن للمعرفة زخمها الداخلي، مما يجعل من الصعب إعارة الانتباه للمهارات الفكرية بغية تطويرها؛ فمثلا هناك خبراء وأكاديميون متفوقون في مجالاتهم، لكنهم يفتقدون هذا التفوق خارج هذه المجالات. وهذا يوضح الاختلاف بين المعرفة والتفكير (دي بونو، ترجمة: عادل عبد الكريم ياسين، 23:1989). من جانب آخر، إن تركيز مشروع مؤسسات الريادة على تعليم القراءة وتصحيح التعثرات المرتبطة بها قد يسهم في تطوير مهارات مرتبطة بالطلاقة والجدل لدى التلميذ، لأن هناك علاقة بين القراءة وبين الطلاقة من جهة، وبين القراءة وبين الجدل من جهة أخرى. فالطلاقة هي القدرة على القراءة بسلاسة وسرعة ودقة مع فهم النص، إذ عندما يقرأ الشخص بطلاقة يصبح قادرا على فهم الكلمات تلقائيا دون الحاجة إلى التفكير في فك رموزها، مما يسمح له بالتركيز على معنى النص واستيعابه بشكل أعمق. وتبرز هذه العلاقة في بناء المفردات، حيث إن القراءة المنتظمة تعرض الشخص لمجموعة واسعة من الكلمات والمفردات في سياقات مختلفة، مما يثري حصيلته اللغوية ويجعله أكثر قدرة على التعبير عن أفكاره بشكل دقيق وسريع. وتبرز أيضا في تحسين النطق، لأن القراءة بصوت عالٍ تساعد في تقوية مهارات النطق وتحسين إيقاع الكلام، مما يقلل التردد ويزيد الثقة بالنفس عند التحدث. هذا فضلا عن فهم القواعد اللغوية بفضل القراءة المستمرة للنصوص، التي تساعد في استيعاب القواعد النحوية والصرفية، مما يؤدي إلى استخدام اللغة بطريقة صحيحة وسليمة دون عناء. وهناك علاقة قوية ومترابطة بين القراءة وبين الجدل كما سبقت الإشارة، حيث تعتبر القراءة من أهم الأدوات التي تساعد على تطوير مهارات الجدل وتحسينها، وذلك من خلال زيادة الحصيلة المعرفية التي تتيحها القراءة، كما أنها تفتح الأبواب على عوالم جديدة من الأفكار والمعلومات في مختلف المجالات. ويمنح هذا التنوع المعرفي مخزونا من الحقائق والبيانات والأمثلة التي يمكن استخدامها لتدعيم الحجج اللازمة للإقناع. أضف إلى ذلك أن القراءة تساعد في بناء حجج منطقية من خلال التعرف إلى الكيفية التي يبني بها الكُتّاب أفكارهم ويدعمونها بالأدلة. وهذا يساعد في فهم بنية الحجج المنطقية، وكيفية ربط الأفكار، وتجنب المغالطات، كما يساعد أيضا في تحسين مهارات التعبير والإقناع وصياغة الأفكار بشكل واضح ودقيق، واستخدام الكلمات المناسبة لإيصال الرسالة بفاعلية، وهو أمر حيوي في الجدل. غير أن الطلاقة والجدل لا ينميان وحدهما مهارة التفكير؛ فالطلاقة وقوة التعبير أدوات للتفكير، وليس التفكير ذاته. والتفكير المتحرر من الخطأ ليس تفكيرا جيدا بالضرورة. إن التلاميذ المتميزين يستجيبون للرد على فكرة ما ببناء أحكام أولية من قبيل: "إني أحب ذلك" أو "إن ذلك لن يعمل أبدا"، ويلجؤون بعد ذلك إلى التعليل ومهارة المناقشة كي يدعموا أحكامهم الأولية. قد يكون النقاش خاليا من الأخطاء، غير أن التفكير قد يكون مضطربا بسبب احتوائه على معظم تشوهات الإدراك المبنية على النظر في بعض جوانب المواقف أو تجاهل حجم آثارها. وهناك كذلك خلط بين مهارات الحوار وبين التفكير يكمن في قول شخص ما: "إنني أستطيع أن أثبت أنك على خطأ، ومن ثم فإنني المصيب" (دي بونو، ترجمة: عادل عبد الكريم ياسين، 25:1989). والتشوهات الإدراكية المبنية على النظر هي أنماط تفكير غير منطقية ومشوهة تؤثر على فهمنا وتفسيرنا للعالم من حولنا، وتؤدي إلى تكوين أحكام غير دقيقة، حتى عندما تكون المعلومات البصرية في المتناول، ويمكن أن تسبب مشاعر سلبية وسلوكات غير صحية؛ ونذكر من هذه التشوهات: التفكير الانفعالي، والإفراط في التعميم، والشخصنة، والتهويل، والتهوين (موقع "تطمين" على الإنترنيت). من جانب آخر، تركز مؤسسات الريادة على التدريس الصريح باعتباره مجموعة من الاستراتيجيات البيداغوجية التي توظف في تخطيط الدرس وتقديمه بشكل يمنح الدعم اللازم لتعلم ناجح، وذلك انطلاقا من وضوح اللغة المستعملة والهدف المنشود، وتخفيف الحمولة المعرفية. ويعزز هذا التعليم التفاعل النشيط للتلميذ، لأنه يفرض عليه إجابات كثيرة ومتنوعة، تليها تغذية راجعة إيجابية وتصحيحية مناسبة، كما يساعد التلميذ على الاحتفاظ بالمعلومات على المدى البعيد باستعمال استراتيجيات مراجعة موجهة (Gothier et Bissonnette; 2023:10). من الواضح أن أهمية التدريس الصريح تكمن في قدرته على تحسين جودة التعلمات وتعزيز فهم التلاميذ للمفاهيم الأساسية، وذلك من خلال الاعتماد على وضوح المفاهيم والمحتوى التعليمي، والتشجيع على التفاعل بين المدرس والتلاميذ، وتحقيق الأهداف المحددة بدقة ووضوح، وتعزيز الثقة والاستقلالية لدى التلاميذ، ومساعدة التلاميذ المتعثرين على تجاوز تعثراتهم الدراسية، غير أن هذه الطريقة في التدريس لا تساعد في تعليم التفكير من حيث كونه مهارة ذات طابع غير اختزالي. ولئن كان هناك حديث عن حل مشكلة معينة في عملية النمدجة التي تعد إحدى الخطوات المتبعة في التدريس الصريح، فهذا لا يفيد، بأي شكل من الاشكال، أن الأمر متعلق بتعليم التفكير. وللإشارة، فحل المشكلات استراتيجية تدريسية تعتمد على تحفيز التلاميذ على التحليل والتفكير وطرح البدائل أو الفرضيات واختبارها، كما أنها تندرج ضمن المنهج الاستقرائي للتدريس (الموسوعة الحرة). ولعله من الواضح أن هذه الاستراتيجية تعتمد بشكل كبير على التفكير التوليدي باعتباره نوعا من التفكير يتم من خلاله معالجة المعلومات؛ أي فحص المعلومات المتاحة واستيعابها، ثم التوصل لأفكار جديدة، مضاف إليها علاقات وارتباطات أخرى جديدة. إن التوليد بطبيعته يحمل البناء المعرفي على ما هو موجود (القحطاني، 2018: 106). وغني عن البيان أن مهارة التفكير لا يمكن اختزالها في التفكير التوليدي، إذ هناك أنواع أخرى من التفكير نذكر منها: التفكير الناقد، والتفكير العلمي، والتفكير التحليلي، والتفكير التأملي، وهلم جرا. أهمية تعليم التفكير ومزاياه: لا مفر من الفكر والتفكير. ولقد صاح ديكارت ذات يوم: "أنا أفكر، فأنا موجود"، وقال إن العقل أشبه بسفط من التفاح فيه الصالح، وفيه الرديء، وعلينا اختيار الصالح، في إشارة إلى ما بداخله من أفكار. وقال قدماء الإغريق من الفلاسفة الرواقيين إن طريقة تفكير الإنسان إذا كانت سلبية من الممكن أن تكون سبب شقائه، لذلك عليه أن يعيش بمقتضى العقل في وئام مع الطبيعة. إن الحياة ليس من السهل أن تعاش دون تفكير، ومَنْ لا يستخدم تفكيره بشكل صائب سيبقى يدفع فواتير سوء تفكيره في مختلف مناحي الحياة. ثم إن قضايا كثيرة مثل الظلم والمخدرات والمجاعات والحروب وحقوق الإنسان واختلاف الثقافات وغيرها، كلها أسباب ودواعٍ تدفع الإنسان إلى التفكير فيها، وفهمها ودراستها لإيجاد حلول لها (سعيد عبد العزيز، 2013: 31-32). لذلك فإن تعليم التفكير ذو أهمية كبرى، حيث إنه يساعد الفرد على تطوير المهارات الذهنية، وممارسة عديد من العمليات العقلية العليا مثل التنبؤ بالأحداث، والاستنتاج، والتحليل، والتركيب، والتطبيق، والتوقع، وحل المشكلات، والتأمل، وتقييم آراء الآخرين، وتقبل وجهات نظرهم، مما يجعله إنسانا إيجابيا ومرنا، ومحافظا على أصوله ومبادئه، ومبتكرا ومستخدما للتكنولوجيا الحديثة، ومن ثم تعزيز عملية التعليم والتعلم والاستمتاع بها (الأشقر، 2011: 14). ويمكن تلخيص دواعي التفكير ومزاياه في النقاط التالية التي لا يمكن اعتبارها نهائية (سعيد عبد العزيز، 2013: 32-34): التفكير ضرورة لمواكبة متطلبات العصر والتكيف معها: لم تعد عملية حشو عقول التلاميذ بالمفاهيم والمعارف مفيدة، إذ الأهم هو تعليمهم كيف يستخدمون هذه المعارف ويوظفونها بطرق تعود عليهم، وعلى مجتمعهم، بالنفع وتحقيق الذات، وتعليمهم ما يريدون تعلمه، وليس ما نريد أن نعلمهم؛ التفكير ضرورة لاكتشاف كل مجهول في الكون: لقد دعا الإسلام إلى استخدام الناس لعقولهم والتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي كل ما خلقه الله من أجل الإيمان به، والتبصر بحقائق الوجود وتطويعها لسعادتهم، وعبادة ربهم؛ إن تعليم التلميذ كيفية الحصول على المعلومة أهم بكثير من تعليمه المعلومة نفسها: ذلك أن التلميذ الذي تعلم المعلومة دون تعلم كيفية الحصول عليها سيظل شخصا اتكاليا يعتمد على غيره، وعاجزا عن الوصول إلى المعلومة اللازمة له، الأمر الذي يعوق تقدمه في مختلف مجالات حياته، ويُشعره بالإحباط وتدني تقديره لذاته؛ إن التفكير ضروري للجميع خاصة إذا تم التركيز على وظيفته، وعلى ما له من قدرة ساحرة وعجيبة في تسيير أمور الحياة، وتسهيلها وتذليل العوائق والصعوبات لصالح الإنسان؛ التفكير من متطلبات التعليم الهادف الذي يمكن أن يلعب دورا في تنمية عمليات التفكير ومهاراته، وتطوير كفاءات الأفراد؛ التفكير ضروري في النجاح الدراسي والحياتي، وتحقيق الذات في مجال العمل حيث يساعد التفكير السليم التلميذ في النجاح والشعور بالسعادة والتفوق، كما يمكنه من نسج علاقات جيدة في محيط المدرسة مع أقرانه وأساتذته وذويه، الأمر الذي يساعده في تحقيق الإنجاز الدراسي المتقدم الذي بواسطته يستطيع أن يواصل دراساته العليا، ومن ثم الالتحاق بعمل يستطيع من خلاله أن يحقق ذاته؛ التفكير ضروري لتحقيق حاجات الفرد المختلفة سواء أكانت بيولوجية أم معرفية أم تتعلق بأمنه واستقراره واحترامه وتطوير معارفه؛ التفكير ضروري من أجل تطوير المجتمع وتحقيق الرفاه، إذ يرجع الفضل إلى التفكير في تطوير حياة الناس؛ فبعد أن كانوا أسرى للطبيعة القاسية التي كانت تقض مضاجعهم من خلال التقلبات الجوية وغيرها، استطاعوا أن يتحدوها ويجعلوها مطية لما يريدونه بفضل استخدامهم للعقل؛ يخدم التفكير كلاّ من الأستاذ والتلميذ، إذ بفضله يتحقق تطوير المناهج الدراسية وجعلها تناسب مختلف المراحل العمرية للتلاميذ، كما يساعد في تكييف البيئة الصفية لتحقيق أعلى درجات التحصيل؛ يساعد التفكير السليمُ التلميذَ في إثارة دافعيته وتحسين بناءاته المعرفية، وحديثه الداخلي نحو المدرسة، ونحو المنهاج، ونحو أساتذته، الأمر الذي يعود عليه، وعلى ذويه، وعلى مجتمعه بالفائدة، ويجعل منه إنسانا منتجا ومفيدا للمجتمع. وعلى هذا الأساس، أصبحت المدرسة المغربية ملزمة بإيلاء العناية اللازمة لتعليم التفكير باعتباره ضرورة حتمية لمواجهة تحديات المستقبل وبناء مجتمع معرفي قادر على الابتكار. وهذه الخطوة ليست مجرد تحديث منهجي، ولا إحداث تغيير في المناهج، وإنما هي أحد أسس أي إصلاح يسعى إلى تحريك عجلة التعليم نحو الأمام. إن النظام التعليمي الذي يركز على الحفظ والتلقين يضع الخريجين أمام صعوبات في التكيف مع متطلبات سوق الشغل المتغيرة، وحل المشكلات المعقدة التي تتطلب مهارات تحليلية ونقدية. لذلك فإن دمج التفكير النقدي، والتفكير الإبداعي وغيرهما في مختلف المواد الدراسية، من العلوم إلى الآداب، من شأنه أن يحول المدرسة من مجرد فضاء لنقل المعرفة إلى ورشة حقيقية لتطوير العقول. هذه النقلة النوعية ستُعِدّ جيلا من المواطنين الواعين، القادرين على المساهمة بفاعلية في بناء المستقبل، مستندين في ذلك على التفكير المستقل والقدرة على اتخاذ قرارات صائبة. إن إدماج تعليم التفكير في المواد الدراسية يتطلب تغييرا في طرق التدريس؛ أي بدل التركيز على السؤال "ماذا يتعلم التلميذ؟" ننتقل إلى السؤال "كيف يفكر التلميذ؟". وهذا التحول لا يتطلب إضافة مواد جديدة تثقل كاهل التلاميذ، ولا حصص إضافية ترهقه. فجوهر هذا التحول يكمن في إعادة النظر في طريقة تدريس المواد الموجودة أصلا، وبدلا من أن يكون الهدف هو إتمام المنهاج وحفظ المعلومات، يصبح الهدف هو استخدام المحتوى المعرفي باعتباره محفزا للتفكير بمختلف أنواعه؛ فمثلا، في مادة التاريخ، عوض أن يسرد الأستاذ الأحداث وتواريخها، يمكنه أن يطلب من التلاميذ تحليل دوافع الأطراف المتصارعة في حرب ما، أو مقارنة تأثير حدث تاريخي معيّن على مناطق مختلفة. قد لا يضيف هذا النهج شيئا جديدا للمنهاج، ولكنه سيحول المادة من مجموعة من الحقائق إلى أداة لتحليل الأحداث وفهم العلاقات السببية. وكذلك في مادة علوم الحياة والأرض، أو مادة الفيزياء والكيمياء، يمكن أن يصبح الهدف هو توجيه التلاميذ لطرح فرضيات حول ظاهرة معينة، وتصميم تجربة بسيطة لإثباتها أو نفيها، عوض أن يقتصر الأستاذ على شرح القانون العلمي المتحكم فيها. وبطبيعة الحال، هذا لا يغني عن المحتوى، بل يجعله أكثر رسوخا في ذهن التلميذ، لأنه شارك في اكتشافه وتوظيفه. وقد يمثل إدماج تعليم التفكير في مادة اللغة العربية فرصة لتجاوز الأساليب التقليدية التي تركز على القواعد والحفظ؛ فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي أداة للتفكير ووعاء له، لذا فإن تعليمها يجب أن يواكب هذه الحقيقة. هكذا يمكن الانتقال من فهم القواعد إلى التحليل النقدي للنصوص، إذ عوض أن يطلب الأستاذ من التلاميذ إعراب جملة أو استخراج مفعول مطلق أو حال، لا بأس أن يطلب منهم تحليل نص شعري أو نثري انطلاقا من طرح بعض الأسئلة من قبيل: "ما رسالة النص؟"؛ "كيف استخدم الكاتب الاستعارات والصور البلاغية للتأثير في القارئ؟"؛ هل توافقه الرأي، ولماذا؟". هذا النهج يدفع التلميذ للتفكير في النص بعمق، والبحث عن معانيه الخفية، بدلا من الاكتفاء بفهم سطحي للقواعد. وحري بنا أيضا الانتقال من الإنشاء إلى التفكير الإبداعي والمنطقي، ومن الحفظ والتلقين إلى النقاش والحوار. والشيء نفسه يقال عن باقي اللغات المدرَّسة. وكيفما كان الحال، هناك عدة أبحاث ودراسات منشورة حول تعليم الذكاء يمكن الاستفادة منها في تنمية مهارة التفكير لدى التلميذ، ولا سيما من الجوانب التطبيقية التي تحفل بها هذه الكتب. ولقد اعتمدت على بعض منها لكتابة هذا المقال الذي توخيت فيه الاختصار والاكتفاء بإشارات مقتضبة، علما أن الحديث عن تعليم التفكير ذو شجون. وأذكر من هذه المراجع: إدوارد دي بونو: تعليم التفكير، ترجمة عادل عبد الكريم ياسين، سلسلة الكتب المترجمة، ط1، الكويت، 1989. إبراهيم بن أحمد الحارثي: تعليم التفكير، دار المقاصد للنشر والتوزيع، ط4، القاهرة، 2009. سعيد عبد العزيز: تعليم التفكير ومهاراته، تدريبات وتطبيقات عملية، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط3، عمان، 2013. وجدير بالذكر أن كتاب إدوارد دي بونو تُرجم إلى عشرين لغة أو أكثر نظرا لأهميته في الموضوع الذي نحن بصدده، والملاحظ أيضا أن الكتابين الآخرين المذكورين صدرت منهما أكثر من طبعة واحدة، ويعود هذا الأمر إلى ما أشرنا إليه. خاتمة: إن غياب أو محدودية تعليم التفكير في المدرسة المغربية له انعكاسات سلبية تتجاوز حدود الفصل الدراسي، إذ إنه يفرز نظاما تعليميا يركز على الحفظ والتلقين، ويخرج أجيالا قد تمتلك رصيدا معرفيا، لكنها تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتحليل المعلومات، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات. وهذا، بلا شك، يحد من قدرة الفرد على الابتكار ويجعله أكثر عرضة لتصديق المعلومات المغلوطة، والانسياق وراء المشعوذين والدجالين في مختلف المجالات والسياقات، كما يؤدي على المستوى الاجتماعي إلى تراجع القدرة التنافسية للبلاد ويعوق تطورها. لذا، فإن الاهتمام بتعليم التفكير هو استثمار في رأس المال البشري، وضرورة ملحة لتحويل المدارس إلى محركات حقيقية للتنمية، قادرة على تخريج أفراد يساهمون بفعالية في بناء مستقبل مشرق للمغرب. -باحث وشاعر مغربي