جاءت الرسالة الملكية السامية منبعثة من عمق الخصوصية الدينية المغربية التي انبنى التذكير بها بين الفينة والأخرى، على أصالة الهوية، وصفاء الاستمداد من المشرب النبوي، وكمال الأسوة في الاقتداء والاهتداء بالجناب المصطفوي المبارك سلوكا وعملا، ومحبة ووصالا، والذي أبلى فيه المغاربة البلاء الحسن على مر العهود في التعريف بالشمائل وترسيخ الدلائل وترصيع الدرر الكامنة في السيرة النبوية العطرة، فتآلفت هذه المعاني في فِطَر وعقول جميع مكونات المجتمع المغربي منذ القدم، وامتزجت طينةُ هذه الربوع بسَقاء المحبة الذي اكتمل في جوهره الإنسان، فملأ الأركان، وبارك الأوطان، وحُقَّ حينها نعتُ الحضارة المغربية بالتميز والخصوصية، إذ شمل جوهر المحبة والاقتداء مقوماتها الثلاثة: الإنسان، القيم، العمران. وقد حفلت الرسالة السامية بمعانٍ خالدة على وزانِ ما أملاهُ خلفاء المسلمين مذ سالف العهود في مثل هذه المواطن المباركة والمقامات التليدة الميمونة، إلا أن خصيصتها وميزنها لائحة واضحة في التنبيه على اكتمال دورة الزمن الهجري المبارك في خمسة عشر قرنا من الهدى الدلالي والرشد المثالي، فحق عموم الابتهاج وصدق الانتهاج، وليس ثمة ما احتفلت به الأمم وابتهجت بذكراه أعظم من مولد سيد البشرية عليه أزكى الصلوات المباركات الطيبات الزكيات. لذا احتيج إلى الوقوف عند بعض الدِّلالات التي استبطنتها الرسالة السامية من خلال ما يحيلُ عليه ما يأتي: 1 مباديء السياسة الشرعية في حمل الرعية على أفضل الأعمال وأجلِّ الخصال، تحقيقا للمصالح الشرعية المعتبرة، ومن قواعد الباب أن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، وهي إما دينية أو دنيوية. ومن تجلياته رعاية أمر الدين والتذكير بلوازمه وفروضه وتوجيه وتسديد دور العلماء في تثبيت دعائم التوحيد وما ينبني عليه من رشد الرعية واستقامتها، وإقامة بنيان المجتمع على معاني العبودية والتحلل من رواسب العجب والأنانية، بتوظيف منهج التوسط والاعتدال، تذكيرا ابتداء بما يأتي: أ مقام الإمامة العظمى في النفوس، اللازم مقابلته "بالشكر لله تعالى على أن جعل إمامة هذا البلد من ذريته صلى الله عليه وسلم، حافظة لعهده، جارية على سُنَنِه، خادمة وحامية لما نزل عليه من الهدي وما شخّصه من الشمائل بمثاله وإسوته". وبقاء الإمامة في العترة النبوية أمر يستوحى منه كل خير وهدى ورشاد، وقد تكلم عنه بعض العلماء بما يفيدُ كونه علَماً من أعلام النبوة، قال العلامة المحدث السيد عبد العزيز ابن الصديق (ت1418ه): لا بد أن يبقى حاكم قرشي في الأرض مهما تغيرت نُظُم الأمم، وتبدَّلت أحوال الحكم لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث الصحيح: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان"، ولا يمكن لخبره صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخلف عن الوقوع، ولا يكون له مدلول، وهذا هو الواقع الآن، فإنه رغم تبدل أحوال الأمم بأجمعها وتغير نظام حكامها وحكمها، فلا زالت بعض الدول يحكمها قرشيون ويلون أمرها كما هو الحال في المغرب، فإن الذي يلي أمره وهو الملك الحسن الثاني ينحدر من سلالة قرشية تنتسب إلى محمد النفس الزكية. ب أن مقاصد هذه الإمامة من البيت النبوي قائمة على رعاية واجب الحق ومصالح الخلق، وفيها جمع القلوب على الألفة والمحبة، استمدادا من التعلق والهيام في الدوحة النبوية الطاهرة، وهذا يستوجب الشكر لنعم الله على هذه الأمة لا محالة، ولو لم يكن إلا زرع بذور المحبة النبوية ونصرة الهدي المحمدي وإقامة مجالس العلم والذكر في كل ربوع المملكة لكفى، وهو ما تعنى به الرسالة السامية من "القيام بما يناسب المقام شكرا لله تعالى على ما هدانا إليه في مقام وراثة إمارة المؤمنين، الأمر الذي أهّلنا للحرص على توفير الشروط المثلى لأفراد أمتنا حتى يقوموا بكل ما يرضي الله من رعاية شؤون الدين الذي جاء به جدنا النبي الأكرم، سواء على سبيل العبادة أو على سبيل غرس مكارم الأخلاق في نفوس المؤمنين والمؤمنات". فكأن دوام التعلق بالمحبة في الجناب النبوي وارد في محبة عترته وما يصاحبها من خير وأمان، فبقاء الخير والحفظ الحسي والمعنوي مكفول ببقائها ولا ريب، قال العلامة السيد عبد العزيز ابن الصديق: ولهذا أرى أنه سيبقى الحكم في هذه العائلة إلى أن يخرج المهدي، والشواهد والعلامات الموجودة الآن تؤيد هذا كما هو ظاهر، وهكذا يظهر مصداق كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر به في كل مظهر من مظاهر هذا الكون. 2 تعزيز مسار الفقه الإسلامي أو المذهبي المالكي الذي التزم به المغاربة قديما بتوجيهات الإمام الباعثة على رفع الخلاف فيما تجاذبته الآراء أو مالت إليه الأهواء دون حجة قوية وبرهان متين، وهو الحاصل في اختلاف الأقوال بين الجواز والمنع من الاحتفال بالذكرى النبوية، ومردُّ ذلك إلى التأثر برؤى وافدة لم يكن عمل علماء المغرب جاريا على اعتبارها، لما دأب عليه هؤلاء من جمع الناس على الاحتفال بإحداث مجالس العلم والذكر والمديح في الجناب النبوي، فاحتيجَ إلى توجيهات الإمامة العظمى من أجل ترجيح الرأي المختار الذي يجلب للأمة أفضل المصالح ويدفع عنها أفدحَ الأضرار، وضرر الخلاف يُزال، لذا درج الفقهاء على اعتبار حكم الحاكم رافعا للخلاف، ومعناه أن يترك المخالف مذهبه ويلتزم بمذهب الحاكم. قال الإمام أحمد بن إدريس القرافي المالكي: وفي مواضع الخلاف ينشئ الحاكمُ حكما، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة، ويكون إنشاؤه إخباراً خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة ومن ذلك الباب، فيكون أخصَّ من الدليل العام المخالف لذلك الحكم، فيرجع إليه، ويخصص ذلك العام به، ويبقى ذلك العام معمولا به في تلك الصورة التي حُكِم بها، وهذا هو معنى الإِنشاء.اه. 3 العناية بتراث المغاربة في خدمة التركة النبوية، بدءا من تدوين السنة النبوية والإلمام بشروحها وفقهها، وكمال الإلمام بمجالي الرواية والدراية، اعتناء بالرجال والجرح والتعديل وعلم العلل من لدن كبار الحفاظ المتقنين، فعلى عهد المرابطين نال السيادة والريادة الإمام القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي ت 544ه، وشيخه أبو عبد الله التميمي الفقيه القاضي المتوفى بعد سنة 503ه..، وعلى عهد الموحدين اشتهر الحافظان عبد الحق الإشبيلي ت581ه وابن القطان الفاسي ت628ه رائد علم العلل في المشرق والمغرب وغيرهما..، ثم امتد هذا المدد المبارك إلى عهد السلاطين العلويين. ولقد نشطت مجالس الحديث النبوي على هذا العهد إملاء وإقراء وشرحا وتأليفا وتصنيفا، وكان يتولاها شيوخ الجماعة في كل عصر، وهم من يشرفون على تعليم السلاطين، وقد أفاد بعضهم من هذه المعارف فتصدروا مجالس المدارسة وميادين الكتابة والتصنيف، ووُصِف السلطان سيدي محمد بن عبد الله (ت1204ه) بسلطان العلماء وعالم السلاطين، قال في "نشر المثاني": "وقد جمع من دراية العلم ما تقف العلماء دونه، وتود زواهر الأفق أن تكونه، فكملت بذلك منة الله على العباد، وأحيا به الله الدين في كل الأرض والبلاد، مع فرط الكرم والجود، الذى ورثه من أصله الطاهر عن آبائه والجدود "... وقال في حقه أبو محمد عبد السلام بن الخياط القادرى ما نصه: "الإمام الموهوب لهذه الأمة على رأس المائة مجددًا لها دينها كما ورد ذلك مرفوعا". وقال: "كان إماما من علماء الإسلام، له تصانيف تقرأ بالمشرق والمغرب". وقال: "وبالجملة فقد نظر في المصالح وقام بها قياما لم يقم به أحد من أهل عصره من ملوك الإسلام، ولم يسبق إليه غيره غير الخلفاء الراشدين". ونفس الأمر حذا حذوه المولى سليمان وقد حضر مجلسه كبار المحدثين كأبي الفيض حمدون بلحاج، والتاودي بن سودة وأبي العلاء العراقي، ونفس الأمر على عهد المولى عبد الرحمن بن هشام وكان يكرم علماء السنة من المغرب ويستضيف غيرهم من كل البلاد. وسطا نجم أبي عيسى المهدي بن سودة ت1294ه وشقيقه أحمد بن سودة 1321ه على عهد المولى الحسن الأول، وهما من أشرفا على مجالس الحديث في عصره. وظل الأمر متسلسلا في عنَايةِ السلاطين العلويين بالحديث وعلومه والسيرة النبوية ومعارفها فتصدر على عهد المولى عبد الحفيظ الإمام العارف أحمد بن الخياط الزكاري، والشيخ أبو شعيب الدكالي وعبد الكبير الكتاني وغيرهم، وآل الحال في كمال العناية بهذه العلوم والفهوم إلى إشراف الشيخين العالم الحجة محمد المدني بن الحسني والشيخ محمد بلعربي العلوي على عهد جلالة السلطان محمد الخامس، وتطور الأمر على عهده وعهد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني رحمهما الله إلى نبوغ مدارس حديثية تشكلت من أسر علمية نابغة لا تضاهى في هذا التخصص، ومن ذلك الأسر الحديثية العراقية والصديقية والكتانية..، كما لم تخلُ مجالس الحديث من حضور نوابغ العلماء من الشرق والغرب، وهو ما واكب تأسيس دار الحديث الحسنية التي درس بها وتخرج منها أغلب المتخصصين في الحديث النبوي في هذه العصور الأخيرة. ثم وسم عصرنا المبارك الزاهر بما أحدث على عهد جلالة الملك محمد السادس حفظه الله من كراسي علمية في كل الفنون تجاوزت الحدود، وأقبل عليها الخاص والعام من كل بقاع العالم، واختص الحديث النبوي الشريف بمنصة علمية مباركة عُدّت موسوعة لم يسبق إليها في التاريخ المعاصر مُلمَّة بمعرفة درجات الحديث ورجاله وفقهه ومقاصده. فهذه العناية إنما كانت مقارنة عند علماء المغرب للاهتمام الفريد بالقرآن الكريم وعلومه، ومن بعد ذلك متابعة العلم بالعمل، الذي جسده علم التصوف والسلوك القائم عندهم على الالتزام بالسلوك النبوي والتأسي والاقتداء الراشد وهو ما عني في الرسالة الملكية السامية "بالتذكير بما برّز فيه المغاربة من العناية بثانية أمانات الرسول الأعظم وهي التزكية، وذلك من خلال ما نبت في أرض المغرب عبر العصور من مؤسسات التربية الروحية المسماة بطرق التصوف، ومعلوم أن الجوهر الذي تقوم عليه تربيتها هو محبة الرسول الذي تنتهي إليه أسانيد هذه الطرق في الدخول على الله من باب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في إخلاص العبودية لله". وقارن ذلك كما لا يخفى التعبير بفنون القول وزهر المقول عن المحبة النبوية بالتأليف في الصلوات المصطفوية والمديح في الجناب النبوي الشريف، والذي أقبل عليه المغاربة بشغفٍ وشوقٍ وحب كبير، فحفظت دواوينه الرجال والنساء والشيب والشباب والولدان، ولا أدل على ذلك ما بلغه كتاب دلائل الخيرات لأبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رائد سند التصوف في المغرب، وهو مع الشيخ الإمام سيدي أحمد زروق، يشكلان ركنا جوهريا في الإسناد الصوفي الشاذلي المغربي. 4 استئناف البناء الذاتي والمجتمعي حيث إن فحوى الرسالة الملكية السامية في عمق مضمونها يؤسس للارتقاء بمسار التدين المغربي إلى سلك المحبة ونبذ الجفاء مع المقام النبوي، وتجاوز كل وافد يشوش على ثوابت الأمة المغربية، بجعل التصوف أساس الالتزام العملي علما أن التصوف هو الخلق، ومن زاد عليك في التصوف، زاد عليك في الأخلاق. وقد تم التنبيه على خصائص هذا البناء الفردي والجماعي في إحياء مجالس الذكر، والابتهال بالصلوات النبوية، التي عجَّ بها المجتمع المغربي وامتلأت أركانه بأسرارها منذ زمن تليد، وهو ما أريد له أن يبسط أنواره على ربوع الوطن حتى يرتقي بتدينه ويسمو بأخلاقه، تنبيها إلى خاصية العالَمية في جعله محور الهدى والقدوة في العالم الإسلامي، من خلال إشراك المجتمعات الإفريقية والجالية المغربية وكل مكونات المجتمع المغربي، نظرا لما حاز فيه هذا البلد الأمين السبق من تسطير دواوين التفسير وعلوم القرآن الكريم والحديث النبوي والسيرة النبوية العطرة والتصوف السني السالك، حتى قيل: "لولا الشفا لما ذكر المغرب"، وقال من قال متعجبا لما ذاع صيت "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض: مشارق أنوار تسنَّت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب وقد أجيب عليه بقول من قال: وما شرفُ الأوطان إلا رجالها ... وإلا فلا فضل لترب على ترب -أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر مدير ورئيس تحرير مجلة الإبصار