لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم من دون ذكر اسم المغرب. فخلال السنوات الأخيرة، تحول حضور المغرب إلى عنصر ثابت في أجندة مهرجانات مرموقة مثل كان، برلين، البندقية، تورونتو، وآنسي... هذا الحضور لم يقتصر فقط على عرض أفلام مغربية في المسابقات الرسمية، بل تجاوزه إلى حضور مؤسساتي ومهني في أسواق الأفلام، عبر الأجنحة المخصصة للترويج، واللقاءات مع المنتجين والموزعين، وحتى في الندوات والورشات الدولية. لقد أصبح المغرب يقدم نفسه كبلد منفتح على السينما العالمية: وجهة للتصوير بفضل تنوع مناظره الطبيعية، شريك إنتاجي بفضل الاتفاقيات الثنائية، ومختبرا لمواهب شابة تبحث عن فرص للانفتاح على العالم. الحضور البروتوكولي وحدوده غير أن هذا الحضور، رغم أهميته، يتخذ أحيانا طابعا بروتوكوليا يغلب عليه البعد التمثيلي أكثر من البعد التنافسي. وفود رسمية، خطابات دبلوماسية، وأحيانا عروض تعريفية لا تترجم دائما إلى مشاركة قوية في المسابقات الرسمية أو إلى تتويجات بارزة. وهنا يطرح السؤال: هل الهدف من هذا الحضور هو الدبلوماسية الثقافية فقط أم إن المطلوب هو جعل السينما المغربية تنافس فعليا وتفرض نفسها كقوة فنية عالمية؟ المبدعون المغاربة في قلب المنافسة أسماء بارزة مثل أسماء المدير، كمال الزرق، فوزي بنسعيدي، نبيل عيوش، مريم التوزاني، صوفيا علوي سعيد حميش... نجحت في دخول المسابقات الرسمية لمهرجان كان وغيرها وقدمت سينما جريئة، ذات بصمة فنية، ورؤية جمالية جعلت المغرب حاضرا كقوة منافسة، لا مجرد ضيف شرف. هذه التجارب أكدت أن المغرب قادر على التواجد في الساحة العالمية بفضل اجتهادات فردية ومبادرات إنتاجية مستقلة آمنت بالمغامرة والاختلاف. دور المركز السينمائي المغربي ولا يمكن إغفال الدور الذي يقوم به المركز السينمائي المغربي في تعزيز صورة المغرب بالأسواق السينمائية الدولية. فقد كثف المركز حضوره في أروقة المهرجانات الكبرى عبر أجنحة خاصة للتعريف بالسينما الوطنية وجلب شركاء جدد. وقد عزز هذه الدينامية المدير السابق عبد العزيز البوجدايني الذي بادر إلى الانفتاح على منصات كبرى مثل آنسي وغيرها، ما جعل السينما المغربية أكثر وضوحا في الخريطة العالمية. واليوم يواصل المدير الحالي محمد رضا بنجلون هذه المسيرة، ونتمنى له التوفيق في مهامه وأن يستمر في تحقيق النجاحات التي تعزز حضور السينما المغربية دوليا. الجامعة شريك إستراتيجي في تطوير السينما إلى جانب المؤسسات الرسمية والمهنية، تظل الجامعة المغربية شريكا أساسيا في أي ورش جاد لتطوير السينما الوطنية. فالمهرجانات الكبرى ليست مجرد فضاءات للعرض والترويج، بل منصات تتطلب كفاءات علمية ونقدية قادرة على التحليل والمواكبة. إدماج الجامعة في هذا المسار يعني: – تشجيع البحث الأكاديمي في علوم السينما، السمعي البصري، والذكاء الاصطناعي المرتبط بالصورة. – إحداث مسالك متخصصة في النقد السينمائي، الكتابة السينمائية، والإنتاج. – دعم شراكات بين المهرجانات والجامعات لفتح المجال أمام الطلبة للمشاركة في الورشات والملتقيات الدولية. – ربط التكوين الأكاديمي بالواقع المهني عبر برامج تدريبية مع شركات الإنتاج وقاعات السينما. هذا الدمج بين الجامعة والصناعة يشكل رافعة أساسية لضمان جيل جديد من المخرجين والمنتجين والنقاد، قادرين على تمثيل المغرب في المحافل الدولية ليس فقط بالحضور، بل بالفعل والمنافسة. الحاجة إلى لقاء وطني حول المهرجانات السينمائية من أجل تعميق النقاش وصياغة رؤية وطنية موحدة، يظل من الضروري تنظيم لقاء وطني حول المهرجانات السينمائية بمشاركة مختلف المتدخلين: القطاعات الحكومية المعنية: الثقافة، الخارجية، التربية الوطنية، السياحة والاقتصاد، المركز السينمائي المغربي، والمنظمات المهنية المرتبطة بالصناعة السينمائية. هذا اللقاء من شأنه أن: – يحدد موقع المغرب الاستراتيجي في خريطة المهرجانات الدولية. – يضع معايير واضحة لانتقاء الوفود المشاركة، بعيداً عن الحضور الشكلي. – يفتح نقاشاً حول كيفية استثمار هذه التظاهرات لتعزيز الدبلوماسية الثقافية والاقتصاد الإبداعي. – يرسم خطة لتأهيل المهرجانات الوطنية حتى تشكل بدورها منصات إشعاعية تجذب شركاء دوليين. ومن هذا المنطلق، أعتقد أننا في حاجة اليوم إلى إعادة هيكلة لجان الفيلم بجهات المملكة الاثني عشر، وإسناد لكل لجنة مهمة الإشراف على إعداد ملف تسويقي لجهتها باعتبارها أرضا لتصوير الأفلام السينمائية الوطنية والأجنبية، مع تبني سياسة تمويل جهوية تعزز مساعي الدولة لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية في المجال ببلادنا. توسيع الوفد المغربي: تكامل الأدوار بين الإدارة والمهنيين من بين المقترحات العملية لتقوية حضور المغرب، ضرورة توسيع تركيبة الوفد المغربي ليضم بالإضافة إلى ممثلي الأفلام المشاركة في سوق الفيلم، كلاً من ممثلي الإدارة وممثلي المنظمات المهنية. – ممثلو الإدارة: لا يقتصر الأمر على المركز السينمائي المغربي ووزارة الشباب والثقافة والتواصل، بل يشمل كذلك ممثلي الوزارات الأخرى الأعضاء في مجلس إدارة المركز السينمائي المغربي مثل الخارجية، السياحة، الاقتصاد، التربية الوطنية. الهدف هو أن يسوّق كل قطاع للبلد من زاويته الخاصة، ما يمنح صورة شمولية ومتكاملة عن المغرب كوجهة للتصوير والاستثمار الثقافي. – ممثلو المنظمات المهنية: نحن بحاجة اليوم قبل أي وقت مضى إلى أقطاب مهنية قوية، قادرة على التسويق للبلد وللسينما المغربية بالخارج، عبر اختيار تمثيلية محترمة متمكنة من اللغات الأجنبية، وعلى الخصوص الإنجليزية، باعتبارها لغة السينما العالمية، لترويج الصورة المغربية بشكل فعال ومباشر. وبهذه المناسبة، لا بد من انخراط شركات تنفيذ الإنتاج في هذه الدينامية الإيجابية لتجميع الأقطاب المهنية قصد توحيد الرؤية والاشتغال بمقاربة مندمجة ومقدامة، بدل الاشتغال بالفردانية غير المجدية. شبكة موزعين ومهرجانات للترويج للفيلم المغربي إلى جانب الحضور في الأسواق السينمائية، تبرز ضرورة خلق شبكة بين موزعي الأفلام المغربية والمهرجانات الدولية ذات الصيت العالمي، تكون تحت إشراف المركز السينمائي المغربي. هذه الشبكة ستسمح ب: – ضمان تواصل دائم ومنظم بين موزعي الأفلام المغاربة ومديري البرمجة في المهرجانات الكبرى. – تسهيل ولوج الأفلام المغربية إلى مسابقات رسمية وبرامج موازية. – إعطاء الفيلم المغربي فرصا أكبر للتوزيع في الأسواق العالمية بعد المهرجانات. – بناء قاعدة بيانات مشتركة تسهّل عمليات الترويج والتنسيق. – تكوين موزعين شباب متخصصين في تسويق الفيلم المغربي دوليا. تطوير آليات التوزيع لجيل "Z" إن تطوير آليات توزيع الفيلم المغربي يتطلب الانفتاح على اللغات الحية والوسائط التكنولوجية الحديثة، بما يتماشى مع تموقعات جيل "Z" في خارطة التكنولوجيا الرقمية. فهذه الفئة الشابة أصبحت اليوم المحرك الأساسي لاستهلاك المحتوى السمعي البصري، ما يفرض التفكير في طرق جديدة للتوزيع والترويج تعتمد على المنصات الرقمية والتطبيقات التفاعلية. منصة رقمية لترويج الفيلم المغربي من بين المقترحات العملية كذلك، خلق منصة رقمية متخصصة في الترويج للفيلم المغربي، تجمع بين قاعدة بيانات للأفلام الوطنية، وفضاء للتواصل بين الموزعين والمنتجين ومديري المهرجانات، مما يسهل عملية تسويق الفيلم المغربي ويمنحه حضورا دائما على الشبكة العالمية. الدبلجة بدل العنونة إن اعتماد الدبلجة كخيار استراتيجي لترويج الفيلم المغربي يمكن أن يكون أكثر نجاعة من الاعتماد على العنونة (Subtitles)، لأنه يقرب العمل من الجمهور العالمي بشكل مباشر ويزيد من فرص توزيعه في أسواق جديدة، خصوصا مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الصوت. الثقافة المغربية: من السينما إلى الدارجة لا ينبغي أن تقتصر مساهمة السينما المغربية على تقديم الصورة البصرية فقط، بل يتوجب أن تكون جسرا لنقل الثقافة المغربية بأبعادها المتعددة. ومن هذا المنطلق، يمكن إيصال الثقافة المغربية عبر السينما أولا، ثم عبر الدارجة المغربية كثقافة يومية معبرة عن روح المجتمع المغربي. دعم الاستثمار الوطني إضافة إلى ذلك، يظل صندوق محمد السادس للاستثمار مدعوا للانخراط في تمويل الأوراش الكبرى للسينما الوطنية، باعتبارها مجالا خصبا للاستثمار وقطاعا قادرا على خلق فرص الشغل وتعزيز الاقتصاد الإبداعي. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المغرب اليوم يدعم الإنتاج السينمائي بنسبة 30%، وهي نسبة مهمة لكنها غير كافية في إطار المنافسة العالمية، خاصة مع بلدان قادرة على تمويل إنتاج الأفلام بنسب أكبر. وإذا كان من الصعب وطنيا رفع هذه النسبة في الظرفية الحالية بالنظر إلى الأوراش الكبرى المفتوحة، فإن من الأجدر أن تتبنى هذا الملف جهات المملكة والمراكز الجهوية للاستثمار ووكالات التنمية الجهوية والعمالات والجماعات. كما ينبغي أن ينخرط في هذا الورش كذلك القطاع الخاص، من خلال مساهمة فنادق المملكة والخطوط الملكية المغربية والمكتب الوطني للسكك الحديدية وشركات النقل الطرقي، عبر اعتماد تخفيضات موجهة لصناع السينما المغاربة والأجانب، بما يسهم في تعزيز جاذبية المغرب كوجهة عالمية للتصوير والإنتاج. التحديات والرهانات يبقى التحدي الأكبر اليوم هو الانتقال من مجرد الحضور البروتوكولي إلى المنافسة الفنية الحقيقية، ومن الاقتصار على الترويج السياحي إلى جعل السينما رافعة اقتصادية وثقافية. فالمهرجانات العالمية فضاءات تتطلب وضوحا في الرؤية، تكاملا بين المؤسسات، وانفتاحا على آليات التوزيع الحديثة التي تستجيب لتحديات العصر الرقمي. المهرجانات العالمية ليست مجرد فضاءات للعرض، بل مختبرات كبرى لصناعة الصورة الثقافية والفنية للدول. وإذا كان المغرب اليوم قد نجح في أن يكون حاضرا في هذه الفضاءات، فإن التحدي المقبل هو أن يتحول هذا الحضور إلى قوة تنافسية حقيقية. فمشاركة المغرب بالمهرجانات الدولية ليست سياحية أو ترفيهية كما يروج البعض أو يحلو لهم وصف الوفود المشاركة، بل هي عمل جبار يروج لصورة البلد كأرض للاستثمار، لتصوير الأفلام السينمائية والأعمال السمعية البصرية، وكبلد للاستقرار والتنمية البشرية والمستدامة. فبين الدبلوماسية الثقافية والتنافس الفني، يظل الرهان الأكبر هو أن ننتج أفلاما تحمل قصتنا إلى العالم بلغتنا الفنية الخاصة، وأن نجعل من المغرب ليس فقط ضيفا مرحبا به، بل منافسا قويا، قادرا على حصد الجوائز الكبرى وصناعة الفرق في المشهد السينمائي الدولي، عبر مؤسساته الرسمية، ومهنييه، وجامعاته، وشبكاته الرقمية، ودبلجته النافذة، وهويته الثقافية التي تنطلق من السينما أولا، ومن الدارجة المغربية ثانيا.