في شوارع المغرب، بين الأزقة والساحات الكبرى، تتداخل الأصوات في سيمفونية مزدوجة من الغضب والارتباك. هناك شباب خرجوا يرفعون شعارات سلمية مطالبين بالحقوق الأساسية: تعليم أفضل، صحة متاحة، فرص شغل عادلة. وهؤلاء هم جيل Z، الذين تربوا في عصر التكنولوجيا، تعرفوا على العالم عبر شاشات الهواتف، ورغم هدوئهم الظاهر، يكمن في نفوسهم شعور متقد بالظلم وغياب المستقبل. لكن وسط هؤلاء يظهر آخرون، لا يرفعون شعارات، ولا يحملون مطالب، سوى الرغبة في الخراب والفوضى، يندسون بين الحشود، يحملون الحجارة ويشعلون النيران، يحطمون واجهات المحلات، يحوّلون اللحظة الوطنية إلى مأساة اجتماعية. من يقرأ "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون أو يتابع أطروحات إيريك فروم وغي ديبور، يدرك أن الجماهير حين تتجمع لا تتصرف كأفراد واعين، بل ككيان واحد تتسلل إليه العدوى العاطفية. العقل النقدي يذوب، والانفعالات تحل محل المبادئ، وتصبح كل لحظة فرصة للتحوّل من مطالبة عادلة إلى فوضى جماعية. في لحظة التحام الأجساد وتوحد الأصوات، يولد ما يشبه العاصفة النفسية؛ شيء يجعل من العاقل تابعا، ومن الجاهل قائدا، ومن الكلمة شعلة تشعل في النفوس غضبًا بلا حدود. هذه الظاهرة ليست مجرد فرضية نظرية، بل واقع يتكرر في كل مظاهرة تتجاوز الحد الذي يمكن فيه للعقل الفردي أن يفرض نفسه. المشهد الذي نراه اليوم ليس صدفة، بل انعكاس لفراغ معنوي ومؤسسي. المدرسة التي لا تنتج عقولًا ناقدة، الإعلام الذي يثير بدل أن يشرح، الأحزاب التي تتاجر بالغضب بدل أن تؤطره، كلها عوامل تجعل الشارع مسرحًا للبوح الأعمى، حيث تتحول المطالب المشروعة إلى وقود لمآسي غير متوقعة. الشباب السلميون يجدون أنفسهم أمام اختبار مزدوج: الدفاع عن حقوقهم ومواجهة الانجرافات العنيفة التي قد تجرهم إلى التورط في أعمال التخريب، رغم أنهم لم يخططوا لذلك. العنف ليس قدراً بيولوجياً، بل هو نتيجة مركبة لانهيار مؤسسات المجتمع وانسداد الأفق وتعطّل ميكانيزمات الوساطة. حين تنهار المدرسة، وتغيب الثقافة، وتفقد الأحزاب دورها في الإرشاد، يصبح الشارع المسرح الوحيد للبوح، لكنه بوح أعمى في غياب الميكروفون الأخلاقي. وهنا يظهر دور النخبة والمثقفين والمربين ليس فقط في الدفاع عن مطالب الشعب، بل في حمايته من نفسه عندما تتحول المطالب إلى وقود غضب غير عقلاني. إريك فروم تحدث عن "الهروب من الحرية"، وعن ميل الإنسان للذوبان في الجماعة حين لا يجد من يرشده وسط ضجيج العالم. هذا الهروب يفسر كيف يختلط المحتجون السلميون بالمخربين، وكيف تتحول اللحظة الواعية إلى كارثة جماعية. فكرة بلا تأطير تتحول إلى شعار أجوف، ثم إلى صرخة، ثم إلى حجر. هذا هو مسار العنف الجماعي: تبدأ الانفعالات مشروعًا، ثم تتحول إلى طاقة تدمير ذاتي إذا لم تجد من يحتضنها ويرشدها. لننظر إلى أمثلة واقعية رمزية، لا تحتاج لأسماء محددة: شاب يرفع لافتة مكتوب عليها "حق في الشغل"، يجد نفسه محاطًا بعصابة من المخربين الذين يرمون الحجارة على المحلات العامة والخاصة، ينهبون واجهات البنوك، ويشعلون الحاويات. في تلك اللحظة، تتغير الأدوار: الشاب الذي خرج سلمياً يشعر بالخوف، والضغط النفسي يجعله يتراجع أو ينجر، حتى لو لم يكن في نيته الانخراط في العنف. هذه هي لحظة التحول النفسي الجماعي التي وصفها إدغار موران بأنها "التحول من الذات المفكرة إلى الذات المنفعلة"، حيث تذوب الفردانية في اللاوعي الجمعي. ما يحدث أمام أعيننا ليس مجرد لحظة غضب عابرة، بل اختبار لمتانة المجتمع المدني، حيث تظهر فجوة نفسية كبيرة بين الحماس المشروع والوعي الضروري لتوجيهه. الشباب اليوم، خاصة جيل Z، يعيشون صراعًا مزدوجًا: رغبتهم في الإصلاح وغياب التأطير الذي يمنحهم أدوات العقل للحفاظ على سلمية مطالبهم. في غياب هذه الأدوات، تتحول المطالب المشروعة إلى شعارات أجوف، تتحول الصرخة إلى حجر، يتحول الحماس إلى فوضى لا يقودها أي عقل. الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. صناعة الإنسان المواطن تبدأ من صناعة العقل القادر على التمييز، وليس فقط القلب القادر على الغضب. الاحتجاج وحده لا يبني مجتمعات قوية، بل التعليم القوي، والمدرسة التي تنتج عقولًا ناقدة، الأحزاب التي تؤطر لا التي تتحالف مع الانفعال، والإعلام الذي يشرح لا الذي يثير، كل ذلك يخلق مجتمعات قادرة على التعامل مع الغضب بلا أن تنهار أمامه. حين يحترق الشارع، ليست النيران فقط ما يجب مراقبته، بل ما خلفها: عقلاً غائبًا، سياسة غائبة، مؤسسات مفقودة، مشروع حضاري مؤجل. وإذا لم نستثمر في بناء الوعي، سنظل نطفئ الحرائق بلا أن ندرك مصدر الحطب، وسنبقى أسرى لفوضى يمكن التنبؤ بها، لكنها لن تُحسَم إلا بالعلم والفكر والتأطير المسؤول. الشعب ليس عدواً لنفسه، لكنه بلا وعي يصبح فريسة للغضب، والمجتمع بلا مؤسسات رشيدة يصبح ساحة للفوضى التي تنذر بانحراف الغرائز في غياب السرد القيمي. هذه الأزمة ليست فقط أزمة مطلبية، بل أزمة تأطير ومعنى. الشباب يصرخون، لكن من يسمع صراخهم ويضعه في سياقه الصحيح؟ من يوجّه غضبهم نحو مشاريع بناء بدلاً من هدم؟ غياب هذا التوجيه يجعل الفعل الثوري يتحول إلى عبث، ويترك الفراغ للانفعالات البدائية، حيث تتحول الكلمة إلى حجر، والفكرة إلى صرخة، والفوضى إلى نزعة تدمير لا يقودها عقل. الدرس واضح: الحماس بلا وعي طريق قصير نحو الهاوية، والفوضى ليست شكلاً من أشكال الحرية، بل نقيضها تمامًا. المطلوب من كل مواطن، ومثقف، ومربي، أن يسهم في بناء عقل قادر على التفكير قبل أن يحرق الغضب كل شيء من حوله. ليس المطلوب كبت الاحتجاج، بل توجيهه، ليس الردة فعلية سريعة، بل تأطير مستمر، ليس الصراخ بلا معنى، بل صرخة عقلانية تدافع عن الحقوق دون أن تهدم أسس الحياة. إنه درس موجع، لكنه ضروري: الشارع ليس مجرد فضاء للاحتجاج، بل مرآة تعكس خللاً في بنية الأمة النفسية والاجتماعية والسياسية. إذا أردنا مجتمعًا مستدامًا، يجب أن نعيد إنتاج الإنسان المفكر، الإنسان المواطن، الذي يعرف متى يصرخ ومتى يتوقف، الذي يحمي نفسه قبل أن يحمي الجماعة، الذي يحول الحماس إلى وعي، والصرخة إلى خطاب عقلاني مسؤول. وإلا، سنظل نحرق حطب الغضب، ونطفئ نيران الشارع بلا أن نفهم أصولها، ونعيش دورة متكررة من الفوضى التي تعيد نفسها بلا نهاية.