احتجاج تيار ولد الرشيد يربك مؤتمر الاستقلال    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    حكيم زياش يتألق في مباريات غلطة سراي    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    بوزنيقة : انطلاق المؤتمر 18 لحزب الاستقلال بحضور 3600 مؤتمر(فيديو)    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    حالة "البلوكاج" مستمرة في أشغال مؤتمر حزب الاستقلال والمؤتمرون يرفضون مناقشة التقريرين الأدبي والمالي    طقس السبت: أمطار وطقس بارد بهذه المناطق!    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    الصحراء تغري الشركات الفرنسية.. العلوي: قصة مشتركة تجمع الرباط وباريس    رئيس بركان يشيد بسلوك الجمهور المغربي    على هامش المعرض الدولي للفلاحة.. إطلاق هاكاثون الذكاء الاصطناعي للفلاحة القادرة على الصمود أمام التغير المناخي    فضّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية: ماذا تقول قوانين البلاد؟    المدير العام للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات : المغرب مركز أعمال من الطراز العالمي    بركة يتهم النظام الجزائري بافتعال المؤامرات وخيانة تطلعات الشعوب المغاربية    شبكة جديدة طاحت فالشمال كتبيراطي شبكات الاتصالات الوطنية وها المحجوزات    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    "طوطو" يشرب الخمر أمام الجمهور في سهرة غنائية    أكبر صيد أمني منذ عشر سنوات.. 25 طنا من الحشيش المغربي تدخل أوروبا    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    البطولة الوطنية الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال27).. الشباب السالمي يتعادل مع ضيفه مولودية وجدة 0-0    رئيس اتحاد العاصمة صدم الكابرانات: المغاربة استقبلونا مزيان وكنشكروهم وغانلعبو الماتش مع بركان    المغرب يعتزم بناء مزرعة رياح بقدرة 400 ميغاوات بجهة الشمال    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    تفريغ 84 طنا من منتجات الصيد البحري بميناء مرتيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2024    السعودية تحذر من حملات الحج الوهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي    قميص بركان يهزم الجزائر في الإستئناف    عطلة مدرسية.. الشركة الوطنية للطرق السيارة تحذر السائقين    الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط    للجمعة 29.. آلاف المغاربة يجددون المطالبة بوقف الحرب على غزة    مقتل 51 شخصا في قطاع غزة خلال 24 ساعة    بيدرو روشا رئيساً للاتحاد الإسباني لكرة القدم    مصرع 10 أشخاص في حريق بفندق برازيلي    مندوبية السجون تغلق "سات فيلاج" بطنجة    هل ستعتمدها مديرية الناظور؟.. مذكرة تمنع تناول "المسكة" في المدارس    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها جلالة الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    الصين تؤكد التزامها لصالح علاقات مستقرة ومستدامة مع الولايات المتحدة    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    "شيخ الخمارين ..الروبيو ، نديم شكري" كتاب جديد لأسامة العوامي التيوى    سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    احتجاجا على حرب غزة.. استقالة مسؤولة بالخارجية الأمريكية    الشرقاوي يسلط الضوءَ على جوانب الاختلاف والتفرد في جلسات الحصيلة المرحلية    تطوان .. احتفالية خاصة تخليدا لشهر التراث 2024    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    السعودية قد تمثل للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التعددية
نشر في هسبريس يوم 06 - 11 - 2009

سوف نستعرض بعد قليل، نص ل "ك. ماك إينيرني" حول التعددية بين المجتمع المدني والكنيسة ، أحببت أن أضع بين يدي ترجمته مقدمة مفيدة حول التعددية باعتبارها حتمية المجتمع الحديث . وهي حتى وإن بدت جديدة على الثقافة العربية إلا أنها جسدت واقعا تاريخيا فرض نفسه على المجتمعات العربية والإسلامية. لا يوجد فارق بين ما كان من حتمية الواقع وما هو اليوم من ثقافة المجتمع الحديث المفتوح سوى أن هذا الأخير يسعى لمأسسة كل قضاياه ومطالبه ويرقى بالنقاش إلى مستوى من الوضوح والتقنين والدسترة والاعتراف. وهي كلها ليست من بنات الثقافة التقليدية الغارقة في العناد والاستبداد وعدم الاعتراف. كانت القوة أو لنقل توازن القوة هو وحده ضامن وحامي التعددية في المجتمعات التقليدية. ومتى اختل توازن القوة ، حصل الصراع وربما استفحل كثيرا. اليوم نجد التعددية تحرسها القوانين والدساتير والأعراف الاجتماعية الحديثة والمنتظم الدولي والعقلانية الحديثة، باختصار شديد: الرشد البشري الحديث. وبلا شك هناك دائما خصوصيات يجب أخذها بعين الاعتبار. لكن ثمة ما يجب الحذر منه: أن نمنح الخصوصية معنى يجرف باقي المعاني المتعلقة بحق الإنسان في التطور والاندماج في الدورة الحضارية المعاصرة وفي بنية الرشد الحديث. قد يقال إن أوضاع الكنيسة ليست هي أوضاع الإسلام. وهذا أؤكده واعترف به . لكن العقل الذي ينبثق عن تجارب البشر مع الدين يوشك أن يوحد المسارات والتجارب. إن الإسلام من خلال حامله الفردي أو الاجتماعي يمكن أن يسقط في ثقافة الاستبداد الديني وتفتيش الضمير واحتكار التأويل وما شابه مما كان من شأن الكنيسة نفسها. وقد كان التنبيه القرآني لا يفتأ يذكر الجماعة المسلمة منذ عصر الدعوة بخطر اتباع سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع. وقد سعى المسلمون بقيادة صاحب الدعوة(ص) إلى التميز بالتجربة الإسلامية لا سيما من عوائد أهل الكتاب لهذه الجنبة تحديدا حتى لا يحدث الارتكاس وتنتكس تجربة المسلمين إلى التجارب السابقة . لذا ذكرهم بتجارب الأمم والجماعات الدينية وكيف بدأ يدب في أوصالهم الفساد الديني. كان الإسلام في الأصل ثورة دينية تصحيحية. وعلى المسلمين إن كانوا فعلا يريدون أن يحافظوا على فرادتهم أن يمعنوا في قراءة تاريخ استبداد الكنيسة لكي يعرفوا أي مسافة وجب اتخاذها من هذا النموذج الذي لا جرم يتكرر في سلوكنا الديني دون حتى الشعور به. لقد امتلك الإسلام حماسة تفوق كل الحماسات ، لذلك أمكنه بناء حضارته في لحظة وجيزة لم يتسن لغيره النهوض بمثلها. لكن حماسة القيم الإسلامية حينما يعانقها عقل متخلف قد يحدث كارثة أو يؤدي إلى الانتحار. لقد ناقش المسلمون وحدة الوجود وأمعن كثير منهم في تأكيد المسافة الضرورية بين واجب الوجود وممكن الوجود. لكنهم لم يبحثوا بالجدية نفسها كيف يكتشفوا المسافة الضرورية بين الإسلام وثقافة حامليه؛ لأن أي إقرار بالحلولية أو وحدة الوجود بين التعاليم الإسلامية وحامليها من شأنه أن يطيل عمر أزمتنا. وهذا هو المعول عليه في كل مقارباتنا. ""
إن اختياري لهذا النص له أسباب تكاد تكون عفوية تماماً. فالمجال العربي وغير العربي لا زال يحمل تصوراً للتعددية يحتل أزمنة وأمكنة ما قبل الدولة الديموقراطية الحديثة، ويمتح من تجارب الدول الشمولية التي بلغت منتهى الشطط في إخضاع قسري للتنوع لسلطة الرأي الواحد والتفكير الواحد. بينما تكمن أهمية هذا النص من وجهة نظري في بساطة وعمق الرؤية للتعددية. لقد سلك الدكتور ك. ماك إينيرني أسهل التعابير وأبسط المعايير لإمكان تصور مجتمع تعددي، تتحول فيه التعددية الخيّرة إلى قوة ناهضة بالمجتمع على خلاف ما يتراءى للمجتمعات الشمولية. هذا القدر من البساطة ضروري لأسباب تربوية. وهذا يجعلنا مدركين لأهمية الاقتصاد في الاستدلال وطرائق الوصول إلى المعرفة بناء على القاعدة الأثيرة من جملة قواعد ما يعرف بحالقة الأكاني: ما يدرك بالحد الأدنى لا ينفع بلوغه بالحد الأقصى. الاقتصاد في التعريف والاقتصاد في البرهنة واختصار مقدمات الوصول إلى الفكرة يبدو جليًّا في هذا النص الذي بلغ بمطلب التعددية مستوى السهل الممتنع والسهل الممتع أيضاً. لولا أن بعضاً من الالتباس ظل جاثماً طاغياً على وجهة النظر هذه. ولكن الأجمل من كل ذلك أن الوقوف في وجه نوايا التعددين لم يمنع من الاعتراف بحد أدنى من التعددية الخيرة التي بدت في رأي الكاتب أمراً طبيعيًّا.
ونحن اليوم في حاجة إلى عرض وتهذيب الفكر التعددي لأنه قدر المجتمع المفتوح. حيث إن لم يفتح بسلاسة فمن المحتوم أن يفتح بشروط أقسى وأضر بسياساته. فمجالاتنا بقدر ما تفننت في نزعاتها الشمولية، ابتعدت كثيراً عن تصور المجتمع التعددي. ولذا كان أيسر وأنفع لها أن تنفتح على مثل هذه النصوص التي تُقدِّم تصوراً عميقاً عن التعددية بخطاب مُيَّسر وهادف كما رأينا مع نص ماك إينيرني، الذي اختار الموقف التعادلي وإن بالغ في التشكيك في دعاة التعددية.
وأما السبب الثاني فلأنني توصلت إلى الجزء الذي يهمني من وجهة النظر هذه قبل حتى اطلاعي على هذا النص. وهذا معناه أنها تنطلق من تجربة محكومة بالتأمل والحدس والذوق أكثر مما هي قواعد مسطورة للتفكير المسبق. فكل متأمل في نفسه وفي المجتمع يستطيع أن يصل إلى مثل هذا النوع من الفهم الذي يحتل المساحات المشتركة للعقل والأخلاق البشرية مهما تنوعت تجاربها وافترقت رهاناتها. إلا أنه وقبل أن نستعرض النص المذكور أحب أن أصدر له ببعض التأمل وذلك في نطاق ما تتطلبه مجتمعاتنا، في سبيل إثراء النقاش حول أهمية التعددية.
* * *
الوحدة جميلة.. لعلها أجمل ما يعيشه المجتمع المغلق على أوهام تصرفه عن فهم واقعه وحدس متوقعه. فكلما تبسَّط المجتمع وبدا خارج كثافة التعقيدات التي يوجبها التقدم وجملة شروطه الحتمية، استولى عليه هذا الحلم. وهو مع ذلك حلم لا يختلف عن أحلام طفولتنا الساذجة، التي نسخر منها حتى القهقهة متى بلغنا سن الرشد. وقد بتنا اليوم نكاد نشمئز من الخطاب الشمولي المبني على الإكراه لا الإقناع، إلى حد بدت فيه الطوبا الوحدوية المفرطة أدباً ثقيلاً على القلب فضلاً عن مظاهر السذاجة والتبسيط الذي يحمله كتّابها عن المجتمع خارج ما يفرضه منطق التطور من عمق وسعة في النظر. ونزداد قناعة ببؤس هذا المنظور الوحدوي المفرط للمجتمعات حينما نرى أن هذا الشكل من الوحدة لم يتحقق في مجتمعات الأنبياء والكُمَّل أنفسهم، وهم الذين تركوا بصماتهم الكبرى على تفكير النوع وعقائده. إن كائنات المجتمع التعددي هم كائنات ناضجة متحضرة تحتفظ بتصور ناضج عن الوحدة المجتمعية. فيما كائنات المجتمع الوحدوي المغشوش هم كائنات شقية محبطة جامدة متخلفة. إننا لا نتحدث عن مجتمع وحدوي هنا بالمعنى الحقيقي. فليس ثمة إلا مجتمعات متنوعة بعضها أحسن تدبير الاختلاف والبعض الآخر استسلم لغريزة الشمولية. كلنا متعددون. بعضنا يمارس تعدديته بالمكشوف والآخر يمارسها بتعويضات مرضية هي ما يبدو من مظاهر المجتمعات الشمولية. إنه نوع من الحصر الجماعي أو لنقل نوع من الخصاء الجماعي. فالتعددية إما أن تعبّر عن نفسها بعقلانية واعية وجمالية التنوع نفسه وإما ستظل تعبّر عن نفسها عبر مخاضات لا واعية وبقبح واقع الحصر والتخمة الآحادية. لا وجود إذن لمجتمع متوحد إلا قسراً. ولكن القسر مهما بلغ مداه هو أعجز عن أن يبيد الخلاف. وإذن كلنا لا زلنا أوفياء للمجتمع الوحدوي الحالم. بعضنا يسلك إليه بتوسيع المشتركات والبحث عنها. وبعضنا يردم المشتركات ويفرط في البحث عن الخلاف. التعدديون بهذا المعنى يصلون إلى مجتمع الوحدة الحقيقية أسرع من الشموليين الذين قد لا يصلون مطلقاً. التعدديون ليسوا ضد الوحدة المجتمعية بل هم ضمانتها الحقيقية. إن مستقبل مجتمعاتنا مهدد ليس من قبل التعدديين، بل هو مهدد من قبل من لم يكد يقبل بالخلاف ولم يستطع الخروج من شرنقة التصورات الشمولية البالية والمتجاوزة. التعدديون لا يريدون خرق وحدة المجتمع بل يريدون تأمين حد أدنى من الاختلاف الواعي المعبر عن نفسه في شتى التمظهرات والتعبيرات الجماعية. إنهم يريدون من المجتمع أن يكون أشبه بحديقة تنوعت ألوانها وأزهارها ولها راعٍ حميم تكمن مهارته كما يكمن شرفه في منح هذه الألوان من حسن التدبير ما تستحقه. إن راعي الحديقة لن يكون حكيماً وصاحب ذوق جمالي إذا هو أعلن انحيازه إلى لون واحد ونوع خاص من الأزهار التي بها جميعاً تتحقق جمالية المكان. هذا لا يمنع راعي الحديقة بما هو بشر عاقل أن يميل بقلبه وعقله لنوع دون نوع وإلى لون دون لون، ولكنه لا يميل كل الميل ويمحو ما عداها من أزهار وألوان متنوعة. راعي الحديقة يجب أن يكون عمليًّا منتمياً إلى هذا المجموع المتنوع يدبره بعناية ويخفي، بحكم وظيفته، كل ميل من شأنه أن يؤثر في جمالية المشهد. المجتمعات المتوحدة بالمعنى الساذج هي مجتمعات مملة تجلب السكونية والملل والعطالة للمجتمع. المجتمع الذي يفتقر لعبقرية المختلف، هو مجتمع عاجز عن الإبداع. المجتمعات المتعددة هي أكثر بأساً في الدفاع عن المشترك الجماعي والأكثر تقديراً للمواطنة. إذا تعمقنا كثيراً في هذا المعنى ندرك أن التعددية لم تكن أمراً شاذًّا نختلقه بل كانت دائماً أمراً طبيعيًّا نمنعه. الخائفون من التعددية -التي على كل حال تمارس في اللاوعي الجمعي- اللاجئون إلى الأساليب المتوحشة الاستئصالية في قمع التنوع، هم من يحرمنا من تطوير وسائل تدبيرنا للاختلاف والتنوع ويعرض مجتمعاتنا إلى أشكال من التصدع.
ماك إينيرني وقع هنا في التباس كبير حينما خلط بين أشكال من التنوع. سواء تلك التي توجد طبيعيًّا في المجتمع المدني أو ذلك القدر من التنوع حتى داخل مجتمع الكنيسة. إن المشكلة الكبرى التي لا تزال تعيق الفكر الأوروبي متى تحدث عن تجارب كنيسته أنه لا يرى ما حوله ولا يلتفت إلى تجارب الآخرين. فهو مع قبوله للتعددية في نطاق المجتمع الخاص لكنه يكفر بالتعددية على المستوى العالمي. وهو ما يفسر الغبن الذي تعيشه الثقافات التي في أفضل حالاتها لا يمكن التعاطي معها من ناحية المركز إلا كفولكلور وفرجة للتنفيس على قمع الحداثة وشراسة عقلها الأداتي. إن المجتمع حينما يتعدد، بل طبيعي أن يتعدد، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينقسم ثقافيًّا. إن وحدة المجتمع تتجلى في وحدة ثقافته. فالذين يبحثون عن الوحدة في عقائد الناس وآرائهم واختياراتهم التي تمليها عليهم قناعاتهم ومبادراتهم وتضمنها جملة الحقوق المدنية والإنسانية، هم في الحقيقة يبحثون عن مضادات تقدم المجتمع كما يبذلون الوسع عبثاً فيما لا مندوحة منه. إن الوحدة في المجتمع الغربي ليس فيما يبدو من اختلاف بين البروتستانتي والكاثوليكي من أفكار وطقوس.. الوحدة تكمن في طريقة العيش وطريقة التعاطي مع المحيط والتعبير عن الوجود الجماعي. فالكاثوليكي الأوروبي هو أقرب ثقافة إلى البروتستانتي الأوروبي منه إلى الكاثوليكي في أي مكان آخر. فما سمَّاه كاتبنا بالثقافات الثانوية الخاضعة للثقافة الواحدة، هو تعبير صحيح لكنه ملتبس، لأن الثقافة لا تقاس بالأوساق والكيلوغرامات. فأن يضع الإنجليزي الملعقة على وجهها ويضعها الفرنسي على ظهرها فوق المائدة، ليس حكاية عن فارق كبير. بل نكاد نجزم أن ثقافة الأمم اليوم أصبحت متقاربة أكثر على تنوعها الكبير.
* * *
لقد أصبحتُ على قناعة تامة بأهمية التعددية في حياتنا السياسية والثقافية. فبينما كنا ولا زلنا ندعو بعضنا إلى الوحدة ونضرب لهذا الكلام موعداً سنويًّا ونقيم مواسم للوحدة بين الفرقاء، نسينا أننا نستهلك عقولنا في دعوة ليس فقط أنها مخملية بامتياز، بل لا جدوى منها ولا مستقبل. أعتقد أنه وجب على دعاة الوحدة والتقريب بين المذاهب أن يدركوا أن أفضل طريق للوحدة الحقيقية هي الدعوة إلى التعددية وبناء نسق فلسفي متكامل حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه طبيعة التعددية في مجالنا العربي والإسلامي. إننا بذلك نُمكِّن أنفسنا من ثقافة الاختلاف داخل كيان ومصير مشترك يجعل الوحدة ممكنة وسريعة التحقق وليس مستحيلة وعسيرة الهضم كما فعلنا ولا زلنا نفعل. الشيعة والسنة لن يتوحدوا، لكنهم من الممكن بل من الواجب أن يتعايشوا. ولا طريق لتحقيق هذا التعايش إلا بتكريس ثقافة التعددية وتحصينها بمساطير قانونية ومواثيق أخلاقية. التعددية ليست بديلاً عن الوحدة، فتلك مقابلة مغشوشة حتى وإن ذهب إليها صاحب النص المترجم، بل خلافاً لذلك أعتقد أن التعددية هي معانقة للحقيقة. هي تكريس واقعي لما هو واقعي من أجل التقدم به واقعيًّا إلى وحدة واقعية. ملا صدرا تحدَّث في نطاق جدل الوحدة والكثرة بما هو مهم يصلح رافداً ومخرجاً فلسفيًّا لهذا النزاع: الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة. وتلك في نظر هذا الأخير المخرج الوحيد لتعقل العلاقة بين وحدة الوجود وكثرة العالم.
وفيما يلي النص المترجم للاستفادة:
التعددية بين المجتمع المدني والكنيسة
د. ك. ماك إينيرني http://www.kalema.net/v1/?wri&cv=-1
تبدو النخب المثقفة عموماً على قناعة بأهمية التعددية. ولذلك تراهم يُكثرون الحديث حولها ويُظهرون فكرتها بحماسة زائدة. وحسب الخبراء، فإن مجتمعنا تحديداً هو في حاجة إلى التعددية -وأخاها التوأم: التنوع- لاكتساب الصحة والثروة والحكمة. في حين أن آخرين يذهبون إلى حد إعلان الأمر نفسه فيما يتعلق بالكنيسة. ويطمئنوننا بأن كمية مهمة من التعددية هو تماماً ما تحتاج إليه الكنيسة للشفاء من كل أمراضها.
وبناء على الأهمية التي نمنحها للتعددية في راهننا، أصبح الوقت مناسباً لمعالجتها بعناية. فلنبدأ إذن بمحاولة تحديد ما يوجد في أذهان الناس متى تحدثوا عن التعددية وعرضها.
إننا نواجه مشكلات حقيقية، مشكلات تتعلق بالوضوح، أو بتعبير أدق تتعلق بغياب الوضوح.
إن ما يبعث على الحيرة هو أننا نلاحظ أن خصوم التعددية يخضعون في حماستهم وتفكيرهم لتوجيهات أفكار ملتبسة وضبابية تتعلق بموضوع ولائهم.
إنني لم أظفر من أنصار التعددية بأي تعريف دقيق لما يعرضونه، وأشك في أننا قادرون على الظفر بمثل هذا التعريف في ترسانتهم الثقافية. من جهة أخرى الأمر ليس مألوفاً. فكثيراً ما يحدث أن أنصار مذهب ما تحركهم أفكار سديمية المعنى على وجه الخصوص. بالإضافة إلى ذلك، يبدو كلما كبر الحماس، تكون الأفكار المحيطة بهذا المذهب غامضة.
يكون إذن من المفيد توضيح أفكارنا المتعلقة بمفهوم التعددية هذا. فماذا تعني التعددية؟
إن التعددية، أساساً وبلحاظ وجهة نظر التمييز الفلسفي الكلاسيكي بين الواحد والكثير، هي ببساطة الكثير المقابل للواحد. بعبارة أخرى، التعددية هي نقيض الوحدة.
إذا ما طبقنا هذا التأويل الفلسفي الأساسي على المجتمع الإنساني -وهذا النوع من التطبيق هو تحديداً ما يهم أنصار التعددية خاصة- نكون مضطرين بعدئذ إلى التمييز بين التعددية الخيّرة والتعددية الخطيرة.
إن التعددية الخيرة مهما اختلفت عن الوحدة فهي لا تُشكِّل نقيضها. يمكننا أن نطلق عليها اسم التعددية الطبيعية. فهي نفسها التعددية التي نجدها في التنوعات والاختلافات التي نتوقعها في المجتمع الإنساني. التي تجد منبعها في الوحدة الخاصة بكل فرد شخص.
التعددية الخيرة بما أنها طبيعية، فهي أمر جيد.. يمكننا التمثيل للتعددية الخيرة بتنوعات الوحدة الجذرية الأساسية لكل مجتمع. فالأمر الأكثر أهمية فيما يتعلق بالتعددية الخيّرة هو أنها ليست نقيضاً لوحدة المجتمع، بل هي مستوعبة داخل هذه الوحدة. إن مجتمعاً ما يفتقر إلى هذا النوع من التعددية سيصبح متجانساً بكيفية خطرة، وآحادي بقسوة.
وعلى الرغم من كون التعددية الخيرة أمراً طبيعيًّا إلا أن بإمكانها أن تتعرض للمحو. وهذا تحديداً ما تسعى المجتمعات الشمولية جهدها لتحقيقه.
إن أهم ميزات التعددية الخيرة هو مساندتها الدائمة -ودعمها النشيط في أفضل مظاهراتها- للوحدة الأساسية لكل مجتمع.
الخاصية الأخرى المميزة للتعددية الخيرة تتجلى في كونها تكفي نفسها بنفسها. فبما أنها لازمة لكل مجتمع سليم، فهي لا تحتاج أن يُعمل لأجلها بنشاط زائد.
إن التعددية الخطيرة هي للأسف ضرب من التعددية التي ينادي بها اليوم قسم كبير من النخبة المثقفة. ولا ينبغي بالضرورة أن نستنتج أن عرضهم هذا للتعددية يتم بنية سيئة. فقد تكون نياتهم هي الأفضل في الدنيا، إلا أنهم يلعبون بالنار. ففي مقدورهم أن يتمنوا مجتمعاً أكثر سلامة، لكن التعددية التي ينادون بها، إذا ما اندفعت بعيداً بصورة كافية، فمن شأنها أن تؤدي فعلاً إلى انحلال المجتمع، وهذا لأنها نقيض مباشر لوحدة المجتمع. إن تعدديتهم مخططة سلفاً، ومثل هذا يجب أن يفرض على المجتمع المستهدف. فليس من قبيل الصدفة إذا ما رأيت عدداً من أنصار التعددية يظهرون كل الميول المتأصلة لمعالجي البنى الاجتماعية. إنهم الأشخاص الذين يحبون تكييف المجتمع مع المعايير الأيديولوجية التي ينادون بها.
إن التعددية كما يفهمها عادة دعاتها المعاصرون ليست -لنقل ذلك بصراحة- أمراً جيداً. إنها بصراحة تعددية خطيرة حيث تناهض مباشرة الوحدة التي من دونها لا يستطيع أي مجتمع البقاء. إن مملكة منقسمة على نفسها لا يمكن أن تبقى.
إن نوع التنوع الذي ينبغي للمجتمع أن يتبناه من قبيل التنوع اللغوي والثقافي وأسلوب العيش... إلخ، يؤدي على المدى البعيد، إلى موت هذا المجتمع.
عند تأمل التنوع الثقافي، لا يوجد مجتمع يستطيع أن يكون متنوع الثقافة بالمعنى الحقيقي للعبارة، ويُؤمِّن في الوقت نفسه الكمال الاجتماعي.
فأن يكون لديك عدد من الثقافات هذا يعني أن يكون لديك عدد من المجتمعات.
يمكن لمجتمع أن يضم مختلف الثقافات الثانوية الخاضعة للثقافة المهيمنة التي تحددها، لكن هذه مسألة أخرى وليس هو ما يضمره عموماً أنصار التعددية.
إذا كان العرض الإيجابي للتعددية خطيراً بالنسبة للمجتمع المدني، فهو مضاعف الخطورة بالنسبة لذلك المجتمع الموحد، ألا وهو الكنيسة.
إن واحدة من العلامات المميزة للكنيسة، كما نعلم، هو كونها واحدة، وتعكس بذلك الوحدة المطلقة لمنبعها الإلهي.
إن وجود كنيسة تعددية يشكل تناقضاً في المفاهيم، وبالدقة سيكون تناقضاً من الدرجة نفسها لتربيع الدائرة.
Tiré d’une collection des écrits de D. Q. McInerny intitulée -Perennial Wisdom for Daily Life, disponible chez: The Priestly Fraternity of St. Peter (Canada) Inc. P.O. Box 7248 Station V - Vanier, ON, K1L 8E3.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.