فقدت الساحة الفنية المغربية، أمس الثلاثاء، واحدا من أبرز وجوهها وأصواتها المميزة؛ الممثل القدير عبد القادر مطاع، الذي شكل رحيله نهاية فصل مضيء من تاريخ المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون بالمغرب. لم يكن مطاع مجرد ممثل مخضرم؛ بل مثّل رمزا لجيل آمن بأن الفن رسالة، واعتبر الصدق في الأداء جوهر المهنة قبل كل شيء. ولد عبد القادر مطاع سنة 1940 بدرب السلطان في مدينة الدارالبيضاء، في كنف أسرة متواضعة فقدت عائلها مبكرا، لتجد الأم نفسها تتحمل مسؤولية تربية ابنها الوحيد، وهي تعمل طباخة لدى أسرة فرنسية؛ وهي النشأة القاسية التي ستترك بصمتها في شخصيته، إذ سيكبر الطفل عبد القادر على وقع الحاجة والكفاح، حاملا منذ صغره إحساسا بالمسؤولية ورغبة في تجاوز واقع الفقر والحرمان. اضطر مطاع إلى الانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة، بعد أن أنهى فقط السنة الثانية الابتدائية، لينخرط في سوق العمل متنقلا بين مهن بسيطة وشاقة؛ فاشتغل تارة نجارا، ثم في إصلاح الدراجات، وتارة أخرى عمل في مطحنة للملح وبائعا للخضر. كما لم يتردد في مساعدة النساء في نسج الزرابي، فكانت تلك التجارب مدرسة قاسية منحته حسا واقعيا عميقا، سيظهر لاحقا في أدائه الصادق على الخشبة وأمام الكاميرا. وعلى الرغم من ضيق العيش، فإن الشاب عبد القادر مطاع وجد في الكشافة والمخيمات الصيفية متنفسا مختلفا، فتح أمامه بابا نحو الفن، إذ بدأ يشارك في سكيتشات وعروض كشفية بسيطة كشفت عن موهبته الفطرية وقدرته على شد الجمهور دون تصنع؛ فكانت تلك الشرارة الأولى لمسار فني طويل، سيكتب لاحقا إحدى أجمل صفحات الفن المغربي. بدأ عبد القادر مطاع مسيرته الفنية الفعلية في مطلع الستينيات بمسرحية "الصحافة المزورة" إلى جانب الفنان محمد الخلفي؛ وهي التجربة التي شكلت أول احتكاك له بالجمهور، قبل أن يلتحق بفرقة المعمورة للمسرح، حيث صقل موهبته إلى جانب رواد الخشبة المغربية واكتسب تجربة مهنية غنية جعلته من أبرز ممثلي جيله. ومنذ ذلك الحين، ظل هذا الاسم الفني حاضرا في مختلف أشكال التعبير الفني؛ من المسرح إلى السينما، ومن التلفزيون إلى الإذاعة. على الخشبة، أبدع ابن درب السلطان في أعمال خالدة؛ مثل "أمجاد محمد الثالث" و"سيدي عبد الرحمان المجدوب"، التي جسد فيها عمق التاريخ والوجدان الشعبي. في السينما، تألق في فيلم "وشمة" للمخرج حميد بناني، الذي فاز بجوائز دولية وكان علامة فارقة في مسار السينما المغربية. أما في التلفزيون، فقد حجز مطاع لنفسه مكانة خاصة في قلوب المغاربة من خلال شخصية الطاهر بلفرياط في مسلسل "خمسة وخميس"، التي تحولت إلى إحدى أشهر الشخصيات في تاريخ الدراما المغربية؛ لما حملته من صدق إنساني ودفء شعبي جعلها تعيش في ذاكرة الجمهور لعقود. وإلى جانبها، تألق الراحل في أعمال مثل "ذئاب في الدائرة"، "ميلود ورابحة"، "عنداك أ ميلود"، "الربيب" وغيرها من الأعمال التي أكد من خلالها تنوع أدائه وقدرته على التجدد عبر الأجيال. وفي الإذاعة، كان صوته جزءا من الذاكرة السمعية المغربية، إذ انضم إلى الفرقة الوطنية للتمثيل الإذاعي، وشارك في مئات الأعمال التي تابعها الجمهور بشغف، كما كان أول صوت مغربي يسمع عند انطلاق إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية من باريس سنة 1980، في لحظة شكلت علامة مضيئة في مسيرته الطويلة. هذا الحضور البهي في المشهد الفني خف خلال السنوات الأخيرة، بعدما توارى عبد القادر مطاع عن الأنظار بسبب المرض الذي أنهك جسده على مدى سنوات طويلة، حيث عانى الراحل من أزمات صحية متتالية انتهت بفقدانه البصر؛ الأمر الذي اضطره إلى الابتعاد عن الأضواء والمكوث في منزله، بعيدا عن دفء جمهوره وزملائه في الوسط الفني الذين ظلوا يكنون له محبة كبيرة وتقديرا لا يزول. وبرحيل عبد القادر مطاع، فقد المغرب فنانا بدأ من العدم وبلغ القمة بإصراره وموهبته الصادقة، فلم يكن مجرد ممثل؛ بل شكل ضميرا فنيا حمل صدق الإنسان في كل أدواره، وصوته ما زال يهمس في ذاكرة المغاربة الذين كبروا على حضوره الدافئ.