عاد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى واجهة المشهد السياسي بدعوات "التحرك الوطني" ومواجهة ما يسميه "فساد حكومة أخنوش". خطابٌ قد يبدو، في ظاهره، دفاعاً عن المصلحة العامة، لكنه في عمقه لا يخرج عن كونه بداية حملة انتخابية مبكرة يحاول من خلالها بنكيران إعادة تموقعه سياسياً بعد سنوات من الغياب. المغاربة يعرفون بنكيران جيداً، ويعرفون أسلوبه وخطابه، ويعرفون أيضاً أن الذاكرة الجماعية ليست قصيرة كما يعتقد. فمن يتحدث اليوم عن الفساد هو نفسه من أطلق عبارته الشهيرة "عفا الله عما سلف"، موجهاً رسالة سياسية واضحة لمختلسي المال العام وكبار المفسدين، على الهواء مباشرة، دون محاسبة ولا ربط للمسؤولية بالمحاسبة. وحين تعالت الانتقادات، انتقل بنكيران إلى خطاب "التماسيح والعفاريت"، معترفاً بشكل ضمني بعجزه عن مواجهتهم، قبل أن ينقلب لاحقاً 180 درجة – بل 360 درجة – ويتحالف مع حزب سبق أن نعت زعيمه بأقسى الأوصاف السياسية. خلال تجربته على رأس الحكومة، ارتكب بنكيران أخطاء جوهرية كان بالإمكان تفاديها دون تشنج أو صدام، من بينها : أولاً : التفريط في التحالف الحكومي مع حزب الاستقلال، بدل تحيين البرنامج الحكومي وإعادة هندسة الحكومة بما ينسجم مع الظرفية الاقتصادية الصعبة آنذاك، وهي ظرفية كانت تتطلب حكمة سياسية لا منطق كسر العظام. ثانياً : عدم تفعيل مبدأ استمرارية الدولة، من خلال توظيف المعطلين الذين تم التوقيع على محاضر إدماجهم في عهد الوزير الأول السابق عباس الفاسي. كان بالإمكان إخضاعهم لتكوين يؤهلهم للوظيفة العمومية، بدل دفعهم إلى المحاكم والاعتصامات والاحتجاجات. ثالثاً : انشغال رئيس الحكومة بالرد على منتقديه والدخول في سجالات خطابية عقيمة، عوض التفرغ للمعضلات الكبرى والقضايا الاستراتيجية التي تهم الاقتصاد والتنمية والعدالة الاجتماعية. رابعاً : التشبث بوزير انسحب حزبه من الحكومة وتم طرده من حزبه، في خرق واضح لأبسط قواعد الأخلاق السياسية واحترام المؤسسات الحزبية، وهو ما أضعف منسوب الثقة في العمل الحكومي. خامساً : اللجوء السهل إلى جيوب المواطنين عبر الزيادات في الأسعار لمعالجة الأزمة المالية، بدل ابتكار حلول حقيقية قائمة على استقطاب الاستثمارات الدولية وتشجيع الاستثمار الوطني ورفع نسبة النمو. سادساً : إغلاق باب الحوار مع الفرقاء الاجتماعيين والنقابات، وهو ما فتح الباب على المجهول وأجج الاحتقان الاجتماعي، وكانت كلفته السياسية والاجتماعية باهظة. نتيجة هذه الاختلالات، انسحب حزب الاستقلال، ودخلت البلاد في فراغ حكومي دام أشهراً، قبل تشكيل حكومة موسعة بتناقضات داخلية واضحة، وتضارب في الاختصاصات، جعل استمرارها إلى نهاية ولايتها أمراً مستبعداً منذ البداية. السؤال الجوهري اليوم، يسأل المغاربة بنكيران بوضوح .. أين كنت خلال السنوات الأخيرة؟ ولماذا لم يظهر هذا "الزخم النضالي" إلا مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية؟ الخطابات النارية لا تمحو أخطاء الماضي، ورفع شعار محاربة الفساد لا يكتسب المصداقية إلا حين يكون مقروناً بالفعل، لا بالمزايدة. فالمغاربة قد يختلفون سياسياً، لكنهم يتفقون على أمر واحد، وهو أن ذاكرتهم ليست ضعيفة، ولا تنطلي عليهم إعادة تدوير الخطاب نفسه كلما اقتربت الانتخابات.