مناقشة هادئة لسليمان الريسوني قرأت تدوينة طويلة للصحافي سليمان الريسوني، حمل فيها المسؤولية للمغرب، في سوء العلاقة مع الجزائر، بسبب تطبيعه مع إسرائيل. وصور النظام الجزائري كنظام غيور على مصالح العرب والمسلمين، مدافع عن القضية الفلسطينية، محارب من أجلها. وأن المغرب هو الذي يفتعل المشاكل، بجلبه للقوى الاستعمارية للمنطقة، ولولا سياسة النظام المغربي وعلاقته مع إسرائيل لكانت الأمور بخير وعلى خير. وهذا نقاش هادئ، لما ورد في تلك التدوينة: على مدى ستة عقود، يمكننا أن نرى تواجد الجزائر المباشر، أو أثر تواجدها. في كل تهديد يمس المغرب، طيلة هذه المدة الطويلة. بخلاف المغرب الذي لم يتدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، ولم يكن عنصر فتنة أو قلاقل في المنطقة، ولم يسعى لقلب النظام في الجزائر، ولا لمحاربته، ولا لتقسيم الجزائر، ولا لدعم أي حركة انفصالية، أو معارضة مسلحة جزائرية... القصة بدأت مع استقلال البلدين، عندما اختار كل بلد المحور الذي ينحاز إليه ويتحالف معه. اختارت الجزائر المحور الاشتراكي القومي، محور تصدير الثورات ودعم الانقلابات وتفريخ (حركات التحرر)، والتدخل في دول الجوار. كما اختارت نظام حكم جمهوري اشتراكي، قائم على نظام الحزب الواحد، تحت مظلة المؤسسة العسكرية. واعتبرت الجزائر نفسها مسؤولة عن نشر الثورة ومحاربة الأنظمة الرجعية في المنطقة. في حين اختار المغرب استمرار الملكية، وتحديثها في إطار نموذج المعسكر الغربي، شأنه في ذلك شأن باقي الملكيات في المنطقة. وبدل التدخل في شؤؤن الغير وتصدير الثورات أو دعمها، اختار أن ينكفىء على نفسه، داخل حدوده، ويهتم بأموره، ويستكمل استقلال بلاده. كانت الجزائر كغيرها من الأنظمة الثورية الاشتراكية، تعادي الأنظمة الملكية، وتصفها بالرجعية، لأنها لم تتبنى لا الثورة ولا الاشتراكية. والمغرب الذي اختار طريقا ليبراليا ملكيا محافظا، كانت الجزائر تراه عدوا، حتى لو لم يمسها بسوء. وترى قربها من المعسكر الشرقي إنجازا وميزة، تعطيها الحق أن تُقَيِّم أخلاقيا اختيارات وتوجهات الآخرين. بل وتحاربهم أيضا، حتى وإن لم يهددوها بشيء. لذلك سعت وعملت ما في وسعها، لقلب النظام في المغرب، أو تقسيم أرضه، أو زرع الفتن داخله، أو احتضان الحركات المسلحة يسارية أو إسلامية، وتدريبها وتمويلها وتوجيهها... لم تكن الجزائر وحدها التي سعت في محاربة ما كانت تسميه الرجعية والظلامية والإمبريالية، وتحويل المغرب لجمهورية قومية اشتراكية، بل سعت في ذلك ليبيا القذافي بكل ما أوتيت من قوة. ومصر عبد الناصر أيضا، ودول عربية قومية أخرى. لكن الجزائر كانت في المقدمة، وعملت بجد وواصلت الليل بالنهار، في محاربة المغرب، تارة بالتحرش به عسكريا بشكل مباشر، وأخرى بدعم المعارضة المسلحة الإسلامية والقومية واليسارية... ومرة باحتضان الانفصاليين الصحراريين، وأخرى باحتضان الانفصاليين الريفيين. بل نجد أصابع الجزائر حتى في عمليات إرهابية كعملية أطلس أسني بمراكش. هذا العدوان وهذا التحرش بقي مستمرا ومتواصلا لم ينقطع، على مدى أزيد من ستين سنة. ومنذ انطلاق عدوانها، جلبت الجزائر، كل مرتزقة المعسكر الشرقي وأسلحته، واستعانت بالاتحاد السوفياتي، الذي كان حينها يوغل في دماء المسلمين ويقتلهم ويشردهم، ويحتل أراضيهم. ولم تجد الجزائر أي حرج في الاستعانة بهذه الدولة الغاشمة، وجلبها للمنطقة. شكلت خبرات المعسكر الشرقي العسكرية، من أسلحة سوفياتية متطورة، وخبراء عسكريين، ومرتزقة من دول اشتراكية كثيرة، تهديدا خطيرا للمغرب، كادت معه تنقلب موازين القوى، وكاد المغرب أن يستباح من طرف الجزائر ومرتزقتها. التي عاثت في جنوبه فسادا، قتلا واختطافا واغتصابا، وإسقاطا للطائرات... وجد المغرب وجد نفسه مهددا محاصرا مهاجما، من دول المعسكر الشرقي، التي تريد تصدير الثورة، أو دعم الانفصال، تحت مسمى دعم حركات التحرر. كما أن الملكية وجدت نفسها مهددة من هذا التوجه الاشتراكي الثوري، ورأت في إسقاط الملكية في مصر وفي ليبيا، على يد هذا التيار، خطرا محدقا. ثم تبين لها ذلك ورأته رأي العين في دعم الجزائر لجماعة البوليساريو، التي تبنت هي الأخرى نفس الأيديولوجية، وأصبحت مدعومة من دول عربية وإسلامية وإفريقية شقيقة. كان المغرب مهددا ليس فقط من البوليساريو وراعيتها الجزائر، وأسلحة الاتحاد السوفياتي. بل وأيضا من الدعم الذي تقدمه موريتانيا وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن وإيران... وأحزاب وجماعات وتيارات في دول شقيقة أخرى، وحوالي ثلاثين دولة إفريقية، ودول من أمريكا اللاتينية ككوبا وفينزويلا وغيرها، والصين وفيتنام وكوريا الشمالية وألمانيا الشرقية. كل هؤلاء جلبوا بخيلهم ورجلهم وأسلحتهم وأموالهم وخبرائهم العسكريين ومهندسيهم وتقنييهم ومستشاريهم، ودعمهم الديبلوماسي والسياسي... من أجل تهديد أمن واستقرار واستقلال ووحدة المغرب والمغاربة. في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، شن المرتزقة مدعومين بالجزائر وليبيا، أخطر عدوان تعرض له المغرب. ليس من أجل تحرير مايزعمون أنها أراضيهم، بل من أجل تهديد كامل الواحات الواقعة جنوب درعة، وهي خارج النزاع أصلا. فعلوا ذلك بعد أن تلقوا أسلحة سوفياتية متطورة، لم يستطع المغرب التعامل معها. فتكبد خسائر فادحة ليس في العتاد فقط، ولا في أرواح العسكريين وحدهم، بل في أرواح المدنيين أيضا. وجد المغرب نفسه مضطرا للاستعانة بخبرات المعسكر الغربي العسكرية، فكانت أسلحة فرنساوأمريكا، وتقنيات إسرائيل، وتمويل السعودية... هي التي تصدت لأسلحة الاتحاد السوفيتي المتطورة، التي كادت الجزائر ومرتزقتها أن تبيدنا، وتحتل أرضنا بها. هذا التصدي المغربي، الذي أفشل خطط المعسكر الشرقي، واستعانته بحلفائه من المعسكر الغربي، أثار حنق الجزائريين، الذين كانوا يسعون لإثارة الفوضى في المغرب، وتقسيمه واحتلاله، فلم يجدوا شماعة يعلقون عليها فشل خطتهم، سوى ترديد أن المغرب تحالف مع إسرائيل. ولو كان الجزائريون منصفون، لاعترفوا أولا أنهم تحالفوا قبل المغرب مع الاتحاد السوفيتي، العدو الأول للمسلمين آنذاك، تحالفوا مع دولة ارتكبت المجازر في المسلمين، في نفس التاريخ الذي كانت تحتل فيها افغانستان. بل قبل هذا التاريخ، وعلى مدى سنوات منذ 1944، هجر الاتحاد السوفياتي شعوبا مسلمة بكاملها. من شيشان وأنغوش وتتار قرم... في ظروف قاسية، مات بسببها عشرات الآلاف بالجوع والبرد والمرض. فضلا عن اغتيال آلاف النخب الإسلامية، من دعاة ومفكرين وعلماء.. خلال حملات التطهير. وسجن آلاف آخرين، في معسكرات العمل القسري، بتهم واهية مثل معاداة الثورة، أو الرجعية الدينية... بالإضافة لدعم الأنظمة القمعية والشمولية الشيوعية، ضد شعوبها. كل هذه الجرائم وغيرها، ثم تزايد الجزائر على المقربين من المحور الغربي. كأن المحور الشرقي مجموعة من الملائكة، وكأن الاستعانة بالشيوعيين لتخريب دول الجوار حلال، والاحتماء بالإسرائيليين من هذا التخريب حرام. لو كان الجزائريون منصفون، لاعترفوا أنهم هم الذين دفعوا المغرب للاستنجاد بأسلحة وأجهزة أمريكا وإسرائيل، للتصدي لأسلحة السوڤييت. كان بإمكان الجزائر التراجع عن أطماعها وأحلامها الثورية والقومية والاشتراكية... وبناء تحالف قوي في المنطقة مع المغرب. كان بإمكان الجزائر أن لاتدعم البوليساريو، والمعارضة المسلحة، وأن لاتجلب لنا أسلحة ومرتزقة المعسكر الشرقي، لتهدد بها وحدة واستقرار المغرب. لكن حتى بعد أن فعلت ما فعلت، بقي المغرب يمد يده في كل مرة، والجزائر تقرأ ذلك على أنه ضعف، وتستمر في التصعيد. وهكذا على مدى أزيد من نصف قرن، إلى أن وصلنا للخمس سنوات الأخيرة. حيث اعتزمت الجزائر أن تشعل الحرب مجددا، وحركت أدواتها، ونصبت أسلحة روسية جديدة متطورة على الحدود، وأصبح التهديد مباشرا لأمن المغاربة. تحرك مجددا حلفاء المغرب، بطرق شتى، فلم تجد الجزائر من شماعة، سوى أسطوانة التطبيع المشروخة. كلما طورت الجزائر قدراتها العسكرية، واقتنت أسلحة جديدة، من روسيا وبقايا المعسكر الشرقي، في سباق محموم نحو التسلح، من أجل ردع وإرهاب المغرب. ورد المغرب باقتناء أسلحة وأجهزة متطورة من المعسكر المقابل، لصد العدوان، وخلق التوازن. يجن جنون الجزائريين، ويغطون على إحباطهم وسعارهم، بإخراج ملف التطبيع، ويروجون خطابا شعبويا مفاده، أنهم ضد المغرب فقط لأنه طبع مع إسرائيل، مع أن الجميع يعلم أن مشكلة الجزائر مع المغرب، كانت قبل التطبيع، وأنها هي من جلبت دولة عدوة للمسلمين، كالاتحاد السوفياتي، ولايحق لها أن تزايد على المغرب في ذلك، وأن المغرب عندما يتعامل مع إسرائيل وأمريكا، فهو يفعل ذلك في إطار خلق التوازن، الذي تسعى الجزائر لإمالة كفته لصالحها، بالاستعانة بالروس. كما أنه توجد دول إفريقية كثيرة تربطها علاقات مع إسرائيل، ومع ذلك لم تشنع عليها الجزائر، بل إن موريتانيا كانت علاقتها مع إسرائيل أوضح وأقوى وأمتن، ومع ذلك لم تشنع عليها الجزائر، ولا حاربتها ولا قطعت علاقتها معها. مما يؤكد أن معاداة المغرب بسبب علاقته الاضطرارية مع إسرائيل، مجرد شماعة تعلق عليها الجزائر، فشل مؤامراتها. ثم الجزائر إن ليست وصية على دول العالم، ولا هي معنية بالعلاقات التي يقررون بدأها أو استئنافها أو قطعها، مع أي دولة. فكيف تعطي دولة لنفسها الحق، أن تمارس الوصاية على دولة أخرى، وتقرر لها في سياستها الخارجية؟ صعدت الجزائر تصعيدا خطيرا، وقطعت العلاقات وهددت وأرعدت وأرغت وأزبدت، لا لشيء، إلا لأن المغرب تصدى لمؤامراتها وأفشل خططها، وتدخل بحزم في قضية الكركرات، وقضى على حلم التقسيم الذي يحلم به الجزائريون، ثم استعان بالطائرات المسيرة التركية، ووأد حلم المرتزقة الانفصاليين، وأصبحت المناطق الواقعة شرق الجدار، محرمة عليهم، كما حرم الله الأرض المقدسة على بني إسرائيل، لكن المغرب حرمها عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا أن يدخلوها كمغاربة، أو كسياح محترمين. ومع كل التآمر الذي تقوم به الجزائر، إلا أنها تصر على أنها ليست طرفا في أي صراع، وأن دعمها للبوليساريو، يأتي انطلاقا من سياستها الداعمة لحركات التحرر، أينما وكيفما كانت، وإيمانها المبدئي بحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبالتالي فهي لا تفعل ذلك لأنها تعادي المغرب أو عندها أطماع فيه، بل تفعله لأنه حق، والحق أحق أن يتبع، حتى إن أغضب الجميع. فهل فعلا الجزائر، تقول الحق وتدعمه، حتى إن أغضب الجميع؟ وهل هذه القضية مبدئية عندها، توليها الأولوية على حساب أي اعتبار آخر؟ الجواب الذي يعلمه الجميع، هو : لا، والدليل هو: لماذا لا تعطي الجزائر لمنطقة القبائل استقلالها، وتترك القبايليين يقررون مصيرهم؟ لماذا لا تدعم استقلال إقليم كاتالونيا شمال شرق إسبانيا؟ لماذا تدعم وحدة الصين، وترفض الاعتراف بتايوان التي تعتبر نفسها دولة مستقلة؟ لماذا لا تدعم انفصال تيغراي في إثيوبيا؟ لماذا لا تدعم استقلال إقليم كوسوفا المسلم وترفض الاعتراف به إقليما مستقلا عن صربيا، وتنحاز بالمقابل لصربيا التي ارتكبت المجازر بالمسلمين؟ يتضح إذن أن دعم حركات التحرر، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، هي مجرد شماعات ومبررات واهية، مثل التطبيع. تستعملها الجزائر في خطابها الشعبوي. الذي لا يغير شيئا من الحقيقة المرة، وهي فشل كل مؤامرات وخطط الجزائر، على مدى كل هذه العقود. بعد أن أوصد المغرب كل أبواب الفتن التي حاولت الجزائر فتحها، وأطفأ كل نيران الفتن، التي سعت الجزائر لإشعالها، مستغلا علاقاته مع أمريكا وتركيا وإسرائيل والسعودية وقطر والإمارات وفرنسا وإسبانيا... استمر في عمل دبلوماسي دؤوب، لمحاصرة الأطروحة الانفصالية وداعميها. في كل هذه الفترة، كانت يد المغرب ممدودة للجزائريين، يطلب منهم أن يجلسوا كعقلاء راشدين، لحل هذا النزاع المفتعل، لكنهم كانوا يستغشون ثيابهم ويصمون آذانهم. ظانين أن أسطوانة أن المغرب بلد مطبع ستنطلي على العالم، وأنها كافية في عزل المغرب وإسقاطه، رغم أنهم يعلمون جيدا، أن كلامهم مجرد شعارات جوفاء، وشماعة يعلقون عليها فشلهم، ويخفون وراءها نواياهم ومؤامراتهم. كان بإمكان الجزائر أن تخرج رابحة من هذا الصراع الذي افتعلته، كان بإمكانها إلى آخر لحظة أن تتراجع، عن مؤامراتها المستمرة ضد المغرب، لكنها فضلت أن تواصل بنفس الضجيج والصراخ والخطاب الفاشل. إلى أن تغيرت موازين القوى، بفضل سياسة المغرب الهادئة. الآن الجزائر سيفرض عليها حل أكيد لن تكون راضية عنه. كما سيفرض عليها سلام، ستدفع ثمنه. ثم ها هي تتسبب بجلب قوة استعمارية أخرى، بسبب تعنتها ورفضها التخلي عن مؤامراتها. ها هي تجلب قوة استعمارية لطاولة التفاوض مع المغرب، ليس ليرعى المفاوضات، بل ليفرض رؤيته بشروطه. التاجر دونالد ترامب، لا يتدخل في سبيل الله، بل يتدخل فارضا رؤيته على الجميع، وأيضا محددا مسبقا أرباحه في هذه الصفقة. كان بإمكان الجزائر أن ترد على يد المغرب الممدودة، وتجنب المنطقة حلا خارجيا، وتدخلا قسريا، سواء تعلق الأمر بقرار مجلس الأمن المنتظر بعد أيام، أو خطة ترامب المنتظرة بعد أسابيع. جلبت الجزائر للمنطقة في السابق الاتحاد السوفياتي، وتسببت في استعانة المغرب بالتقنيات الإسرائيلية، ليتصدى للتقنيات السوفياتية ثم الروسية. وهاهي الآن تجلب لنا ترامب، بعد تعنتها، ورفضها سياسة اليد المغربية الممدودة. الآن سيلوي ترامب يدها، وستقبل وهي صاغرة، بعد أن خسرت أموالا طائلة من رزق الجزائريين، في سبيل قلب نظام حكم دولة جارة، وتصدير الثورة القومية الاشتراكية لها، والسعي لتقسيمها، تارة من جنوبها وتارة من شمالها.... كل هذه المؤمرات أفشلها المغرب بتحالفاته. أما المغرب فلن يخسر شيئا، لأن استعادة أراضيه واستعادة جيرانه، واستعادة السلام والاستقرار في المنطقة، مهما غلا ثمنه، فهو رخيص.