كثيرا ما تكون أحداث بسيطة وراء إنجازات عظيمة إذا ما هي صادفت من يلتقط إشاراتها الخفية وأشعتها السينية التي لا ترى بالعين المجردة ويحولها إلى صور قابلة للقياس والمعاينة. ولعل المثال الذي يتبادر إلى الذهن والذي صار معلوما من العلوم بالضرورة هو ما حدث مع أب الفيزياء الكلاسيكية إسحاق نيوتن عندما استطاع أن يحول الحدث البسيط المتمثل في سقوط تفاحة من شجرة إلى اكتشاف مذهل فك العديد من ألغاز هذا الكون العظيم ولا زال إلى حد الساعة يشكل القانون الأساس من قوانين الفيزياء الكلاسيكية : إنه قانون الجاذبية « p=mg » .ذالك السقوط كان مجرد حدث أكثر من عادي وهو في نظر العديد ممن لا يستخدمون عقولهم لا يستحق حتى مجرد الانتباه إليه بله التساؤل حوله والتوجه إلى دراسته وتحليله. ويحضرني هنا قول البارئ سبحانه وتعالى : " وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ". كانت هذه السطور مجرد مقدمة لما أردت أن أشارك به القارئ العزيز وخصوصا اللذين وهبوا أنفسهم للعلم والمعرفة، إنه موضوع التقاط الإشارات البسيطة ومحاولة استثمارها وتفكيكها من أجل الوصول إلى نتائج لا تقل عما وصل إليه نيوتن. وأصل هذا الموضوع أني كنت قد دخلت في حوار مع زميل لي- وهو بالمناسبة مهندس ميكانيكي وكان قد أصيب بنزلة برد- فتحدثنا عن السبب وكون "التيار الهوائي" هو من بين أكثر المسببات، وخصوصا إذا كان المرء في بيت أو مكتب فيكون الباب والنوافذ منغلقة ثم فجأة يقوم بفتحها فيتدفق التيار الذي كان ضاغطا على مساحة الباب أو النافدة ، وبالتالي فإن أول اصطدام للإنسان مع الدفعات الأولى للتيار هي التي تتسبب في النزلة. ثم بعد ذالك تحول النقاش إلى مستوى آخر عندما حاولت إقناعه أن ضغط التيار الهوائي في نقطة التماس مع مساحة الباب أو النافذة يكون أكثر منه في أي نقطة من مجر ى الهواء. إلا أن صاحبي أصر على وجود نفس قياس الضغط في جميع نقط الهواء. ليس المهم الآن أن نحدد من رأيه أصوب فربما يكون صديقي على حق بحكم تخصصه في الهندسة الميكانيكية -أما الهندسة المعلوماتية التي أتخصص فيها فلا علاقة لها بالقوى والضغط والحركة وغيرها من الخصائص والمقادير الفيزيائية-وإنما منهج النقاش ما يعنيني حيث طلبت منه- حتى نخرج من الجدال- أن نفكر بطريقة عقلانية علمية ومن ذالك ما هي التجربة التي يمكن القيام بها من أجل التحقق من الفرضيات التي سقناها ؟ وهنا أترك الكلام لطلبة الفيزياء والكيمياء ليحلوا هذا التمرين البسيط أما أنا فأعود لأقول انظروا كم يمكن لأحداث بسيطة أن تجر من تساؤلات وان تطرح من علامات استفهام ،وماذا عسى يكون حالنا لو أننا نفضنا عن عقولنا وعن ءاليات إدراكنا وحواسنا ما علق بها من غبار من اجل التقاط الآيات التي تمر بنا في كل لحظة ونحن عنها معرضون؟ما مقدار الأفكار الإبداعية التي يمكن أن نخرج بها لنؤسس لنظريات جديدة في العلوم الطبيعية وغيرها مثل ما فعل نيوتن وارخميدس و..؟ ما مقدار الأوقات التي يمكن أن نوفرها عوض أن تضيع سدى في نقاشات تافهة وسفسطات لا جدوى من ورائها غير قتل الوقت وإثارة الحزازات والصراعات؟ ما قيمة ما درسنا طيلة سنوات إذا لم يكن الهدف منه البناء عليه من اجل أن نشق طريقنا بأنفسنا ونضيف إضافات جديدة نسترجع من خلالها انجازات أجدادنا ونواكب بها مستجدات عصرنا ؟ غير أن ما أكاد أجزم به هنا هو أن العائق وراء عدم نهج هذا الطريق من طرف من من المفترض فيهم أن يتساءلوا حول الظواهر والأحداث من طلبة واساتدة ومهندسين ليس هو العقل الخرافي أو التفكير اللاعقلي فهذا في اعتقادي المتواضع لم يعد يحكم الطبقة المثقفة الواعية التي نتحدث عنها بحكم أنها تلقت تكوينا علميا لايسمح لها بقبول التفسير الخرافي الأسطوري. فما هي إذا المعوقات المسئولة عن إعراضنا عن الآيات الكونية التي تمر بنا؟ وحسب تحليلي المتواضع فمن هذه المعوقات ما هو ذاتي شخصي ومنها ما هو موضوعي مجتمعي.ولعل أبرزها ما يلي: طبيعة التعليم وسياساته المعتمدة لا يهمني في هذه النقطة الحديث عن أزمة التعليم في مغربنا الحبيب فهدا نقاش أخر لا يسمح به المقال ولا يتسع له ،وإنما سأركز على ميزة أساسية أو بالأحرى سلبية أساسية من سلبيات نظامنا التعليمي التي ستساعدنا في فهم ما نحن بصدد مناقشته.وللإشارة فقد صنف التعليم ببلادنا وللأسف الشديد -في التقرير الأخير الذي صدر عن البنك الدولي - في المرتبة الثالثة لكن عكسيا ضمن الدول الأربعة عشر المعنية . بحيث لم يتقدم سوى على جيبوتي واليمن والعراق وهي دول ليس لها ما للمغرب من استقرار امني ووحدة مجتمعية و غير ذالك. هده السلبية تتجلى في منهجية التدريس وفي القيم التي تشرب للناشئة منذ سنوات التمدرس الأولى إلى التخرج الجامعي أو المعاهدي. هذه المنهجية تعتمد على الحشو والتلقين عوضا عن النقد والتحليل. كما يتم تكريس قيمتي التقليد والتبعية- وهما قيمتان سلبيتان- عوضا عن قيمتي الأصالة والإبداع وهما قيمتان ضروريتان لمن ينشد التقدم والرقي. سياسة الدولة ومشروعها الغائب أو المغيب للنهوض بالبلد: إذا ما نظرنا إلى دول هدا العالم المعقد وجدنا أن كل الدول التي تحترم نفسها لها مشاريع كبرى تسعى لتحقيقها وفرضها وتكون هده المشاريع بمثابة المحفز والدافع لحكومات تلك الدول وشعوبها قصد إيجاد موطئ قدم لها وفرض هيمنتها وسياساتها وفي نفس الوقت تجعل هده المشاريع كل فئات وقطاعات الشعب تسعى للمساهمة في هدا المشروع بغرض إنجاحه:الكل يشتغل من موقعه يبحث ويكد بغية الوصول إلى الهدف الواحد وكل ذالك بانسجام وتناغم تامين. والأمثلة كثيرة لا مجال لسردها: مشروع الإسلام الحضاري لدولة ماليزيا، مشروع امتلاك الطاقة النووية لإيران... أما إذا ما رجعنا إلى بلدنا العزيز فلا مشاريع لدينا ولا أفكارا يعيش الشعب من أجلها ويشحن قواه وطاقاته من اجل ترجمتها على ارض الواقع. حيث الحكومة والنظام في واد والشعب وأولاده في واد أخر. السخرية: لازالت العديد من المقولات الجاهزة والأمثلة الشعبية تعشش داخل عقول بعض الطلبة وتحول بينهم وبين إطلاق طاقاتهم وقدراتهم في ميدان تخصصهم.حيث نجد مثلا بعض الفاشلين يسخرون ممن يختار أن يكون من المجتهدين والحائزين على المراتب الأولى وينعتونه "بالحرَاف" كما يرددون "اللي بغى ينجح العام طويل"و"هدوك الناس -أي أوروبا- فاتونا ومشاو بعيد،مايمكنش توصلهم"...كلها مقولات جاهزة يرمى بها كل من أراد أو حاول أن يستخدم عقله ويستقل بذاته وقليلون أولئك اللذين يسلمون من هذه النظرات المحبطة. قصور الهمم: لا غرو أن نجد الإسلام يحث على طلب العلى وبلوغ القمم وان لا يرضى المؤمن الحق بالدونية والقليل وإنما يطلب العلا في كل أموره، حيث قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم"إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" ويقول أيضا "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى". فالهمم العالية هي التي يعول عليها لإحداث أي تغيير وإبداع كل جديد.وما قيمة السنوات التي يقضيها الطالب ساهرا الليالي بعيدا عن أهله وحيدا في غرفته إذا كان الهدف ففقط الحصول على وظيفة أو عمل ثم بعد ذالك ينسى رسالته ووظيفته الأصلية المتمثلة في الاستمرار في اكتساب المعرفة وتحيينها والأهم من ذالك إنتاجها وصناعتها. وأخيرا فلعل الانشغال بإصلاح وتقويم العائق الأخير من معيقات التقاط الآيات التي تمر بنا ونحن عنها معرضون يكون هو بداية الطريق لاستدراك ما يمكن تداركه، لكن دون أن ننسى دور الدولة في استرجاع مكانة الجامعة وإصلاح نظام التعليم، ولا يمكن أن يتم ذالك إلا بفتح نقاش وحوار مجتمعي من اجل الخروج بمشروع وطني تتحد وراءه كل الطاقات والمكونات. *مهندس تخصص الرياضيات والهندسة المعلوماتية [email protected]