24 سنة و 9 أشهر و26 يوما، هي المدة التي قضَاها الجندي عْدِّي عْليلوش داخل السجون الجزائرية كأسير حرب. عاد ذات ليلة إلى قريته بعدما تم إطلاق سراحه تحت رعاية الصّليب الأحمر الدولي. وجد زوجته قد تزوجت غيره، وصارت جدّة. وجد النقود المتداولة في البلد قد تغيرت، وأثمنة المواد قد تضاعفت أربع مرات، والناس غير الناس. أسير عانى الويلات رفقة زملائه دفاعا عن الصّحراء المغربية، وكثير منهم قضى نحبه داخل سجون البوليساريو.. في هذه الزاوية نسرد في حلقات خلال هذا الشهر الفضيل سيرة هذا الرجل، ومعاناته في السجون التي قضى بها ربع قرن. (7) لا يبكي الرجل إلا لأمر جَلل، فيما قد تبكي المرأة كُلما رغبت في ذلك، لكن شتان بين رؤية امرأة تبكي ورجل يذرف الدمع. رؤية رجل يبكي أقسى على المرء من رؤية الموت عيانا. شعور لا يُوصف، تمنيت وقتها أن أكون قد متُّ، وكنت نسيا منسيا على أشاهد دموعه تتدحرج على خدّه الضامر كطفل. كان ذلك يوم 26 أبريل عام ستة وسبعين. ريح صرصر عاتية لم تجد ما تقتلعه في هذا المكان سوى ما تبقّى من الرحمة القليلة في قلوب السجّانين والحرّاس. دامت هذه الرياح المزمجرة ثلاثة أيام بِلَياليها، فخاف الحُراس أن يهرب الأسرى، خاصة الموريتانيين الذين يعرفون الصحراء ومفازاتها بشكل جيد، فضاعفوا الصّراخ والتعذيب بالضرب والنهش بسكاكين "الكلاش" المثبتة على مقدمة البنادق. وجدت محمد الوجدي يبكي كطفل فقد شيئا يحبه. كان سائقا لشاحنة. رجل مدني تم أسره في الزاك أيضا. وسِيقَ مع الأسرى لقدره المحتوم. آثار الكدمات على وجه وما ظهر من جسده والدموع تنزل لتختفي في لحيته. غاظني المنظر، وحاولتُ أن أُواسيه: لا تبكِ يا مُحمّد. نحنُ رجال والرجال لا يبكون. هذا قَدَرُنا جميعا. أنت مدنيٌّ لم يتم تعذيبك كما عُذِّبنا نحن العسكريون. قرأت عليه بعض الآيات الداعية إلى الصّبر والرّضى بالقدر مما تعلمته، فانفعل وهو ما يزال يُكفكف دمعته: اضحك عليّ بتلك الآيات يا عَدّي! فأنت لم تُعذّب كما عُذّبتُ، لم تُهَن كما أُهِنتُ وما عانيت الذي عانيته وما أزال. ندمت لأني حاورته من أولها، يجدُرُ بي أن أتجنب النظر في مقلتيه المنفوختين وأدعه يبكي لوحده، فلعل الماء المالح يلفظ معه ما يُثقل قلبه، لكنه عزّ عليَّ: يا محمد! لقد رأيتَ كيف حكموا عليَّ بالموتِ وقرروا أن يسلبوا مني الحياة، وكأنهم من نفخ فيّ الروح. وشاهدتني أخطُو نحو حتفي مُطمئنا أن الموت سوف يخلّصني من هذه الفترة البين بين التي أعيشها، وجاءت إرادة الله التي فوق إرادتنا جميعا وكُتب لي عمر جديد، وتقول بأني أضحك عليك. يا مُحمّد عَزَّ عَلَيّ أن أرى الدمع يُبلّل لحيتك التي غزاها الشيب وأنا مثلك لا أملك لك خلاصا، وأردت أن أواسيك لعل الله يجعل لنا مخرجا. اغرَورَقت عيناي بالدمع فتركته لوحده.. فالرّجال لا يبكون، على الأقل جمَاعةً! في الليل استلقيت في مكاني أناجي الله في سِرّي إلى أن غفوت، فجأة شعرت برجل نَقي لا يشبه الأسرى ولا الحُراس. أبيض اللباس نَظيفَهُ. يجثو على رُكبته جهة رأسي وقد لمس كثفي لأستيقظ. كنت نائما على جنبي الأيمن، فتحت عيني ورأيته دون أن أحفظ ملامح وجهه في الظلام، فقال لي بصوت خافت مسموع: ستغادر هذا المكان يوم 18. كَرَّرَ هذه العبارة مرتين، فسألتُه: 18 في هذا الشهر أم الشهر المُقبِل؟ الشهر المقبل، أما هذا الشهر فقد بلغ ال27 هذا اليوم. استيقظت من نومي، فلم أجد الرجل الجاثي على رُكبتيه. نظرتُ حولي فلم أجد غير الأسرى الذين يغرقون في أحلام السراح والحرية ومعانقة الأهل والأحبة. لم أنم بعد ذلك. مكثت أفكر في هذه الرؤيا، خاصة وأني لا أعرف كم الشهر اليوم. رتابة الأيام وتشابهها جعلني لا أعرف الأيام ولا الشهور، والكثير من الأحداث كنت أُقَدّرها باستحضار بعض الأحداث الكبيرة والمهمة التي عرفت تاريخ حدُوثها. انتظرت رفيقي مصطفى تعيسات أن يستيقظ. أسير من صفرو ينام إلى جواري وكان أعلم منّي وأدرك للأيام والشهور. لما استيقظ بادرته بالسؤال: شحال اليوم في الشهر؟ 27. عْلاش؟ ترَدّدت في إخباره، لكن الفرح ولو المؤقت منعني من الاحتفاظ بالسرّ الغريب، فحكيت له الرّؤيا، وبقينا على أمل وصول ال18 من الشهر المقبل. بعد يومين أو ثلاثة زارنا رجل يختلف في طريقة كلامه ومعاملته عن الحُرّاس الذين ألفنا تواجدهم معنا. قيل لنا بعدها أنه رئيس الهلال الأحمر الجزائري. لم يأت إلى المعتقل، بل نحن الذين ذهبنا لمقابلته على بعد ثلاث كيلومترات من هذا المحبس كما أمرونا أن نفعل. وجدناه هناك في سيارته، سلّم عليه الحراس الذين كانوا يُرافقوننا. أمرونا أن نشكل نصف دائرتين كي يتمكن من مُخاطبتنا فنسمعه جميعا. وقف قبالة القوسين اللذين شَكّلناهما ثم طلب من الحُراس أن يأتوه بمن يتكلم الفرنسية ويفهمها. أرشدوه إلى الأسير الوحيد الذي يتكلم تلك اللغة. اسمه ميمون عزّة، لكنه مُسجل في سجلات البوليساريو باسم عزيز حميد عندما تم أسره. ظل بهذا الاسم المستعار إلى أن تُوفي رحمه الله في إحدى مستشفيات الجزائر سنة 1984. نُودي عليه ورافقه بعيدا عن أعين حراس البوليساريو فأراه المعتقل وأماكن العمل الشاق، وأخبره بكل ما نُريد أن يعلمه، تفاصيل عن الأكل السيئ والماء المتعفن وغياب التطبيب والدواء وقلة النوم والعمل المستمر بالليل والنهار. أخبره أيضا عن الأسير الذي مات مؤخرا بسبب الجوع والقمل. بحسب ما نقله إلينا رفيقنا ميمون عزة بعد ذلك اللقاء، فإن رئيس الهلال أخبره أن بومديان يرسل نفقة الأسرى تشمل كل احتياجاتهم من أكل ولباس ودواء ولوازم النظافة ودُخان. أخبره أنه سينقل هذه الصّورة القاتمة لبومديان شخصيا ووعده أن الأمور سوف تتغيّر في غضون أُسبوعين. شاهدناه يغادر المكان دون أن يُحيي مسئولي البوليساريو الذين يشرفون علينا، عرفنا أنه غاضب منهم وسمعنا ذلك بعدها. أعادونا إلى المحبس كما يُعيد الراعي قطيع معز. طلب منا عويمير رئيس المعتقل أن نُشكل دائرة كبيرة. دخل إلى الحلقة التي شكّلناها وهو يجرّ الأسير عزيز حميد من لحيته الشقراء. وبدأ يتوعّد: ماذا قلت له؟ بماذا أخبَرتَه أيها الحمار؟ هاهو قد رحَل وتركك هنا بين يدَيّ لأفعل بك ما أُريد. بإمكاني أن أقتلك الآن كما لو دُست على حشرة ولن يُحاسبني أحد. لكني لن أقتلك، سأتركك هنا لأقتلك كل دقيقة لتموت مرات عديدة، أما هؤلاء المعاتيه فإن رصاصة واحد سوف تكفيهم، سأجعلهم صفا واحد وأضغط على الزناد لأوفّر خبزهم اليومي. كان يشهر مسدّسه الشخصي. مرة يصوبه إلى حميد الذي يمسكه من لحيته، ومرة يصوبه تجاه واحد من الأسرى المتحلّقين حوله. بدأ يصرخ إلى أن بدأ لعابه يتطاير، لم يترك شتيمة إلا قالها، وفي الأخير خرج من الحلقة آمرا الحُرّاس ألاّ يتوقف العمل الشاق وأن يحرمونا من الأكل والشرب. بعد أيام قليلة زارنا وفد جزائري مكون من 4 أفراد، نُودي علينا من الأعمال التي كنا نزاولها وتم تسجيل معلوماتنا وأسئلة سبق أن أجبنا عنها ألف مرة، مع ذلك نُجيب عنها كلما سُئلنا متشبثين بكل أمل.